دفعت الخلافات التركية-الأمريكية حول العديد من القضايا إلى تطور تقارب تركي-روسي، وأصبحت صفقة S400 التركية مع روسيا أحد أبرز مظاهر هذا الخلاف، بالنظر إلى المخاوف حول البنية الدفاعية لحلف شمال الناتو، إضافة إلى توتر العلاقات بين الناتو وروسيا. وقد ألقت هذه التوترات بظلالها على صفقة F35 الأمريكية التي قد تخسرها تركيا في ظل رفضها مقايضتها بصفقة S400 الروسية، وذلك على الرغم من كونها عضوًا مشاركًا ضمن كارتل أوروبي-أمريكي يقوم بتصنيعها، وهو ما يعني أنها قد تخسر أيضًا تلك الميزة النسبية، بما يشكله ذلك من تداعيات سياسية وأمنية.
لكن في المقابل، تُصر أنقرة على إبرام صفقة S400 الروسية في إطار تعزيز علاقاتها مع موسكو في إطار التحالف القائم بينهما في سوريا. كما تراهن تركيا أيضًا على اعتبار روسيا “البديل الآمن” في سياق الدروس المستفادة من تجربة محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 في ظل شكوك نظام “أردوغان” إزاء موقف الولايات المتحدة من الانقلاب. أضف إلى ذلك أن التقارب الروسي-التركي يحقق مصالح أنقرة في سوريا، لا سيما تجاه الأكراد، في ظل الدعم الأمريكي المباشر لهم، في حين تعتبر أنقرة أن هذا المسار يشكل تهديدًا لمصالحها هناك، ما يزيد من تعقيد العلاقة بين أنقرة وواشنطن.
دوافع تركيا لحيازة منظومة S-400
وهكذا، يسعى الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، لإتمام صفقة S400 رغم التحديات التي ستفرضها على علاقات بلاده مع الناتو ومع الولايات المتحدة على وجه الخصوص. ويأتي هذا الاتجاه مدفوعًا باعتبارات سياسية واقتصادية وجدها “أردوغان” تحمل وزنًا نسبيًّا أكبر من اعتبارات التنسيق مع الحلفاء التقليديين، ويمكن طرحها فيما يلي:
1- البحث عن بديل أقل تكلفة وأكثر تشاركية: اتجهت تركيا للبحث عن منظومة دفاعية جديدة تُمكّنها من تحقيق ردع فاعل للتهديدات الجوية المُحتملة، وجاء أول المنظومات المُرشحة للتعاقد عليها منظومة “باتريوت” الأمريكية، لكن لم تكن الصيغة التعاقدية محل اتفاق بين الطرفين، حيث رفضت واشنطن إطلاع تركيا على الخصائص التقنية للمنظومة، فضلًا عن الإشكاليات المتعلقة بتوريد قطع الغيار والتي أثارها أكثر من مسئول تركي. هذه الأمور وغيرها دفعت أنقرة للبحث عن بدائل أخرى، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” في حوار مع “الأناضول” بقوله: “إن تركيا اعترضت على مواعيد التسليم، وإن إمكانية الإنتاج المشترك أو نقل التكنولوجيا أمر مهم أيضًا لأنقرة”. ومن ثم، اتجهت تركيا إلى التعاقد على منظومة S400 الروسية، لا سيما وأن موسكو لبت مطالبها المتعلقة بقيمة الصفقة، وموعد التسليم، والإنتاج المشترك، ونقل التكنولوجيا. واللافت في هذا السياق أن روسيا أعلنت أنها سوف تُسلّم المنظومة لتركيا مبكرًا عن موعدها بعام، حيث ستتسلّمها العام الجاري 2019، في مؤشر على أن موسكو ترى مصلحة في الإسراع في تنفيذ الصفقة مع أنقرة.
2- البحث عن حليف آمن: مثَّلت محاولة الانقلاب الأخير في يوليو 2018 ناقوس إنذار لأردوغان؛ حيث وجد تلك المحاولة تنطوي على نية الحلفاء التقليديين للتخلي عن دعمه؛ حيث شملت محاولة الانقلاب تكتيكات تحمل شبهة تنسيق من واشنطن وبعض دول الناتو وفقًا لروايات مسئولين ووسائل إعلام تركية موالية للنظام. كما اتجهت تركيا للتنسيق مع روسيا وإيران، خاصة مع إعلان “ترامب” الانسحاب من سوريا، إذ سعت لملء الفراغ الأمريكي، لكن مع تراجع الرئيس الأمريكي تدريجيًّا، واستئناف دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في إطار معركة القضاء على داعش؛ بدد هذا الأمل لدى أنقرة، وهو ما أكد لتركيا مرة ثانية أن الولايات المتحدة ليست الحليف الآمن.
