جاءت بيانات صادرة عن الدكتور عبدالله عبدالله والرئيس أشرف غني -بل والأهم من ذلك عن حركة طالبان- لتعرب عن احتمال انعقاد الحوار الداخلي الأفغاني أخيرًا بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية. ذلك الحوار المرتقب بشغف والذي طال انتظاره. وفي النهاية، يأتي كل ذلك كمكون رئيسي في عملية السلام التي تم تصميمها بهدف جلب الاستقرار إلى أفغانستان. وحقيقة الأمر أن حركة طالبان كانت قد أبدت رغبتها مؤخرًا للتشاور مع كابول، وهو بمثابة تطور بالغ الأهمية، مع الأخذ في الاعتبار أنها رفضت التشاور معها في الماضي، بما فيها الأسابيع الأخيرة. ووفقًا لاتفاق السلام الموقّع بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان في فبراير 2020، كان من المفترض بدء الحوار الداخلي الأفغاني في 10 مارس 2020. ومنذ ذلك الحين، بات الأمر غير واضح إن كان هذا الحوار سيبدأ.
وبينما لم يتم الإعلان عن تاريخ محدد لعقد هذا الحوار، فمن الواضح أن التأسيس له قد بدأ بالفعل ممثلًا في التطلع إلى تلك المحادثات التي يبدو الوضع في حاجة ماسة إليها. من ذلك -على سبيل المثال- تعيين الدكتور عبدالله عبدالله رئيسًا للمجلس الأعلى للمصالحة الوطنية، الذي سيقوم برئاسة عملية السلام الأفغانية ممثلًا للحكومة الأفغانية. من ذلك أيضًا إعلان طالبان وقف إطلاق النيران لمدة ثلاثة أيام بمناسبة عيد الأضحى المبارك، على غرار وقف الحركة إطلاق النار على مدار ثلاثة أيام خلال فترة عيد الفطر المبارك من 24 إلى 26 مايو 2020.
وهكذا، في الوقت الذي يجري فيه حاليًّا اتخاذ بعض الخطوات نحو الاتجاه الصحيح، لا تزال القضايا المتعلقة بإطلاق سراح سجناء طالبان قضية محتدمة. وفي حين تزعم حركة طالبان أنها وفّت بالتزامها في ضوء اتفاقها مع الولايات المتحدة الأمريكية بإطلاق سراح جميع سجناء الحكومة الأفغانية الذين يبلغ عددهم 1000 سجين؛ فإن الحكومة الأفغانية لم تفِ من جانبها بعد بإطلاق 5000 من سجناء طالبان، وهو ما أدى إلى تأخير بدء الحوار. ووفقًا للحكومة الأفغانية، فإنه تم إطلاق سراح 4600 سجين حتى الآن، منهم 500 من سجناء طالبان أُطلق سراحهم مؤخرًا مع إعلان الحركة وقف إطلاق النار خلال فترة عيد الأضحى. ولا يزال مصير من تبقى من السجناء، ويبلغ عددهم 400 سجين، غير واضح، رغم أن الرئيس غني صرح بأنه سيتم عقد مجلس أعلى (لويا جيرغا) لمناقشة هذا الموضوع.
وبينما يُمثل الحوار الداخلي الأفغاني خطوة ماسة للغاية نحو الاتجاه الصحيح، إلا أنها مجرد بداية لعملية غاية في الحساسية والتعقيد ستتطلب صبرًا وتسويات من كافة الأطراف. ففي النهاية، وكما أوضح لنا الماضي القريب، سرعان ما قد تنقلب الأمور رأسًا على عقب. ومن ثم، لا تزال هناك بعض العقبات التي تعترض طريق تحقيق السلام.
وفي حين تبدو حركة طالبان وكأنها قد تخلت أخيرًا عن جمودها السابق المتمثل في رفضها المطلق للحوار مع كابول، فلا يزال عزوفها عن التخلي عن العنف أو الحد منه ضد القوات الأفغانية حجر عثرة في طريق تحقيق السلام. ولذا، ينبغي بذل جهود مطردة على كافة الأصعدة قبل أن يعم التفاؤل.
