مازال الحديث مستمرا حول عالم ما بعد كورونا. جدل كبير انطلق حول مستقبل العولمة، وشكل النظام العالمي، ومستقبل العلاقات الأمريكية ـ الصينية…إلخ. بالتوازى مع هذه التحولات المتوقعة على مستوى ما يمكن وصفه بالقضايا الكلية للنظام العالمي، هناك تحولات أخرى لا يمكن استبعادها على مستوى وحدات هذا النظام، أو ما يمكن وصفه بالقضايا الجزئية، كما يجرى التمييز فى أدبيات علم الاقتصاد. فى مقدمة هذه القضايا طبيعة دور الدولة. لقد شهد هذا الدور تطورات ضخمة خلال العقود الأخيرة، وتطورت بشأنه مدارس فكرية عدة. كان أبرز هذه المدارس ما عُرف بالنيوليبرالية. جوهر هذه المدرسة هو الدعوة لتحجيم الدور الاقتصادى للدولة إلى أقصى درجة ممكنة، مقابل توسيع دور القطاع الخاص إلى أقصى درجة ممكنة أيضا. ودفعت النيوليبرالية بحجج ومقولات عدة للدفاع عن موقفها. استقرار أفكار النيوليبرالية أدى إلى تراجع ضخم فى الدور الاقتصادى للدولة، خاصة فى أوروبا.
بالتوازى مع هذا التوجه، شهدت القارة الأوروبية خلال السنوات الأخيرة تحجيما لدور الدولة كمؤسسة، وذلك على خلفية صعود التيارات الشعبوية، التى عبرت عن تراجع الإيمان بالأحزاب والمؤسسات السياسية التاريخية. هذا التحول لم يكن مقصورا على الدول الأوروبية، حيث يمكن تصنيف صعود الرئيس الأمريكى دونالد ترامب نفسه كجزء من هذه الظاهرة، استنادا إلى مجيئه من خارج المؤسسات الأمريكية من ناحية، ومواقفه الصدامية مع بعض هذه المؤسسات، من ناحية أخري.
هذه التوجهات أسهمت فى تراجع دور الدولة بشكل كبير على المستوى الاقتصادي، واختلال العلاقة بين الدولة والمجتمع على المستوى السياسي، لمصلحة المجتمع حتى وإن كان غير منظم. وجاءت أزمة كورونا المستجد لتكشف عن بعض الحقائق المهمة. فمن ناحية، أكدت الأزمة أن مواجهة فاعلة لها لا يمكن أن تتم بمعزل عن دور قوى للدولة. هذا الدور لم ينصرف فقط، من الناحية الاقتصادية، إلى الدور التنظيمى الذى لا يوجد خلاف على ضرورته، لكنه انصرف أيضا إلى الاعتماد على الانفاق الحكومي، وليس الإنفاق الخاص، كمصدر، وكشرط، رئيسى للحفاظ على مستوى معقول من الطلب والاستهلاك المحليين على نحو يضمن استمرار النشاط الاقتصادي، ويحول دون مستويات خطيرة من الركود. بل قد ينصرف أيضا إلى شكل من أشكال الدور الإنتاجى المباشر للدولة؛ ففى ظل الحاجة الملحة خلال فترة الأزمة إلى بعض المستلزمات الطبية (مستلزمات التطهير، أجهزة التنفس الصناعي، بناء المستشفيات) قد تجد الدولة نفسها مضطرة لدخول هذا المجال. وحتى بعد انتهاء الأزمة، فإن دورا أكبر للدولة سيظل ضروريا لإعادة هيكلة اقتصاداتها الوطنية بما يضمن إعادة بناء القطاعات الصحية، وأنظمة التأمين الصحى والرعاية الصحية، ومؤسسات البحث والتطوير..إلخ. وتزداد هذه الاحتمالات إذا أخذنا فى الاعتبار أن أزمة كورونا المستجد قد لا تكون الأخيرة وفق العديد من الدراسات الإيكولوجية والبيولوجية. بمعنى آخر، لقد كشفت الأزمة عن حقيقة مفادها أن الإيغال فى الاعتماد على القطاع الخاص أدى إلى تهميش قطاعات اقتصادية مهمة، ونال من مدى جاهزية الدولة فى التعامل مع هذه الأزمات غير النمطية.
