يمر النظام السياسي التركي بلحظة تحول حرجة للغاية، بدأت ملامحها تتشكل شيئًا فشيئًا خلال الأشهر الأخيرة بإطلاق عملية حل جديدة مع حزب العُمال الكردستاني، وتكثيف اعتقالات رؤساء البلديات التابعية لحزب المساواة الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب الجمهوري، واعتقال أوميت أوزداغ رئيس حزب النصر القومي، وملاحقة جمعية توصياد لرجال الأعمال، لتتوج تلك الممارسات باعتقال رئيس بلدية إسطنبول ومرشح حزب الشعب الجمهوري المحتمل للانتخابات الرئاسية المقبلة أكرم إمام أوغلو يوم 19 مارس الجاري على خلفية اتهامه بالفساد ودعم الإرهاب، وعقب يوم من قرار جامعة إسطنبول بسحب شهادته الجامعية التي حصل عليها قبل 31 عامًا بدعوى مخالفتها للوائح مجلس التعليم العالي وشروط القبول الجامعي؛ الأمر الذي أحدث موجة احتجاجية واسعة لم تشهدها البلاد منذ احتجاجات غيزي 2013؛ حيث خرج عشرات الآلاف إلى الشوارع في معظم الولايات للتنديد باعتقال إمام أوغلو، وينطوي هذا المشهد الذي وصفته بعض المواقع التركية بـ “الانقلاب المدني” على تحولات عميقة في الساحة السياسية التركية. وفي هذا السياق، تناقش الورقة معطيات البيئة المحلية والدولية المواتية التي حفزت قرار اعتقال إمام أوغلو في اللحظة الراهنة، والمستهدفات التي صيغ هذا القرار لخدمتها، وملامح المشهد السياسي التركي خلال المرحلة المقبلة.
اقتناص الفرصة
تضافرت مجموعة من معطيات البيئة المحلية والدولية جعلت من اللحظة الراهنة فرصة مواتية لإحداث تغييرات سياسية، ويُمكن استعراضها على النحو التالي:
• الاستجابة لتحولات المشهد الداخلي: تمتعت تركيا بمناخ سياسي ديمقراطي خلال العقد الأول من صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، صاحب ذلك إجراء انتخابات دورية اتسمت بدرجة عالية من النزاهة والشفافية واستطاع خلالها الحزب تصدر المشهد السياسي مرتكزًا على المنجزات الاقتصادية والاجتماعية ذات المعايير الأوروبية التي حققها مدفوعًا بطموحات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، غير أن احتجاجات حديقة غيزي ثم الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو 2016، بالتوازي مع تدهور الوضع الاقتصادي وتراجع جاذبية النموذج التركي إقليميًا ودوليًا على خلفية إخفاقات السياسة الخارجية وتعزيز بُعدها الأيديولوجي الذي أكسب أنقرة عزلة إقليمية قبلما تُعيد تعريف سياستها الخارجية على أسس براجماتية، أحدث تحولات على صعيد المشهد السياسي التركي الداخلي؛ حيث باتت الحكومة أكثر حساسية وأقل تسامحًا مع المعارضة بعدما فشل حزب العدالة والتنمية في الحصول على الأغلبية اللازمة لتشكيل حكومة بمفرده، وبات فوز أردوغان بالرئاسة يتحقق بهامش ضئيل، وتعالت الأصوات المنتقدة للتراجع الاقتصادي وتحميله المسئولية عنه، كما تلقى حزب العدالة والتنمية هزيمة غير مسبوقة خلال الانتخابات المحلية 2024، وحتى وإن لم تجد صدى على صعيد الانتخابات العامة فإنها تنطوي على رسائل وتحديات عديدة لحزب العدالة والتنمية.
أفضى هذا المشهد إلى تبني إجراءات أقل ديمقراطية شملت عمليات تصفية واسعة في القضاء والجيش والبيروقراطية، وتحويل النظام السياسي إلى نظام الرجل الواحد، وإضعاف المعارضة وتشتيتها، وتصفية الخصوم السياسيين، وإجراء مناورات سياسية تشمل التحالف مع خصوم سابقين (حزب الحركة القومية منذ عام 2017، والأكراد وحزب المساواة الشعبية والديمقراطية عام 2025)، والعمل على هندسة المعارضة لضمان مُعارضة مستأنسة يسهل السيطرة عليها، مع الحفاظ على الانتخابات كواجهة للديمقراطية، بينما تُرجح كافة المنافسة لصالح الحزب الحاكم، ويبدو أن الإدارة التركية عازمة على المضي قدمًا في عمليات إعادة تشكيل المشهد السياسي الداخلي وفقًا لتصوراتها.