3- مواكبة نمط التسلح الإقليمي: تسعى تركيا للوصول إلى ذات القدرات التي وصل إليها عدد من دول الإقليم في مجال التسلح، حيث تعاقدت عدة دول في المنطقة على المنظومة ذاتها. كما أن وجود المنظومة في سوريا قد يُشكل عاملًا آخر لاقتناء المنظومة من جانب تركيا، وربما يُفسر ذلك مساعي تركيا إلى الحصول على منظومتي “باتريوت” الأمريكية وS400 الروسية في إطار انتشار المنظومتين في المنطقة على نطاق واسع، لكن ليس من المعتقد أن تلبي الولايات المتحدة تلك الرغبة لتركيا.
موقف الناتو
من الملاحظ عدم اعتراض حلف الناتو على امتلاك تركيا منظومة S400، بل إنه أيد الموقف التركي الساعي إلى امتلاك “باتريوت”، وذلك وفقًا لما نقلته وكالة “الأناضول” عن أمين عام الحلف “ينس ستولتنبرج” بأن الحلفاء في الناتو يتضامنون مع تركيا في هذه الفترة التي تتسم بتحديات أمنية صعبة، واعتباره قرار شراء منظومة S400 الروسية قرارًا خاصًّا بتركيا. كما أعرب الحلف عن ارتياحه وتشجيعه للمفاوضات بشأن مشروع الصفقة المحتملة بين تركيا والولايات المتحدة بخصوص “باتريوت”.
وفي هذا السياق، ثمة تقديرات تشير إلى أن الموقف الدبلوماسي للأمين العام لحلف الناتو يُشير إلى احتمالين قد يشكلان سيناريوهَيْ تعامل الحلف مع الموقف الحالي بشأن المنظومة الروسية، وهما:
الأول: التقليل من المخاوف الفنية من تداعيات تشغيل تركيا للمنظومة، حيث لا يزال الوقت مبكرًا للحديث عن ذلك. لكن تظل هناك آثار غير مباشرة للمنظومة، منها -على سبيل المثال- أن المنظومة تُتيح فرصة لروسيا لاستكشاف التفاصيل الفنية الخاصة بمنظومات الحلف وإحداثيات الحركة الدفاعية له، وهو ما اتضح أيضًا من حديث “ستولتنبرج” بأن دفاعات الحلف تغطي الأجواء التركية، وبالتالي فإن موافقة الحلف حاليًّا على الصفقة قد تعني ترحيل الأزمة للأمام لكنها لا تعني أنها قد انتهت. كما أن الحلف قد يراهن على أن هناك أطرافًا أخرى قد تشكل عامل ضغط على تركيا ما قد يجعلها تعيد حساباتها مرة أخرى. فمن المؤكد أنه في حال إصرار أنقرة على تشغيل المنظومة ستكون هناك صعوبة -إن لم تكن استحالة- في حصولها على F35.
الثاني: أن الناتو قد لا يكون قلقًا من الصفقة ولا من تداعياتها الفنية، وأن هناك رؤية للتعامل مع تلك التداعيات، خاصة أن تركيا ليست أول عضو في الحلف يحصل على منظومة دفاع روسية، فاليونان على سبيل المثال لديها S300، وقد يقصد الحلف بذلك تفويت الفرصة على روسيا لاستثمار الموقف في معاركها مع الحلف.
في المحصلة الأخيرة، من المتصور أن قيادة حلف الناتو توازن بين احتياج الحلف لتركيا باعتبارها ثاني أكبر أعضائه من حيث حجم المشاركة بعد الولايات المتحدة، وبين متطلبات تركيا وفقًا لمصالحها الخاصة واعتبارات السيادة حتى وإن كانت تلك المتطلبات تتعارض مع الحلف. أضف إلى ذلك أن الحلف يراهن على عامل الوقت، وهو ما ألمح إليه الأمين العام في حديثه مع وكالة “الأناضول” بالإشارة إلى أن الحلف يتضامن مع تركيا في المرحلة الحالية التي تواجه فيها تحديات أمنية عديدة، ودورها في مكافحة الإرهاب في سوريا، وهو ما يعني مرحليًّا أيضًا أن الحلف يستفيد من هذا الدور الذي تلعبه تركيا في سوريا في الحد من تنظيمات الإرهاب. وفي المقابل، فإن تركيا توظف المسارين؛ مسار الناتو ومسار التحالف مع روسيا، وتستغل هذا المسار الأخير في إدارة نمط علاقاتها الحالية مع الولايات المتحدة.
إجمالًا، يمكن القول إن أزمة S400 انحسرت لتصبح أزمة ثنائية بين أنقرة وواشنطن.