قررت وزارة المالية اعتبارًا من أول سبتمبر الجاري (2019) إلغاء التعامل بالدولار الجمركي على السلع المستوردة، واعتماد نظام سعر يومي يتوافق مع سعر الصرف الحر بالبنك المركزي. ومع صدور مثل تلك القرارات الاقتصادية دائمًا ما تُثار العديد من التساؤلات حول أسباب تلك القرارات وجدواها وتأثيرها على المواطن المصري. وبمتابعة القرارات الاقتصادية التي اتخذتها الدولة خلال السنوات القليلة الماضية، مثل: تحرير أسعار الصرف، وإعادة هيكلة الدعم، ثم تحرير الدولار الجمركي؛ يتبين سير الدولة بخطوات ثابتة نحو اقتصاديات السوق الحرة التي دائمًا ما كانت تعلنها الحكومات المتعاقبة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي؛ إلا أن الممارسات الفعلية طوال الحقبة الماضية كانت بعيدة عن السياسات المعلنة. وقد ترتب على ذلك مواجهة الاقتصاد المصري العديد من الاختلالات، كان أهمها ارتفاع فاتورة الدعم، وما ترتب على ذلك من ارتفاع عجز الموازنة، ومن ثم ارتفاع حجم الدين، فضلًا عن تدخل الدولة في الإنتاج والتسعير، وما نتج عنه من تشويه لآليات السوق وهروب للاستثمارات، فجاءت ارتفاعات معدل النمو مدفوعةً بارتفاع معدل الاستهلاك وليس الاستثمار أو صافي الصادرات، مما مثّل عبئًا على احتياطي النقد الأجنبي، وأثار الشكوك حول مدى استدامة هذا النمو.
ومع اتّباع الدولة برنامجَ الإصلاح الاقتصادي بدءًا من النصف الثاني من عام 2016، انتهجت الدولة خطة شاملة متوازنة لتصحيح الاختلالات الاقتصادية بالتوازي مع تطبيق برامج للحماية الاجتماعية لتخفيف عبء الإصلاح الاقتصادي على المواطنين من محدودي الدخل. فاتخذت قرار تحرير سعر الصرف في نوفمبر 2016، وإعادة هيكلة الدعم ليصل إلى مستحقيه فقط، فضلًا عن التشريعات الاقتصادية الداعمة والمشجعة للاستثمار. وكان لهذه القرارات تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية التي لم تغفل عنها الدولة؛ فأصدرت قرارات برفع أسعار الفائدة للسيطرة على معدلات التضخم، وكذلك تطبيق سعر ثابت للدولار على السلع المستوردة والرسوم الجمركية فيما يُعرف بالدولار الجمركي.
ويُمثّل سعر الدولار الجمركي السعر الذي كانت تحدده وزارة المالية للدولار أمام الجنيه شهريًّا، وتستخدمه في تحديد قيمة الرسوم الجمركية مقومة بالعملة الوطنية والمفروضة على السلع المستوردة من الخارج، نظير الإفراج عن هذه السلع.
وطبقًا لقانون الجمارك فإن الأصل العام المقرر هو التعامل بسعر الدولار المعلن يوميًّا من البنك المركزي، ومن هنا جاءت أهمية التساؤلات التالية: لماذا تم تطبيق الدولار الجمركي؟ ولماذا تم إلغاؤه مرة أخرى؟ وما أثر ذلك على أسعار السلع المستوردة وعلى الوضع الاقتصادي العام للدولة؟.
ويحاول هذا المقال توضيح دوافع تطبيق سعر الدولار الجمركي في أكتوبر 2017، وعرض تطور الأوضاع الاقتصادية منذ تطبيق القرار حتى إلغائه في سبتمبر الجاري للوقوف على دوافع هذا الإلغاء، وأخيرًا رصد جوانب التأثير المختلفة على الوضع الاقتصادي العام للدولة.