ولهذا لا يُمكن النظر إلى قراري إلغاء الشهادة الجامعية لإمام أوغلو واعتقاله في قضيتين جنائيتين باعتبارهما ممارسة قضائية بحتة وإنما هي جزء من العملية السياسية؛ إذ لطالما دأب أردوغان على توظيف السلطة القضائية لملاحقة خصومة السياسيين خلال أوقات الانتخابات، وتُعد هذه الممارسة التي ترتكز على التحكم في نتائج الانتخابات من خلال تفعيل الجهاز الأيديولوجي والقسري للدولة بشكل مستمر وبطرق مختلفة وخاصة من خلال استخدام القضاء باعتباره الجهاز القسري الأكثر أهمية، بديلًا عن تأجيل أو إلغاء الانتخابات وبما يضمن إطالة عمر النظام/الحزب الحاكم.
ويُعزز الاعتقاد بالطابع السياسي للإجراءات المُتخذة ضد إمام أوغلو توقيتها قبل أربعة أيام فقط من إجراء الانتخابات التمهيدية لحزب الشعب الجمهوري بشأن انتخاب مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية المقبلة يوم 23 مارس الجاري، لا سيَّما أن الأربعة والعشرين ساعة اللاحقة لاعتقال رئيس بلدية إسطنبول شهدت الكشف عن عديد قضايا الفساد التي ارتكبت خلال فترات ممتدة على مدار سنوات؛ الأمر الذي يطرح استفهامات بشأن تأخر المحاسبة عليها حتى الآن. علاوة على أن قرار مجلس إدارة جامعة إسطنبول بسحب شهادته الجامعية تشوبه شبهة عدم قانونية بالنظر إلى أن المادة 15 من قانون التعليم العالي رقم 2547 تنص على أن مجلس إدارة الجامعة هو جهة معاونة لرئيس الجامعة في الشئون الإدارية، وليس له صلاحية اتخاذ مثل هكذا قرارات بشأن الشهادات، لكنه من اختصاص مجلس إدارة الكلية وحده، كما سبق لمجلس التعليم العالي أن حدد وقوع مسئولية المخالفات في التحويل بين الجامعات على عاتق الجامعة وليس الطالب ومن ثَمّ لا يُمكن إلغاء الشهادات بناءً عليها، كذلك قضت محكمة الاستئناف الدستورية عام 2023 بأنه لا يمكن إلغاء الشهادة بعد 60 يومًا، واللافت أيضًا أن إمام أوغلو حصل على درجة الماجستير وبالتأكيد تمت مراجعة سجلاته الدراسية حينها وإذا كانت غير صحيحة فلم يكن ليقبل في برنامج الماجستير.
• استغلال البيئة الدولية المواتية: ارتبطت الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أجراها حزب العدالة والتنمية خلال عقده الأول في السلطة بالحاجة إلى الاندماج في المنظومة الغربية من خلال عضوية الاتحاد الأوروبي، وتحوُّل هذا الحلم إلى أحد مصادر الشرعية الشعبية للحزب الحاكم، وبينما كان الاتحاد الأوروبي آنذاك في مرحلة قوة، فإنه يمر حاليًا بلحظة ضعف تاريخية وبات منشغل بالصراعات الداخلية والتهديد الروسي ولعله أحوج من أي وقت مضى إلى الاحتفاظ بالشراكة الاستراتيجية مع تركيا لمواجهة التحديات الأمنية التي تهدد أوروبا من جرّاء سياسة ترامب.
