رئيس الاتحاد الدولى لمصنّعى الأدوية «توماس كوينى»، خرج مؤخراً فى لقاء مع التليفزيون الرسمى السويسرى الناطق بالفرنسية (RTS)، ليكشف بعضاً من الغموض الذى يشوب ساحة صناعة الدواء، فيما ينتظر الملايين حول العالم الخبر السعيد بالوصول إلى دواء أو لقاح، يمكن الاستشفاء بواسطته من فيروس كورونا (COVID – 19). رئيس الاتحاد ذكر بوضوح «إن الشركات عانت قبلاً من مصير مماثل، خلال مرض المتلازمة التنفسية الحادة (SARS) منذ قرابة 17 عاماً مضت»، حيث ذهبت بعض الشركات إلى تطوير اللقاحات استعداداً للدخول فى مرحلة «الاختبارات السريرية»، لتداهمها وقت الوصول لتلك المرحلة ما قبل الأخيرة، وأنه لم يكن هناك المزيد من المرضى لأن الفيروس لم يعد موجوداً.
هناك أيضاً ما تسميه شركات الأدوية بـ«القصة التحذيرية» الخاصة بشركة الأدوية البريطانية «جلاكسو سميث كلاين»، والتى كثيراً ما يجرى الاستشهاد بها. عندما قامت الشركة بالاستثمار فى ثلاثة لقاحات لعدة سنوات، وقت انتشار فيروس «إيبولا» ما بين عامى 2013 و2014. لكن التقدم إلى المرحلة النهائية للتجارب السريرية توقف، بسبب انخفاض معدلات الإصابة بالمرض، على الرغم من تفشيه الواسع فى الكونغو الديمقراطية حينها، وترشيحه بأنه سيظل ممتداً لعقود وسينتقل إلى مناطق أبعد من نطاقه الجغرافى. على خلفية تضاؤل عدد المصابين بالفيروس مع نهاية عام 2014، استسلمت الشركة فى نهاية المطاف، لتقوم بتسليم اللقاحات المرشحة للوقاية من الفيروس إلى «معهد سابين» للقاحات غير الربحى فى واشنطن. وكما ظلت تلك القصة ناقوساً تحذيرياً لجميع الشركات الكبرى، من الإقدام على تدفق استثمارى قد تدفع هى ثمنه لاحقاً على نحو مفاجئ، بالمقارنة مع آخر أكثر أماناً وهو المرتبط بالأمراض المزمنة مثل السرطان والسكر. فى ذات الوقت وصمت تلك الشركات بأنها لا تحدد أولوياتها مما يتوافق مع أولويات الصحة العامة فى كثير من الأحيان، بل تبقى أسيرة المساهمين الذين لن يرحموا مجالس إداراتها، إذا ما تراجعت ربحية أسهمهم بسبب فشل استثماراتها.
تلك المحاذير جعلت الشركات الكبرى أكثر حذراً قبل الاندفاع، بإلقاء ثقلها العلمى والاستثمارى لتطوير علاجات أو لقاحات جديدة لفيروس كورونا (COVID – 19)، حيث اكتفت حتى الآن شركات مثل «نوفارتيس» و«سانوفى» و«جونسون آند جونسون»، بالتبرع بتقديم الإمدادات والمشورة للجهات الصحية العالمية، كما وعدت مؤخراً فيما وصفته بالخطوة المتقدمة «على حذر»، بالقيام بمراجعة منتجاتها الحالية لمعرفة ما إذا كان يمكن إعادة توظيفها، للاستخدام فى حالة تفشى فيروس كورونا. منها على سبيل المثال، ما أعلنت عنه لجنة الصحة الوطنية الصينية فى النصف الأول من مارس، أنه جرى إضافة عقار (ACTEMRA) المستخدم لعلاج التهاب المفاصل الروماتويدى، الذى طورته شركة «روش» لإدخاله كعلاج تجريبى محتمل للمرضى الذين يشتد بهم المرض. الشركة ذاتها تمكنت خلال أيام من الاستحواذ على اهتمام العالم فى هذا المضمار، بعد أن نجحت فى الحصول على موافقة منظمة الصحة فى الولايات المتحدة، على اعتماد جهاز اختبار جديد للكشف عن فيروس كورونا، من شأنه أن يسرع بـ«عشرة أضعاف» القدرة على اختبار المرضى، ويساعد على حل عقبة كبيرة أمام الجهود الأمريكية لاحتواء الفيروس.
