أثارت المشاهد التي نقلتها شاشات التلفزيون خلال ليالي رمضان للمسجد الحرام في مكة المكرمة، وهو خالٍ من المصلين، انتباه ملايين المسلمين الذين اعتادوا مشاهدة جموع المصلين وهم يؤدون صلاة التراويح في هذه الليالي المباركة من كل عام في ربوع الكعبة المشرفة. ولم يكن الوضع مختلفًا عن ذلك في باحات المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة، ولا في المسجد الأقصى المبارك في القدس، ثالث الحرمين الشريفين، حيث غاب أيضًا المؤمنون الذين اعتادوا القدوم هناك للصلاة في رحاب هذه المساجد طوال ليالي رمضان.
وفي عموم العالم الإسلامي، وجهت السلطات بغلق أبواب المساجد تماشيًا مع إجراءات الغلق الاحترازية التي أمرت بها لمواجهة انتشار فيروس كورونا الذي أودى بحياة مئات الآلاف من البشر، ومن بينهم عشرات الآلاف من المسلمين.
وفي الوقت الذي كان فيه ملايين المسلمين في أنحاء العالم يبدءون شهر الصيام المبارك، فإن مشاهد المساجد الثلاثة الأكثر قدسية لديهم وهي فارغة من المصلين رسمت صورة قاتمة في واحدة من أكثر المناسبات لديهم روحانية وتعبدًا. فللمرة الأولى منذ زمن طويل، تُلقي أزمة عامة كبرى بظلالها على العالم الإسلامي بكل ما يمكن أن تخلفه وراءها من تبعات سياسية واقتصادية واجتماعية من المتوقع أيضًا أن تترك آثارًا معنوية على مناحي الحياة الدينية المتنوعة المتشابكة من عبادات وطقوس وشعائر.
ومنذ بدء انتشار الوباء القاتل والمجتمعات الإسلامية تسعى إلى احتواء التبعات الصحية والاقتصادية، مثلما تجتهد بوسائل عديدة للتعامل مع الآثار الاجتماعية والثقافية للإجراءات التي اضطرت إلى فرضها لمواجهة الأزمة، مثل العزلة والإغلاق والتباعد الاجتماعي.
قرارات غير مسبوقة في تاريخ العالم الإسلامي
قبيل رمضان فرضت العديد من الدول الإسلامية قيودًا على أداء صلاة الجماعة في المساجد، وهي -تقليديًّا- أماكن يراها الكثير من المسلمين الملتزمين فضاءات ذات قدسية تغرز في نفوسهم إحساسًا بالوجود والقرب من الله عزل وجل. كما أنها أماكن تجمعات لجمهور المؤمنين، وتعبير عن وحدتهم.
إضافة إلى ذلك فإن الكثير من الدول الإسلامية علقت صلاة الجمعة التي تعتبر -دينيًّا- إحدى العبادات الرئيسية التي جاء ذكرها في القرآن نصًّا، والتي لا بد من أن تؤدَّى في رحاب المساجد جماعيًّا، بالإضافة إلى الخطبة التوجيهية التي ترافقها عادةً من قبل إمام الجماعة.
وبينما اعتُبر قرار تعليق صلاة الجمعة على هذا المستوى الواسع في الدول الإسلامية ظاهرة غير مسبوقة؛ فإن قرارات إيقاف صلاة الجماعة في المساجد مثّلت تحديًا كبيرًا بالنسبة للكثير من المسلمين الملتزمين، سواء لوجوبيتها عندهم، أو ربما لرمزيتها الدينية والاجتماعية.
لكن ما لم يكن ربما أقل أهمية هو قرار السلطات السعودية بوقف إصدار تأشيرات العمرة والزيارة إلى الأراضي المقدسة، والتي عادة ما تأتي ذروتها أيام شهر رمضان مع وصول ملايين المسلمين من كل بقاع الأرض إلى مكة والمدينة.
وربما لن يقتصر الأمر على هذا، إذ تفكر السلطات السعودية الآن في إمكانية إلغاء موسم الحج لهذا العام الذي يصادف شهر يوليو القادم، إذا استمرت أزمة كورونا على حالها، وهو ما سيكون أمرًا نادرًا لم يسبق حدوثه في الحقب الحديثة والماضية.
إن ما يلفت الأنظار هو أن الأوامر بإغلاق المسجد الحرام في مكة والمسجد النبوي في المدينة جاء من أعلى سلطة سياسية في المملكة، وهو الملك “سلمان بن عبدالعزيز” الذي يحمل أيضًا لقب خادم الحرمين الشريفين، والذي برر قراره ذلك بأنه جاء متسقًا مع مبادئ الشريعة الإسلامية بضرورة الحفاظ على النفس البشرية.
وفي الواقع فإن أغلب القرارات التي اتُّخذت بوقف صلاة الجماعة أو إغلاق المساجد مؤقتًا جاءت من طرف الحكومات، في حين أبدى علماء متشددون وجماعات أصولية اعتراضات على تلك القرارات بطرق شتى، وبعضها دعوات إلى التظاهر كما في باكستان وإندونيسيا.