إذ تستغل أنقرة اضطراب العلاقات الأمريكية الأوروبية لزيادة نفوذها في الساحة الأوروبية وترسيخ مكانتها كقوة أوروبية، وتطرح نفسها كشريك رئيسي محتمل في إعادة هيكلة الأمن الأوروبي في وقت تسعى فيه القارة لتعزيز منظومتها الدفاعية الذاتية للتحوط حال قرر ترامب سحب مظلة الحماية الأمريكية عن أوروبا، بحيث فرضت الموضوعات الأمنية نفسها على أجندة الجانبين مقابل تراجع قضايا الديمقراطية وسيادة القانون، والتي يُرجح تجاهلها طالما بقيت مناقشة عضوية تركيا للاتحاد الأوروبي –بشكل جدي– خارج جدول الأعمال، وبينما تُلح أنقرة على هدفها الاستراتيجي بالعضوية، فإن السياق الدولي الراهن أثبت إمكانية بقائها شريكًا استراتيجيًا للقارة العجوز وإن بقيت خارج عضوية الاتحاد، ويعمل الأخير على تطوير شكل من أشكال الشراكة المميزة بديلًا عن العضوية، بما في ذلك الانضمام إلى اتحاد جمركي، والتعاون في مجالات الدفاع والانضمام إلى قوات حفظ سلام أوروبية تنتشر في أوكرانيا.
إضافة إلى ذلك، فإن وجود ترامب، الذي أبدى إعجابًا بشخصية أردوغان ووصفه بالزعيم القوي، في البيت الأبيض، منح أنقرة مساحة حركة أكبر لتشديد قبضتها داخليًا في ظل بيئة دولية مواتية، حيث لا يتبني ترامب أجندة سياسة خارجية قائمة على القيم ولا يُعير أهمية لقضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان في تحديد علاقات بلاده بالشركاء أو الحلفاء، بل إنه تبنى سياسة داخلية أخلت بنموذج الديمقراطية الأمريكي ذاته، ويُبدي إعجابًا بمنطق القوة عمومًا. ورغم استمرار القضايا الإشكالية، تسير العلاقات الثنائية في منحى إيجابي إذ أجرى أردوغان اتصالًا هاتفيًا بترامب قبل أيام ويبدو أنه حصل على تصديق أمريكي بتولي إدارة المشهد السوري برمته في ظل ورود أنباء بشأن احتمالية سحب القوات العسكرية الأمريكية من سوريا خلال المرحلة المقبلة، كما أنه يتطلع لزيارة البيت الأبيض خلال أبريل المقبل.
• الارتكان إلى نجاحات السياسة الخارجية: استطاعت أنقرة ترسيخ مكانتها على الساحتين الإقليمية والدولية؛ حيث أمنت نظامًا سياسيًا حليفًا في سوريا جعلها قوة إقليمية مهيمنة، وباتت شريكًا محتملًا للأمن الأوروبي في مرحلة ما بعد الناتو، وضامنًا مرشحًا للتسوية بين روسيا وأوكرانيا، وبالتوازي تمضي أجندة التسوية السياسية مع الأكراد قدمًا بما تحمله من انعكاسات إيجابية على الساحتين السورية والعراقية، وهو ما جعله يتحرك لرسم مشهد سياسي داخلي منطلقًا من منطق قوة وشرعية نجاحات خارجية.
تقويض الخصوم
صُممت قائمة الاتهامات الموجهة إلى أكرم إمام أوغلو بعناية لإصابة أهدافها بدقة، والتي يُمكن تحديدها كالتالي:
• سحب إمام أوغلو قصريًا من الساحة السياسية: يضع هذا التطور عقبات أمام طموحات إمام أوغلو الرئاسية في الانتخابات المقبلة حيث يشترط الدستور حصول المرشح الرئاسي على شهادة جامعية، وألا يكون محكومًا عليه في قضية جنائية، ويُشكل عمدة إسطنبول صداعًا في رأس أردوغان بعدما بات زعيمًا للمعارضة التركية وألحق بحزب العدالة والتنمية هزيمة ثنائية خلال محليات 2019 و2024، وكان قبلها دخيلًا على العمل السياسي، وربما أراد أردوغان التخلص من إزعاجه السياسي مبكرًا لا سيَّما أنه يُمثل تهديدًا حقيقيًا بالنظر إلى امتلاكه شعبية واسعة بين مختلف الكتل الانتخابية، فهو قادر على استقطاب أصوات الناخبين العلمانيين والإسلاميين والقوميين والأكراد بفضل كاريزمته وأسلوبه الخطابي، ويحظى بشعبية واسعة لدى جيل الشباب الذي استطاع خلق لغة تواصل فعالة معه، كما يظهر كرئيس بلدية ديمقراطي اجتماعي معتدل، استطاع تقديم العديد من المشروعات التنموية لإسطنبول.