ونتيجة للغة أو الشروط المستخدمة في الاتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان الذي أُشير فيه إلى عدم استهداف القوات الدولية، قامت حركة طالبان بوقف مثل تلك الهجمات ضد القوات الدولية. لكنها استمرت في استهداف القوات الحكومية. ومن أجل تحقيق تقدم هادف نحو عملية السلام، سيتوجب على حركة طالبان إعادة النظر في هذه الاستراتيجية، ومن ثم إدراك أنه لم يعد بإمكانها الاعتماد على العنف كوسيلة لتعزيز أهدافها. فإن كانت طالبان ترغب حقًّا في تحقيق السلام، فيجب عليها احترام التزاماتها في جميع السياقات دون التمييز بين من يمكنها قتلهم ومن لن تستطيع قتلهم. وأن حجتها في مهاجمة القوات الدولية هي بالنهاية حجة ضعيفة؛ حيث إنه لا يمكن غض الطرف عن أي هجوم. وعلاوة على ذلك، ينبغي أن تنظر طالبان إلى الحكومة وكأنها طرف صاحب مصلحة على قدم المساواة معها. وإن كان بإمكانها تقبُّل الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت عدوها الأساسي سابقًا؛ فليس من قبيل المبالغة أن نتخيل أنه يمكن لطالبان، بل ويتوجب عليها، تقبُّل الحكومة على قدم المساواة معها.
ويُعد هذا الأمر فرصة تاريخية أمام الأفغانيين لإعادة كتابة التاريخ. فبالنسبة لحركة طالبان، هذا يمثل لحظة فريدة ومواتية، وكذلك منذ أن أنهكت الحرب الحركة، وبالتالي وجب شعورها بالرغبة في وضع حد لعقود من إراقة الدماء. وفي الحقيقة، يمكن لطالبان أيضًا تقديم نفسها كطرف صاحب مصلحة يتسم بالمسئولية والنضج، بالإضافة إلى قدرتها على ضمان مكانة شرعية لنفسها في هيكل السياسة الأفغانية، وهو أمر لم يكن دائمًا محتمل الحدوث. وفي الوقت ذاته، فإن كلًّا من الرئيس غني والدكتور عبدالله لديهما فرصة القيام بأدوار فعالة وهادفة في جلب السلام إلى جموع الشعب الذين طال انتظارهم ومروا بكثير من العنف والصدمات. فكل عناصر الاتفاق السلمي على أتم استعداد؛ حيث إن الأمر يعود إلى أصحاب المصلحة الآن في تأكيد استعدادهم للسلام، ورغبتهم في بذل الجهود الجادة لإنجاح ذلك على حد سواء.
علاوة على ذلك، هناك مسئولية أيضًا تقع على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية كونها صاحبة مصلحة وطرفًا موقِّعًا رئيسيًّا على الاتفاق، فينبغي عليها دفع كافة الأطراف نحو الوفاء بالتزاماتها وفقًا لبنود الاتفاق، وضمان التوصل إلى اتفاق يتسم بالمصداقية وقابليته للتطبيق، ومقبول لدى كافة أصحاب المصلحة، لما فيه مصلحة للشعب الأفغاني. ووفقًا لما شهدناه في الماضي، هناك حاجة إلى تجنب التسويات العشوائية والمتسرعة التي هي عرضة للانهيار، مهما كلف الأمر. وبدلًا من ذلك، ستحتاج واشنطن إلى الاضطلاع بدور استباقي، بما يسمح للأفغانيين وضع خططهم الخاصة، ومعرفة متى يجب التدخل والضغط على الأطراف كلها، خاصة على حركة طالبان فيما يتعلق بتخفيض الهجمات ووقفها نهائيًّا. ويتعين على واشنطن التأكد من عدم خلق الحكومة الأفغانية لمعوقات أمام تنفيذ الاتفاق، على سبيل المثال تسببها في تأخر عملية تبادل السجناء أو تأخير عملية الحوار الداخلي الأفغاني كما حدث في الماضي.
