جاء الاحتفال بعيد العمال هذا العام في ظل ظروف عمل غاية في الصعوبة والتعقيد، وذلك نظرا للآثار السلبية المترتبة على انتشار فيروس كورونا وما تبعها من إجراءات وتدابير تحمل العمال العبء الأكبر منها. وتشير منظمة العمل الدولية في أحدث تقديراتها إلى أن ما يقرب من نصف القوى العاملة العالمية، والبالغة نحو 3.3 مليار عامل، معرضة لخطر فقدان وظائفها، كنتيجة أساسية للإغلاق الكلي أو الجزئي لمعظم اقتصادات العالم. ومما زاد من تعقيد المشكلة انها جاءت في ظل أوضاع عمالية سيئة نظرًا لهشاشة أسواق العمل العالمية، واستحواذ القطاع غير الرسمي على معظم الوظائف، وازدياد الطلب على العمالة المؤقتة، وارتفاع معدلات البطالة، كنتيجة للتطورات التكنولوجية والتغيرات الديموغرافية وغيرهما، التي أدت إلى السرعة في تغير وتنوع المهارات المطلوبة لسوق العمل. وهكذا تحول شعار العمل اللائق، بمعنى توافر فرصة عمل مناسبة وبدخل ملائم وتتيح الاستقرار في العمل وسط ظروف عمل آمنة وحماية اجتماعية، الذي كانت تسعي إلى تحقيقه منظمة العمل الدولية، إلى البحث عن الأمان الوظيفي.
ولم يكن الاقتصاد المصري بمعزل عن هذه التغيرات، فعلي الرغم من انخفاض معدل البطالة من 13% عام 2016 إلى نحو 8% عام 2019، فإن هذا المؤشر يخفي العديد من الأمور المهمة التي ينبغي التوقف عندها ودراستها، وعلي رأسها تراجع معدل التشغيل في المجتمع من 45% عام 2010 إلى 39% عام 2019 وهي مسالة مهمة واساسية خاصة أن 44% من القوي البشرية (السكان من سن 6 إلى 65 سنة ماعدا غير القادرين عن العمل بصفة دائمة مثل المصاب بعجز كلي) هم داخل قوة العمل والباقي خارجها (أما للتفرغ للأعمال المنزلية أو للدراسة أو للتقاعد) مع ملاحظة أن هذه النسبة ترتفع كثيرا بالنسبة للإناث حيث يوجد83% منهن خارج قوة العمل، وهو ما يشير إلى انسحاب المرأة من سوق العمل، أما لأن ظروف العمل لم تصبح مواتية لها أو عدم توافر ظروف آمنة للعمل أو لأسباب اجتماعية تتعلق بأنماط القيم السائدة في المجتمع لكل ما سبق ارتفعت نسبة الإعالة بشدة.
كما أدت هذه التطورات إلى ازدياد دور القطاع غير الرسمي والعمالة غير المنتظمة في التشغيل، وهنا يجب التفرقة بينهما، إذ تشير د. ناهد العشري، وزيرة القوي العاملة السابقة، إلى أن العمالة غير المنتظمة كما حددها قانون العمل هم عمال الزراعة الموسمية، وعمال البحر، وعمال المناجم والمحاجر، وأعمال المقاولات، والتي أدرجت على سبيل المثال، وليس على سبيل الحصر، بمعنى أن للحكومة أن تضيف لها فئات أخرى ترى ضرورة إدراجها. ومن الناحية المؤسسية هناك العمالة في القطاع الرسمي والقطاع غير الرسمي، وأيضا داخل المنشآت وخارجها، فغير الرسمي وفقا للتعداد الاقتصادي هو الاعمال الخدمية والإنتاجية التي تمارس داخل المنشآت بشكل غير رسمي دون أي تسجيل أو الحصول على تراخيص أو اتخاذ أي شكل قانوني، وبالتالي فهي تختلف عن العمالة الهامشية مثل العاملين في الورش الصغيرة أو الأعمال اليدوية والحرفية أو الذين ليس لهم مكان عمل إلا بالشارع كالباعة الجائلين وعمال التراحيل والحرفيين وعمال اليومية ومنادي السيارات وخدم المنازل وموزعي الصحف.