• إبقاء المعارضة منقسمة ومشتتة: في أي نظام سياسي يستمد الحزب الحاكم أحد عناصر قوته، ليس من منجزاته السياسية والاقتصادية فقط، وإنما من تشرذم وضعف وانقسام المعارضة، ولضمان هيمنته السياسية يعمل على تعميق الشروح بين أحزاب المعارضة وتجييشها بمواجهة بعضها البعض، ولعل سياق اعتقال إمام أوغلو ينطوي على الممارسة ذاتها، إذ تكمن المفارقة في اتهام رئيس بلدية إسطنبول بدعم الإرهاب من خلال تطبيق آلية “الإجماع الحضري” (مفهوم أطلقه حزب ديم لأول مرة في 4 ديسمبر 2023 واعتمده كاستراتيجية للانتخابات المحلية، وجوهره التوافق بينه وبين الأحزاب الأخرى المُرشحة في البلدية نفسها بشأن ترشيح الشخصية الأكثر شعبية أيًا كان الحزب الذي تنتمي له على أن يدعمها الحزب الآخر)، بينما تمد الحكومة ذاتها يد السلام للأكراد وتواصل إتمام عملية الحل الجديدة التي تُوجت باستجابة حزب العُمال الكردستاني لنداء أوجلان يوم 27 فبراير بإلقاء السلاح وحل الحزب، كما يُجري حزبا العدالة والتنمية والحركة القومية حوارًا حزبيًا مع وفد حزب المساواة الشعبية والديمقراطية (ديم). ويبدو أن الغرض من هذه السياسات المتعارضة إرسال رسالة مفادها أن الانفتاح على “ديم” سيسير بالتوازي مع استمرار توجيه اتهامات بالإرهاب للمتعاونين مع الأكراد، ومن ثَمّ ترسيخ صورة للحزب باعتباره “معارض مُستأنس” يُمكنه الانخراط في تفاهمات وتحالفات مع الحزب الحاكم، وتهيئة مكاسب سياسية لصالحه خلال مراحل الانتخابات.
وربما تستهدف السياسات المزدوجة خلق فجوة بين حزبي المساواة الشعبية والديمقراطية والشعب الجمهوري، لإفقاد الأخير كتلة تصويتية وازنة قوامها 14% وقوة مرجحة تستطيع ترجيح كفة أحد الأحزاب أو المرشحين؛ حيث بات حزب “ديم” –الذي اتبع نوعًا من سياسة “الطريق الثالث” قبل عام 2018– جزءًا من المعارضة منذ عام 2018، وقد مكّن هذا الاختيار من تعزيز قوة المعارضة على مستوى البلاد والفوز في الانتخابات المحلية، مقابل إضعاف قاعدة الناخبين الأكراد لحزب العدالة والتنمية. ومع ذلك، فإن اتخاذ الحزب خطوات في عملية الحل الجديدة وإجراء مشاورات مع الحكومة والحزب الحاكم دون اشتراط اصطحابها بخطوات ديمقراطية، حيث تتواصل بالتوازي عمليات الإطاحة بمسئولي الحزب المحليين وتعيين الأوصياء الحكوميين بدلًا عنهم وملاحقة مسئولي حزب الشعب الجمهوري بتهم دعم الإرهاب، بينما يكتفي الحزب برد فعل محسوب بالنظر إلى حساسية العملية، أثار حفيظة وانتقادات الأوساط المعارضة، وخاصة بين قاعدة حزب الشعب الجمهوري، وتعالت بعض الأصوات التي تتهم الحزب بالتخلي عن المعارضة والاستسلام للحكومة؛ الأمر الذي قد يؤثر في فرص صياغة تفاهمات أو تحالفات انتخابية بين الحزبين لاحقًا.