وصار من بين الشواغل المهمة التي يفتقدها خطاب السلام بالكامل حتى الآن غياب الاهتمام بعملية التعافي الوطني والاجتماعي وأيضًا المصالحة الوطنية وإعادة الإدماج؛ حيث إن أفغانستان في حاجة إلى اتخاذ خطوات ملموسة على تلك الجبهات. المصالحة السياسية والوطنية تملك ما يكفي من الوقت لإقامتها، ولا تزال تشكل تحديات جديدة في متابعة محادثات السلام مع طالبان، وبالتالي فإن أكبر التهديدات داخلية وليست خارجية. ويجب أن تأتي كافة الاستراتيجيات التي تشمل المجتمع المدني والكيانات الحكومية والدعم الخارجي، مصحوبة بتحركات سياسية نحو تحقيق السلام. كما ينبغي أن تأتي السيطرة على هذه التحركات، والرغبة فيها، من قبل الأفغانيين أنفسهم، ويتعين على القيادة السياسية توفير الدعم والأساس لذلك، وتوفير منبر للتعبير عنه. وعلى الأفغانيين المحاولة ونسيان الماضي، مهما كان دمويًّا وصعبًا، بل وقد يتطلب الأمر منهم أحيانًا نسيان العداوات القديمة، والتركيز بدلًا منها على كتابة تاريخ جديد لأنفسهم. ولكن لكي يحدث هذا، يجب على كابول وطالبان تخطي السياسات الفقيرة ضيقة الأفق والتفكير في الشعب الأفغاني الذي عانى طويلًا، والذي يتزعم كل من كابول وطالبان تمثيلهما له. بمعنى آخر، فإن الاستحقاق الأهم هو تحقيق الوحدة بين جميع الأفغانيين، والدعوة لتحقيق مستقبل قائم على السلام والاستقرار. وبدون ذلك، ستكون جميع إمكانات المنطقة من ثروات معدنية وموقع جيواستراتيجي، التي لا تزال توصف بأنها قنوات نقل لجنوب ووسط آسيا، محل خلاف.
وفي حين أن نتائج هذا الحوار الداخلي الأفغاني ستبدأ في الكشف عن نفسها لاحقًا، من المهم أن ندرك أنها بمثابة حدث تاريخي. وفي النهاية، سيكون هذا هو أول اجتماع لحركة طالبان مع الحكومة الأفغانية منذ عام 2001. فبعض الأسئلة المهمة تبحث عن إجابة، على رأسها تلك الأسئلة المتعلقة بالنتيجة المرجوة من هذا الحوار.
حاليًّا، وحيث إن الحوار الأفغاني الداخلي صار أخيرًا على وشك الحدوث، فإنه يجب خلاله مناقشة الجوانب الحاسمة اللازمة لتحقيق السلام التي أغفلها الاتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان؛ مثل: انسحاب القوات الأمريكية، وأيضًا التركيز عليها في هذا الحوار الأفغاني الداخلي المرتقب. ومن جانبها، تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية أن تكفل انسحابًا مسئولًا لقواتها، دون التعجل في ذلك بشكل غير مبرر. فالانسحاب المتسرع وما قد يترتب عليه من تداعيات على أفغانستان من انهيار كامل للحكومة ونشوب حرب أهلية، سوف يجعل من أفغانستان ملجأ مثاليًّا للإرهابيين. إلا أنه في الوقت الحالي، يجب أن يكون أي تخفيض في حجم القوات متوقفًا على ثمار الحوار الأفغاني الداخلي دون غيره.