لماذا تم اللجوء إلى آلية الدولار الجمركي؟
شهدت الأوضاع الاقتصادية للدولة حالة من الاضطراب خلال الفترة من 2011 حتى نهاية 2016 تمثلت في انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وتراجع مستوى التشغيل، وانخفاض معدلات الاستثمار، وتراجع الصادرات، وانخفاض إيرادات السياحة، مما كان له تأثيره السلبي على رصيد العملات الأجنبية المتاحة في الجهاز المصرفي؛ فظهرت السوق الموازية لتوفير هذه العملات بسعر أعلى من السعر الرسمي. ومع اتّساع الفجوة بين السعر الرسمي للعملة الأجنبية -غير المتوفرة بالجهاز المصرفي- والسعر الموازي للعملة الأجنبية المتوفرة خارج الجهاز المصرفي، اتخذ البنك المركزي قرارًا بتحرير سعر الصرف في نوفمبر 2016. ويوضح الشكل رقم (1) ارتفاع قيمة الدولار خلال الفترة التالية مباشرة لاتخاذ قرار التعويم، وحتى أوائل عام 2017، واستمرار سعر الصرف مرتفعًا نسبيًّا قبل أن يستقر في مايو 2019.
ومن المعروف أنه عادة ما يصاحب قرار تحرير سعر الصرف عدم استقرار أسعار العملات الأجنبية وارتفاع معدلات التضخم، الأمر الذي يتطلب اتخاذ بعض الإجراءات المصاحبة لقرار التعويم للحد من الآثار السلبية المتوقعة على مجمل الوضع الاقتصادي. وكان من بين أهم تلك القرارات رفع أسعار الفائدة، وتطبيق سعر ثابت للدولار الجمركي.
وكان تطبيق “الدولار الجمركي” بمثابة أحد الإجراءات التحوطية لمحاصرة تداعيات ارتفاع أسعار صرف الدولار الذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع أسعار الخامات والسلع الوسيطة المستوردة بعد تحرير سعر الصرف، ما يكون له تأثيره على أسعار السلع النهائية في السوق المحلية، خاصة في ظل ارتفاع معدلات التضخم التي وصلت إلى 33% في يوليو 2017. في هذا السياق، استهدف الدولار الجمركي تحقيق استقرار للعملة وثبات سعرها بالنسبة للسلع المستوردة. وعلى الرغم من أن تثبيت سعر الدولار الجمركي لا يعكس القيمة الحقيقية للدولار وفقًا للعرض والطلب، إلا أنه كان قرارًا ضروريًّا لاعتبارات اجتماعية، وتجنبًا لارتفاع معدل التضخم بوتيرة أسرع.
واستمر تطبيق الدولار الجمركي على السلع المستوردة حتى ديسمبر 2018، عندما بدأ الاتجاه النزولي لأسعار الصرف، والتحسن النسبي في قيمة العملة المحلية، فتم تطبيق الدولار الجمركي على السلع الاستراتيجية والسلع الوسيطة والمواد الخام فقط، وتقييم باقي السلع جمركيًّا بسعر الدولار الحر. وتعتبر تلك الخطوة بمثابة إلغاء تدريجي للدولار الجمركي وتصحيح جزئي لآليات التسعير وفقًا لقوى العرض والطلب، فضلًا عن مراعاة الجوانب الاجتماعية باستمرار دعم السلع الأساسية المستوردة.