• إنهاك حزب الشعب الجمهوري والسيطرة عليه: تنطوي سياسات التضييق الحكومي على تحقيق مستهدفات عدة؛ منها إغراق الحزب بالمشكلات الإلهائية ودفعه للعمل تحت وطأة الملاحقات القضائية والقانونية، وتوجيه جهوده لمواجهة الضغوط الحكومية ومحاولات تفاديها والرد على الاتهامات، ومن ثَمّ الانصراف بعيدًا تصميم حملات انتخابية متماسكة أو صياغة برامج سياسية تخاطب الجمهور أو إقامة روابط طويلة الأمد مع قواعده الشعبية، وهو ما يُمثل الاستراتيجية الأكثر فاعلية ضد النظام. علاوة على خلق حالة من الفوضى داخل حزب الشعب الجمهوري وإثارة صراعات سلطوية علنية وسرية، وتعزيز الانقسامات متعددة المستويات، بما في ذلك تأجيج خلافات بشأن تسمية المرشح الرئاسي البديل، ويحفز الاتهامات المتبادلة داخليًا إذ يحمِّل التيار المناوئ لأوزغور أوزال داخل الحزب (التيار الموالي لكيليجدار أوغلو) مسئولية اعتقال إمام أوغلو وإهدار فرصة السياسية، لأوزال على خلفية إصراره وتمسكه بإجراء الانتخابات التمهيدية في هذا التوقيت؛ مما يفتح الباب أمام تجدد المطالبات بإزاحة أوزال وإجراء انتخابات جديدة لمنصب رئاسة الحزب، هو الهدف ذاته الذي يسعى إليه أردوغان ضمن سياسة “هندسة المعارضة” والدفع بشخصيات ضعيفة وخاضعة للسيطرة لقيادة أحزاب المعارضة، ويبدو أن أردوغان بدأ توظيف الانقسام بين تياري أوزغور أوزال وكمال كيليجدار أوغلو، للدفع بالأخير إلى واجهة الحزب مرة أخرى.
إذ فتحت نيابة أنقرة ومكتب المدعي العام بإسطنبول تحقيقات بشأن مزاعم بوقوع مخالفات انتخابية وانتهاك للقانون خلال المؤتمر العادي الثامن والثلاثين لحزب الشعب الجمهوري الذي عقد يومي 4 و5 نوفمبر 2023 وشهد انتخاب أوزال رئيسًا للحزب، وحال ألغت المحكمة بقرار المؤتمر على خلفية مزاعم وجود مخالفات بشأن نزاهة الانتخابات، ستقوم الحكومة بتعيين وصي على الحزب ومن ثَمّ إجراء انتخابات جديدة لرئاسة الحزب سيتم الزج خلالها بشخصيات مُهادنة لأردوغان ومنخفضة الخطورة السياسية ويسهل السيطرة عليها، وبينما يذهب أحد السيناريوهات إلى طرح اسم كيليجدار أوغلو في هذا السياق، لا سيَّما أنه يُصنف كسياسي ضعيف وفشل طوال فترة قيادته للحزب التي استمرت ثلاثة عشر عامًا في تسجيل نصر انتخابي ضد أردوغان، ويبدو أنه مُهيأ حاليًا لتقديم تنازلات سياسية لأردوغان مقابل العودة لرئاسة الحزب، يفترض سيناريو آخر أن يدعم كيليجدار أوغلو اسمًا بديلًا لأوزال لرئاسة الحزب. ولعل اتخاذ أوزال خطوات جريئة بدعوة للأتراك للخروج إلى الشوارع والاحتجاج ضد اعتقال إمام أوغلو، وقراره بعقد مؤتمر استثنائي للحزب في 6 أبريل 2025، يهدف لتعزيز شعبيته بين قواعد الحزب وتأكيد دوره كزعيم للمعارضة، وتفويت الفرصة قانونيًا على الحكومة بإبطال فوزه برئاسة الحزب وتجديد الثقة في رئاسته للحزب من خلال انتخابات جديدة.