حتى وإن استمرت حركة طالبان في التأكيد على انسحاب القوات الأمريكية، فإن طالبان قد صرحت في الوقت ذاته بأنها تود إقامة علاقات ودية مع الولايات المتحدة، وترغب في عودتها للمساعدة في بناء الدولة من خلال عملية إعادة الإعمار والتنمية، وهو ما يشير بوضوح إلى أن من بقي من المقاولين والجنود الأمريكيين يمكنهم مواصلة العمل في القواعد العسكرية الخمس بأفغانستان. والأهم من ذلك، أنه يسلط الضوء على الميل الخفي لحركة طالبان إلى قبول تواجد الولايات المتحدة الأمريكية داخل الدولة وفقًا لشروطها الخاصة. إلا أنه في الوقت الحالي، يجب أن يكون أي تخفيض في قوام القوات متوقفًا على ثمار الحوار الأفغاني الداخلي دون غيره.
ويظلّ وقف إطلاق النار هو أصعب شرط مسبق لقيام أي عملية سلام دائمة. ولذلك، يجب أن يكون هدف الحفاظ على وقف مستدام لإطلاق النار هو محور التركيز الأساسي للحوار الأفغاني الداخلي المرتقب. كما أن تقديم حركة طالبان لضمانات لمجابهة الإرهاب شرط ضروري للولايات المتحدة الأمريكية من أجل تحقيق أي اتفاق سلمي. فلم تكن حركة طالبان متعاونة مع أي جماعة إرهابية، ويتجلى ذلك في مقاومتها لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام/ولاية خراسان في أفغانستان، الذي خاضت ضده معركة دموية منذ ظهر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في أفغانستان منذ 2014/2015.
وفيما يتعلق بتحديد نوعية التكوين السياسي المتوقع قيامه في أفغانستان مستقبلًا بعد إجراء الحوار الداخلي الأفغاني، لم يتحقق سوى تقدم ضئيل أو يكاد لم يتحقق أي تقدم في هذا الصدد حتى الآن، ناهيك عن المحادثات. لذلك، فإنه من الضروري أن يتم أثناء الحوار الأفغاني الداخلي التصدي على نحو صريح لقضايا التكوين السياسي المستقبلي، وترتيبات تقاسم السلطة بين الفصائل السياسية المختلفة، ودستور أفغانستان، وحقوق المرأة وغيرها، دون إغفالها كما حدث في الاتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان. فإنه بدون مناقشة مثل تلك الأسئلة المحورية، سيكون هذا الحوار عملية غير مجدية. ومن مسئولية واشنطن أن تضمن تحقيق الاستقرار النسبي قبل خروجها، بما فيه خلق تكوين سياسي شامل يحظى بقبول الجميع.
ويتمثل أحد الخيارات في الدفع باستمرار الهيكل السياسي الحالي، واستيعاب حركة طالبان فيه. ويمكن أن يكون الخيار الآخر هو إقامة تكوين شامل مؤقت، وهي فكرة حظيت بتأييد كافة الفصائل السياسية الأفغانية لها في محادثات موسكو التي عقدت عام 2018.
لقد ظلت أفغانستان تعاني من الحرب وعدم الاستقرار السياسي والفساد على مدار عقود. وهذا التحدي الجديد لفيروس كورونا المستجد، الذي حصد لتوه أرواح أكثر من 1200 شخص، هو بمثابة اختبار عظيم للقيادة السياسية في الدولة، وفرصة أمام الأفغانيين لتوحيد صفوفهم واستيعاب بعضهم بعضًا وتحقيق السلام. ويجب أن يكون الهدف الآن أكثر من أي وقت مضى، هو التركيز على تحقيق السلام في أفغانستان. وكبداية وبادرة إيجابية، يجب على حركة طالبان تخفيض معدلات العنف بشكل ملحوظ، وليس كوسيلة ضعف أو استسلام، بل كفرصة لتعزيز قضيتها من خلال المشاركة السياسية. ويجب أن يأتي ذلك مصحوبًا بالحوار الداخلي الأفغاني المرتقب، والذي يجب أن يقود إلى وضع إطار زمني لانسحاب القوات تدريجيًّا وبشكل مسئول بما يُساهم في تحقيق وقف مستدام وموثوق به لإطلاق النار، وليس عرضة للانهيار.