وهنا يشير التوزيع القطاعي للمشتغلين إلى أن هناك تراجعا في نسبة العمالة بالقطاع الحكومي وقطاع الاعمال العام والقطاع العام مقابل ارتفاع نصيب القطاع الخاص المنظم داخل المنشآت الذي استحوذ على 33% (منهم نحو 69% في القطاع الرسمي و31% في القطاع غير الرسمي) وذلك وفقا للتعداد الاقتصادي الأخير. أما القطاع الخاص خارج المنشآت فقد استحوذ على 45%من العاملين، وبالتالي مازالت هذه القطاعات تشكل النسبة الغالبة بسوق العمل ككل وترتفع هذه النسبة بشدة داخل الريف المصري. وتكمن خطورة هذا الوضع إلى انها بدأت تستوعب قطاعات جديدة من الشباب خاصة خريجي الجامعات والمعاهد العليا ليضافوا إلى قوته الأساسية المتمثلة في المنتقلين من الريف المصري إلى المدن أو العائدين من الخارج. ويرتبط بهذه المسألة مدى الاستقرار في سوق العمل، اذ تشير الإحصاءات إلى أن من يعملون عملا دائما هبط إلى 73% عام 2019. وفي المقابل ارتفعت نسبة العاملين في عمل متقطع إلى 20%، أما العاملون في عمل مؤقت فقد ارتفع إلى 6%.
وتكمن خطورة هذا الوضع ليس فقط في عدم الاستقرار الداخلي لسوق العمل ولكن لصعوبة وضع أو رسم سياسات محددة من جانب متخذي القرار، ناهيك عن صعوبة تنظيم الأوضاع بداخل السوق مع ما يتلاءم واحتياجات المجتمع. فضلا عن الظروف السيئة التي يعمل فيها هؤلاء. وخير دليل على ذلك أنه تصل نسبة العاملين بعقد قانوني إلى 41% من إجمالي العاملين بأجر، ونسبة المشتركين بالتأمينات الاجتماعية إلى 45%. وكذلك تبلغ نسبة المشتركين في التأمين الصحي نحو 39 %.
ومن الأمور المهمة هنا ارتفاع نسبة البطالة للإناث إلى نحو 22% مقارنة بـ 5% للذكور أي انها ثلاثة اضعاف النسبة على الصعيد القومي يضاف إلى ذلك ارتفاع معدل البطالة بين الشباب (15 -29 سنة) إلى نحو 17% وترتفع هذه النسبة للإناث إلى 43% وهي نسب مرتفعة للغاية، هذا فضلا عن ارتفاع نسبة المتعطلين الذين سبق لهم العمل لتصل إلى 31% من اجمالي المتعطلين وهنا يثار السؤال المنطقي إذا كانت معدلات البطالة تنخفض فكيف ترتفع معدلات البطالة لهؤلاء؟ ونعتقد أن الإجابة هنا تكمن في كون سوق العمل أصبحت تعتمد على عمالة جديدة بدلا من العمالة القائمة وذلك توفيرا للنفقات.
كل هذه المؤشرات وغيرها توضح لنا بما لا يدع مجالا للشك مدي خطورة وتداعيات الأوضاع الحالية في سوق العمل، خاصة أن آثارها لا تتوقف على الصعيد الاقتصادي (باعتبارها تمثل هدرا فادحا للطاقات البشرية المتاحة) فحسب، بل تمتد بآثارها لتشمل كل جوانب المجتمع سياسيا واجتماعيا وحضاريا وتحتاج إلى تبني سياسة جديدة للتشغيل، خاصة بعد أن أصبحت مدة صلاحية المهارات المطلوبة قصيرة الاجل مما يتطلب احداث تغيرات جوهرية في التعليم والتدريب والاستثمار في راس المال البشري، الصحة والتعليم والمعارف.
نقلا عن جريدة الأهرام، 6 مايو 2020