• الاستيلاء على موارد بلدية إسطنبول: تؤثر لائحة الاتهامات الموجهة لإمام أوغلو بأثر رجعي على شرعية فوزه برئاسة بلدية إسطنبول؛ مما يفتح الباب أمام تعيين وصي حكومي لإدارتها إذا استمرت التحقيقات وطالت إجراءات التقاضي؛ إذ إنه حال اعتُقل رئيس بلدية من قبل المحكمة بتهم الإرهاب يمكن للحكومة تعيين أمين لإدارة البلدية، بينما حال وُجهت له أي تهمة أخرى فيمكن لمجلس البلدية انتخاب عضو من داخله قائمًا بأعمال رئيس البلدية، حتى في حال اعتقاله. ويُمكن هكذا إجراء الحكومة من السيطرة على موارد إسطنبول المالية الضخمة التي خسرتها منذ عام 2019؛ حيث تُقدر ميزانية الولاية لعام 2025 بنحو 564 مليار ليرة، ويتيح توظيفها لدعم الحملة الانتخابية لأردوغان وحزب العدالة والتنمية خلال الانتخابات المقبلة عن طريق تقديم رشاوي انتخابية للمواطنين، وهذا يشمل استئناف نقل بعض موارد البلدية إلى منظمات مجتمعية إسلامية مقابل استخدام نفوذها للتأثير في القاعدة التصويتية لحزب العدالة والتنمية.
مصير قابل للتنبؤ
ما لم تحمل السياسة المحلية مفاجئات خلال المرحلة المقبلة فإنه يُرجح أن تسير وفق الاتجاه التالي:
• البحث عن بديل لإمام أوغلو: في حال صدور أحكام قضائية بحق إمام أوغلو وإسقاط شهادته الجامعية، أو حدوث أحدهما، فإنه لن يستطيع أن يكون مرشحًا عن حزب الشعب الجمهوري خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهذا يفتح الباب أمام طرح أسماء جديدة، ولعل الشخصية الأقرب لهذا المنصب، هو رئيس بلدية أنقرة الحالي منصور يافاش، وبينما يفتقد إلى الشخصية الكاريزمية –وهو أحد المحددات الرئيسية لسلوك الناخب التركي– وتميل شخصيته إلى العزلة والهدوء والتركيز على الإنجاز السياسي بعيدًا عن الحملات الدعائية، فإنه يتمتع بقبول جماهيري يؤهله لتحقيق نتائج جيدة في السباق الانتخابي بالنظر إلى عدة اعتبارات؛ منها أنه يحظى بدعم الناخبين القوميين واليمينيين على خلفية امتناعه عن التعليق على القضايا الخلافية مع حزب العدالة والتنمية وإبقاء نفسه فوق الصراع السياسي عضوية السابقة في حزب الحركة القومية، وحفاظه على مسافة من حزب المساواة الشعبية والديمقراطية؛ مما يجعله مقبولًا لدى الناخبين اليمينيين المعُارضين لعملية الحل الجديدة، بما في ذلك بعض أنصار حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، ولعل امتناعه عن طرح نفسه مبكرًا كمرشح محتمل عن حزب الشعب الجمهوري خلال الانتخابات المقبلة وتفضيله التركيز حاليًا على العمل المحلي لصالح بلدية أنقرة مناورة سياسية لإبعاد أنظار أردوغان عنه وتجنب الملاحقات القضائية المبكرة، وبما يُعزز فرصه في الترشح خلال المرحلة اللاحقة، ما لم يلقى مصير إمام أوغلو ذاته.
• بقاء حزب العدالة والتنمية في المشهد السياسي: يحظى الحزب بفرص كبيرة للبقاء في صدارة المشهد السياسي التركي خلال المرحلة المقبلة، ربما وفق تحالفات جديدة، بعكس الفرص المتاحة للمعارضة، بالنظر إلى عدة اعتبارات:
• أولها: خضوع التصويت في الانتخابات العامة إلى اعتبارات أيديولوجية وهوياتية في ظل مجتمع مستقطب سياسيًا بدرجة حادة، ومن ثَمّ تميل كل فئة للتصويت إلى الحزب/التيار الذي تصوت له تقليديًا بغرض إيقاع الهزيمة بالمنافسين وليس اقتناعًا أو رضاءً عن سياساته. كما يُتوقع أن يكون الخطاب الاستقطابي على أسس هوياتية حاضرًا في الحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية خلال الانتخابات المقبلة، ولكن هذه المرة لن يكون موجهًا ضد حزب المساواة الشعبية والديمقراطية على أساس الهوية العرقية (الترك في مقابل الكرد)، وإنما ضد حزب الشعب الجمهوري على أساس هوية دينية طائفية (السُنة في مقابل العلويين)، إذ تعالت بعض النبرات –بعضها حكومي– خلال الأيام القليلة الماضية التي تتهم الحزب بتبني خطاب طائفي على خلفية تنديده بالانتهاكات ضد العلويين في منطقة الساحل السوري، وتؤطره باعتباره “حزب علوي”، وهو ما يُنذر باحتمالية تبني نبرة طائفية لتحفيز الناخبين المحافظين ضد الحزب.