الجهاز الجديد بالنسخة 8800 سيكون قادراً على اختبار 4128 مريضاً فى اليوم، كما يمكن للنسخة 6800 اختبار ما يصل إلى 1440 حالة، مما جعل الجهاز يجد طريقه إلى البلدان الأوروبية التى تقبل علامة (CE) للأجهزة الطبية. وليقفز ذلك بسهم شركة «روش» بنسبة 11% فى يوم واحد ببورصة زيوريخ، وهى أكبر زيادة تحدث خلال اليوم منذ عام 1997. بعدها خرج «توماس شينيكر» رئيس وحدة التشخيص فى شركة صناعة الأدوية السويسرية، ليقول فى مقابلة صحفية: «نجحنا فى أن نزيد سرعة الفحص». حيث توفر أجهزة (كوباس 6800/8800) نتائج الاختبار فى غضون أربع ساعات، وهذا هو الجيل الثالث من أجهزة الاختبار، وأول جهاز اختبار متاح تجارياً يحصل على موافقة طارئة من قِبل إدارة الأغذية والدواء الأمريكية، بعدما تعرضت الولايات المتحدة والكثير من دول أوروبا للانتقاد، بسبب بطء أدوات الفحص مما سمح للفيروس بالانتشار. حيث تعتبر شركة «روش» نجاحها الكبير متمثلاً فى إمكانية تقديم ملايين الاختبارات شهرياً، كما لا يمكن إغفال توصلها لتلك النتيجة بالتفوق على الأجيال السابقة من أنظمة الفحص بعشر مرات أسرع، فى هذا التوقيت الحاسم من مرحلة التفشى، مما دفعها لأن ترفض التعليق على التسعير الباهظ لهذه الاختبارات.
رغم أهمية هذا الإنجاز، فإن تطوير اللقاح ضد فيروس كورونا يتطلب التزامات مالية كبيرة فى فترة زمنية محدودة للغاية، لذلك تظل شركات الأدوية تنظر إلى الاندفاع لتطوير اللقاح بأنه ينطوى على مخاطر عديدة، لا تقف عند حد الاحتمالات الضئيلة لتحقيق عائد مالى يتناسب مع استثماراتها، إنما هناك أيضاً المسئولية القانونية التى تمثل هاجساً لتلك الشركات، مما دفع العديد من المستثمرين للمراهنة على الشركات الأصغر حجماً، والأكثر استعداداً لخوض غمار المخاطرة، فعندما أعلنت شركة (Vaxart) غير المعروفة كثيراً أنها بصدد البحث عن لقاح محتمل لمرض (COVID – 19)، قفز على الفور سهمها بنسبة 106٫1%. كما تبعتها شركات أخرى تعمل فى مجال التكنولوجيا الحيوية مثل (Novovax) و(Inovio)، شهدت هى الأخرى ارتفاعاً كبيراً فى قيمة أسهمها، بمجرد إعلانها عن خطط لإجراء تجارب واختبارات سريرية.
هذا يجعل المشهد حتى الآن لا يتجاوز ألاعيب المضاربة من دون أرض علمية واستثمارية صلبة، على الأقل لإشعال بعض من الضوء فى نهاية النفق الذى دخلته البلدان كافة، وتتعرض خلاله إلى ضربات الإصابة وتنامى العدوى، فضلاً عن التسارع فى أرقام الوفيات التى لا ترحم. لذلك يؤكد علماء هذا المجال الدوائى أنه فى ظل حالة التباطؤ من قِبل الشركات الكبرى، ففى أحسن الاحتمالات قد يستغرق الأمر ما يتراوح بين عام و18 شهراً قبل أن يتاح أى لقاح للفيروس، للتداول التجارى بالأسواق يكون لديه القدرة على إحداث الفارق الذى ينتظره الملايين من البشر!
نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ 31 مارس 2020
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