لكن التطور الأهم الذى ارتبط بأزمة كورونا المستجد« تمثل فى إحياء الأدوار غير العسكرية للجيوش للمساهمة فى مواجهة هذه الأزمة غير النمطية. يستوى فى ذلك الدولة الشيوعية الأهم (الصين)، مع الولايات المتحدة، والقوى الأوروبية، والدول الناشئة. لقد تعرضت الأدوار غير العسكرية للجيوش فى الدول الناشئة لهجوم شديد وغير موضوعى من جانب الغرب بشكل عام، ومن جانب ما عُرف بالمؤسسات الحقوقية والدفاعية، بشكل خاص. وتم فى هذا السياق إهمال الأدوار التنموية للجيوش فى حالات ومراحل تاريخية مهمة. وهكذا، جاءت الأزمة الراهنة لتؤكد أهمية هذه الأدوار، سواء بالنظر لعوامل تتعلق بقيم وتقاليد عمل الجيوش، أو بالنظر لما تمتلكه من خبرات طبية وإنشائية وخدمية مهمة. صحيح أن اللحظة الراهنة قد تُعد لحظة استثنائية فى حياة المجتمعات الإنسانية، ومن ثم قد يذهب البعض إلى أنه لا يجوز القياس عليها وتعميمها بعد الأزمة، لكن هذا لا ينفى حقيقة أكدتها الأزمة الراهنة مفادها أن الجيوش تظل هى أحد الملاذات الأساسية للمجتمعات والدولة وقت الأزمات الكبري. وإذا كانت استثنائية اللحظة الراهنة قد أجازت اللجوء للجيوش فإن استثنائية مراحل التحول السياسى والاقتصادى فى الدول الناشئة تجيز هى الأخرى هذا اللجوء.
وأخيرا، لا يمكن الوقوف على الأبعاد الأخرى لهذا الجدل المتوقع دون الأخذ فى الاعتبار انعكاسات أزمة كورونا المستجد على جاذبية ومشروعية النموذج السياسى الصيني؛ فلطالما تعرض هذا النموذج لنقد شديد على خلفية جمعه بين نظام رأسمالى وملامح اقتصاد سوق على المستوى الاقتصادي، ونظام حزب واحد مركزى شمولى على المستوى السياسي. واقع الأمر، إن طبيعة النظام الصيني، بسماته السابقة، ربما كانت من بين العوامل المهمة التى كفلت له مواجهة سريعة وفاعلة ل أزمة كورونا المستجد، وسرعة تعافى أعلي، وبتكاليف اقتصادية وبشرية ستكون أقل يقينا فى حالة الاقتصادات الرأسمالية الديمقراطية. هذه المقارنة ليس هدفها الدعوة إلى النكوص عن الديمقراطية واقتصاد السوق، ولكن التأكيد على حقيقتين استنتاجين مهمين؛ أولاهما، أن الأنظمة السياسية الديمقراطية أو النيوليبرالية ليست شرطا ضروريا أو كافيا للتعامل مع هذا النمط من الأزمات غير التقليدية. ثانيتهما، أن الخبرة الصينية بشكل عام، وفى إطار مقارن مع الخبرات الغربية، ستفتح المجال أمام كسر الاستقطاب النظرى القائم، فى اتجاه الانتصار للدولة، وتعظيم مساحة التوافق المشترك حولها، بما يتطلبه ذلك من مراجعة العديد من المفاهيم الغربية.
*نقلا عن صحيفة “الأهرام” نشر بتاريخ ١٢ أبريل ٢٠٢٠.