إن هذا التباين الحاد بين مواقف حكومية تسعى لملاءمة قراراتها الاجتماعية مع سياسات إدارة أزمة كورونا وتبعاتها الصحية والاقتصادية، وتلك التي تدعو لها الجماعات المتشددة؛ تكشف عن توقعات هائلة لنتائج وتبعات بعيدة المدى سيخلفها الوباء في مرحلة مشبعة بالآمال عن التجديد الديني.
لكن ما يثير الاهتمام أن هذه الخطوات لاقت دعمًا من بعض أهم الرموز والقيادات الدينية في العالم الإسلامي، ربما لأنها تتماشى مع المناهج الوسطية التي يتبعونها. ففي مصر، أبدى الأزهر الشريف -الذي يمثل المرجعية للعالم الإسلامي السني- دعمًا لقرارات الإغلاق المؤقت للمساجد، ووقف صلاة الجماعة والتراويح أيضًا، اتساقًا مع فقه الواقع والضرورة، ومبدأ حفظ الأنفس وحماية الأرواح.
أما في العراق، فقد أصدر “آية الله علي السيستاني” الذي يُعتبر على نطاق واسع أحد كبار المراجع الشيعية في العالم، فتوى أباح فيها لأتباعه تأجيل الصوم إذا ما تيقن أحدهم من أن مخاطر صحية قد تتعرض لها حياته بسبب الوباء، وهي فتوى ثورية في الاجتهاد الإسلامي بكل المقاييس والاعتبارات.
الوباء سيؤثر على تقاليد دينية واجتماعية
في مجتمعات مثل الدول الإسلامية التي غالبًا ما تمتاز بوجود عوائل ممتدة فيها، وعلاقات قبلية وثيقة، ويعيش أغلب سكانها في مدن وتجمعات سكانية كثيفة العدد؛ فإن تقاليد الترابط الاجتماعي هي إحدى السمات التي تكاد تصل إلى حد القداسة، نظرًا لما تلقاه من مباركة من التعاليم السماوية المنزلة في القرآن، وفي السنة النبوية.
لذا فإن السؤال بشأن ما إذا كانت الطريقة التي تم بها التعامل مع أزمة كورونا تشكل ابتعادًا عن الثقافة التقليدية السائدة أكثر مما جرى في أزمات سابقة مرت بها المجتمعات الإسلامية سيبقى أمرًا مرهونًا بالنتائج التي ستتحقق، لكنها ستكون بالتأكيد عنصرًا مهمًّا في اختبار رغبة وقدرة هذه المجتمعات على مواجهة التحديات الاجتماعية والثقافية التي جاء بها الوباء.
إن ما هو مهم في سياق الخطوات المذكورة هو التبعات الدينية للوباء، والذي من المتوقع أن يخلف وراءه ما سيغير من السرديات المتداولة والمرتبطة بطريقة عمل العقل الجمعي الإسلامي، ووجهات النظر والسلوكيات العامة التي اعتاد عليها جمهور المسلمين، ومقتضيات حياتهم العقلية والروحية، إضافة إلى تفاعلات اللاعبين في ما أصبح يُدعى بالسوق الديني.
الأزمة تؤكد انكشاف التيارات الدينية الرافضة للتجديد
لكن في الوقت الذي قد يرى البعض فيه أن كل هذه الخطوات إنما تأتي استجابة لتحدي كورونا، فإن نظرة شاملة ستبين أنها مواقف جوهرية بشأن قضايا أساسية تمس الحياة، وتخص السياسات العامة للمسلمين تتخذها الحكومات إزاء مواقف متشددة تعبر عنها مؤسسات أصولية أو جماعات الإسلام السياسي المتزمتة.
ففي العديد من البلدان الإسلامية، تقوم هذه الجماعات والمؤسسات بالمناكفة من خلال التقليل من شأن المخاطر التي يشكلها الوباء على حياة الناس، أو أنها تقوم ببث الخرافات ونظريات المؤامرة، في محاولة لإحباط جهود السلطات الرسمية في مكافحة الوباء، وتأليب الناس البسطاء عليها لغايات وأهداف سياسية.
من هذا المنطلق، فإن الصلابة التي أبدتها بعض الحكومات الإسلامية في مسعى لتغيير بعض السلوكيات الاجتماعية في مجتمعاتها المرتبطة بممارسة الطقوس الدينية من أجل وقف انتشار الفيروس؛ لا يمكن اعتبارها إلا لحظة فارقة في حياة هذه المجتمعات الإسلامية وتوجهاتها الاجتماعية المستقبلية.
بمعنى أشمل، فإن هذه الإجراءات الجريئة تضع سابقة مهمة، كونها تقوم بتغيير بوصلة النقاش بشأن الموضوعات المطروحة على المجتمع، وتوجيهها مرة أخرى باتجاه قضية تجديد الخطاب الديني أو الإصلاح الديني الموضوعة على أجندة النقاش العام منذ سنين وعقود دون حسم.