تطور الأوضاع الاقتصادية خلال عام 2019
في مطلع عام 2019، شهدت المؤشرات الاقتصادية تحسنًا ملحوظًا، حيث وصل معدل التضخم الأساسي إلى 8.5% في يناير 2019، ثم انخفض إلى 5.9% في يوليو 2019. واستقرت نسبيًّا أسعار الصرف، إذ تراوحت أسعار الدولار بين 17.5 و16.55 جنيهًا خلال الشهور الثمانية الأولى من عام 2019، في حين كان يطبق سعر ثابت للدولار الجمركي على السلع الاستراتيجية مقدرًا بـ16 جنيهًا للدولار، مما يعكس نجاح القرارات الاقتصادية في اتجاه أسعار الدولار إلى الاستقرار وتحسن قيمة الجنيه المصري، فتقارب سعر السوق مع السعر الثابت المدعم بفارق لا يتعدى 60 قرشًا تقريبًا. ومع استمرار تحسن الأوضاع الاقتصادية قد تنخفض قيمة الدولار الحر عن الدولار الجمركي فيصبح تثبيت سعر الدولار الجمركي عبئًا على المستوردين، ويؤدي لارتفاع أسعار السلع الأساسية، فيفقد الهدف المرجو منه، فضلًا عن تأثيره على تشويه آليات السوق الحرة. في ضوء هذا الاحتمال الكبير، كان من الطبيعي أن تقوم وزارة المالية في الأول من شهر سبتمبر الجاري (2019) بإلغاء آلية الدولار الجمركي وعودة العمل بسعر الدولار الحر، مع زوال الظروف الاستثنائية التي فرضت تلك الآلية. وقد بلغ سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي في البنك المركزي 16.499 جنيهًا للشراء، و16.62 جنيهًا للبيع في أول يوم بعد إلغاء العمل بالدولار الجمركي.
التأثير المتوقّع لإلغاء الدولار الجمركي
مع اتخاذ قرار وزارة المالية إلغاء آلية الدولار الجمركي وتطبيق السعر الحر للدولار، سوف يؤثر ذلك بالتأكيد على أسعار الواردات، سواء بالارتفاع أو الانخفاض وفقًا لسعر الدولار الحر. ومع تغير أسعار الواردات تتغير تكلفة المنتج النهائي؛ إلا أنه في ظل عدم وجود فرق كبير بين سعر الدولار الحر وسعر الدولار الجمركي الذي لم يتجاوز 60 قرشًا، فضلًا عن انخفاض الرسوم الجمركية على بعض السلع الأساسية وإعفاء البعض الآخر؛ فلم يكن هناك تأثير كبير على أسعار السلع. من جهة ثانية، كان تطبيق الدولار الجمركي يتم على السلع الأساسية فقط، ولذا فإن ذلك القرار لن يؤثر على العديد من القطاعات التي تتعامل بالسعر الحر منذ يناير 2019. أضف إلى ذلك أن ما يشهده الاقتصاد العالمي حاليًّا من تباطؤ سوف ينعكس على أسعار السلع المستوردة بالانخفاض.
ومن جهةٍ ثالثة، هناك العديد من الآثار الإيجابية الأخرى لوقف العمل بآلية الدولار الجمركي، إذ يساعد ذلك على ترشيد النفقات بالموازنة العامة للدولة، وإصلاح منظومة الدعم، خاصةً أن هناك بعض السلع الأساسية التي كان يتم دعمها مرتين (دعم للسلع ذاتها، ودعم للدولار الجمركي)، لكن بعد إلغاء آلية الدولار الجمركي أصبح الدعم يُقدم مرة واحدة دون تحمل الموازنة ذلك الفارق بين سعر الدولار الحر وبين سعر الدولار الجمركي، ما سيقلل العجز بالموازنة العامة للدولة خلال الفترة المقبلة، ويسمح بتوجيه الموارد لقطاعات أخرى وفقًا للخطة الاستراتيجية للدولة.
وختامًا لما سبق، يمكن القول إن إلغاء الدولار الجمركي والعمل بالسعر الحر للدولار يُعتبر عودة للأصل المطبق وفقًا لقانون الجمارك، وخطوة تصحيحية في اتجاه تطبيق آليات السوق الحرة. فإذا كان من الجائز اتخاذ بعض الإجراءات التي من شأنها التأثير على آليات السوق الحر، فإنه من الواجب العمل على إصلاح الاختلالات الداعية لاتخاذ مثل تلك القرارات، ومن الحكمة إلغاؤها تدريجيًّا والسير قدمًا في اتجاه برنامج الإصلاح الاقتصادي للدولة وفقًا لسياساتها المعلنة.