• ثانيها: احتمالية ظهور تحالفات انتخابية جديدة يصطف خلالها حزب المساواة الشعبية والديمقراطية وناخبيه الأكراد إلى جانب الائتلاف الحاكم مقابل امتيازات سياسية؛ حيث تنطلق أحد التفسيرات لعملية الحل الجديدة من رغبة أردوغان تصفية الخلافات مع المكون الكردي وضمان الحصول على تأييده في عملية تعديل/تغيير الدستور، بالنظر إلى أن التوازن الحالي في البرلمان لا يسمح للائتلاف بإجراء مثل هذا التغيير الدستوري الذي يتطلب موافقة ثلاثة أخماس أعضاء الجمعية الوطنية (360 نائبًا) بينما يسيطر تحالف الشعب على 321 مقعدًا فقط، وبالتالي سيحتاج إلى 39 صوتًا على الأقل من المعارضة للتصويت على كتابة دستور جديد وطرحه للاستفتاء؛ الأمر الذي يتطلب إقناع بعض أحزاب المعارضة بالانضمام إلى الحكومة.
• ثالثها: غياب كوارد كاريزمية لدى أحزاب المعارضة تستطيع اجتذاب الناخبين بعكس قدرة حزب العدالة والتنمية على إنتاج نموذج القائد الكاريزمي الذي يجسده حاليًا أردوغان، ودائمًا ما يبحث الناخب التركي عن الشخصية الكاريزمية؛ حيث إن إحدى وسائل تحقيق الانتصارات الانتخابية تتمثل في وجود فكرة جذابة وقائد كاريزمي يستطيع من خلال الخطابات السياسية تعزيز تلك الأفكار وإيصالها بشكل فعال للجماهير.
• رابعها: استفادة حزب العدالة والتنمية من المزايا التي تمنحها السلطة ومن ذلك تخصيص الموارد المالية لتقديم رشاوي انتخابية للناخبين، فضلًا عن سيطرة الحكومة على 90% من وسائل الإعلام.
استنتاج ختامي، بينما يمر المشهد السياسي التركي بمرحلة إعادة تشكل، فإنه لا يُمكن التنبؤ حاليًا باتجاهات التصويت وفرص الأحزاب السياسية خلال الانتخابات العامة المقبلة بالنظر إلى التقلبات السريعة الوتيرة التي تتسم بها السياسة الداخلية التركية؛ إذ يتوقف الأمر على عوامل عدة؛ أولها: الظرف السياسي لحظة الانتخابات ومدى قدرة حزب العدالة والتنمية والتحالف الحاكم على تحقيق اختراقات داخلية لا سيَّما على الصعيد الاقتصادي، والحفاظ على النجاحات خارجية وتسويقها محليًا. وثانيها: طبيعة التحالفات الانتخابية التي سوف تتشكل سواء فيما يتعلق بالائتلاف الحاكم أو المعارضة لا سيَّما بين الأحزاب التي تنتمي إلى المعسكر الأيديولوجي ذاته، ومدى قدرة المعارضة على تجاوز الانقسامات الأيديولوجية والفكرية والسياسية وتقديم برنامج سياسي واقتصادي متكامل وجذاب. وثالثها: البيئة السياسية التي ستجرى خلالها الانتخابات وما إذا سيتم توظيف الموارد والقدرات الحكومية والإعلامية لصالح الائتلاف الحاكم، والتضييقيات التي تتعرض له المعارضة.
ومع ذلك، يُمكن القول إن أردوغان يسعى للترشح مجددًا خلال الانتخابات المقبلة سواء عبر تبكير موعدها أو إجراء تعديل/تغيير دستوري، وفي حالة حدوث طارئ يحول دون إعادة ترشحه تبرز بعض الأسماء المرشحة لخلافته بما في ذلك وزير الخارجية الحالي هاكان فيدان، ووزير الداخلية السابق سليمان صويلو، ووزير الدفاع السابق خلوصي أكار، ومع ذلك يظل فيدان الأوفر حظًا والأكثر مقبولية بالنسبة لحزب العدالة والتنمية.