ففي زماننا ومنذ سبعينيات القرن الماضي، وخاصة بعد الثورة الإسلامية في إيران، وبدء الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفيتي؛ فإن المطالبات بإصلاح الخطاب الإسلامي تتجدد، كما أنها تنامت في السنوات الأخيرة مع صعود تنظيمات القاعدة وداعش الإرهابية، والمخاوف من انتشار الإرهاب، والسعي إلى تعزيز مناعة المجتمعات الإسلامية ضد التطرف والغلو.
وغداة ما عُرف بالربيع العربي، فإن النقاش احتدم بشأن الخطاب الإسلامي في ضوء محاولات الإسلام السياسي ركوب الموجة، والسعي لاختراق مؤسسات الدولة والهياكل الاجتماعية من خلال استغلال الآليات الانتخابية والمنافسة الديمقراطية، بهدف الهيمنة على الفضاء الديني وتحقيق غايات سياسية ذات صلة بها.
غير أن نظرة فاحصة حول نتائج هذه الظاهرة، وأيضًا مآلات الانتفاضات الذي ضربت بلدانًا عربية عديدة خلال الفترة الماضية؛ ستوضح أن هناك انخفاضًا نوعيًّا واضحًا في منحنى مسيرة الاتجاهات الإسلاموية وانحسارًا في دور جماعات الإسلام السياسي في عموم المنطقة العربية.
وكما هو الأمر مع كل تحدٍّ فإن وباء كورونا قد وفر أيضًا فرصًا للمجتمعات الإسلامية في إعادة تقييم الثقافة التواصلية التقليدية السائدة في مسعى لمواصلة معارك التجديد والتقدم والحداثة والإحياء الإسلامي المتعثرة.
وبشكلٍ ما، يُمكن النظر إلى إجراءات الإغلاق والحظر التي تمت في إطار أجندة مستقبلية تضعها المجتمعات الإسلامية، كونها إجراءات عملية جريئة وفعالة تتجاوز الخطابات والدعوات لكي تضع لبنات والتزامات أكثر تحديدًا لإقرار أجندة الإصلاح الديني المطلوبة منذ زمن.
ففي إجراء لافت، قررت المملكة العربية السعودية هذا الأسبوع إلغاء عقوبة الجلد التي طالما تعرضت لانتقادات ليس فقط من قبل الهيئات الحقوقية الدولية، بل وأيضًا من أفراد وجماعات معتدلة وتنويرية داخل المجتمعات الإسلامية، باعتبارها لم تعد تتلاءم مع مقتضيات العصر ومتطلبات الإصلاح والتجديد في الفكر الديني.
إن أحد الأسباب التي دفعت إلى اتخاذ هذه الخطوات غير المسبوقة تجاه قضايا كانت دائمًا تُبحث في إطار المقدس، هو المخاوف الناتجة عن إمكانية أن تقوم جماعات الإسلام السياسي بترويج أجندتها من خلال استغلال المخاوف وحالة عدم اليقين الناشئة عن أزمة كورونا. ففي الباكستان -مثلًا- قامت الجماعات المتشددة بمظاهرات للضغط على الحكومة لوقف قرارات إغلاق المساجد، وأدى نجاحها في ذلك إلى زيادة الشكوك في قدرة الحكومة على مواصلة مواجهة أزمة كورونا بالعزم والفعالية المطلوبتين، ناهيك طبعًا عن إمكانية تحقيق اختراق في مواجهة الجماعات المتطرفة الناشطة هناك.
ولو عدنا لعقود طويلة للوراء فإن من بين الشواهد على رغبة وتخطيط الحركات الإسلامية في استغلال الأزمات هو ما قامت به بعد هزيمة الأنظمة العربية في الحرب مع إسرائيل في عام 1967 في السعي للتمكين من أجل الدفع بأجنداتها والوصول إلى أهدافها، حتى ولو على حساب المصلحة الوطنية لدولها وبلدانها.
إن قرارات وقف صلاة الجماعة، وتعليق الحج، وإبطال عقوبة الجلد؛ لم تكن ممكنة قبل سنوات، أو حتى شهور. ومن المؤكد أنها ستفتح الآفاق أمام تغيرات اجتماعية وثقافية كبرى. هذه التغيرات، سواء جاءت بشكل مباشر أو غير مباشر، ستؤدي إلى إصلاحات في المجال الديني بطرق سوف تتضح ملامحها فيما بعد.
لكن، وبلا أدنى شك، فإن الرحابة التي استُقبلت بها هذه الإجراءات بشكل عام تُعزز من القناعة والإيمان بأن مجتمعات منفتحة وحرة ستضع العالم الإسلامي على طريق النهضة والتحديث المرجوة، كما سوف تؤدي إلى تغير هذه المجتمعات إلى الأفضل، ربما إلى الأبد.