تشغل مسارات التسوية الليبية اهتمامًا واسعًا في دوائر المجتمع الدولي على تنوعها، وتتجه الأنظار إلى الجولة التونسية (9 نوفمبر الجاري) أملًا في اختراق الصراع الدائر على مدار عقد كامل في شقه السياسي، بعد الدفعة الإيجابية المحققة بتوقيع اتفاقات إعادة فتح تشغيل حقول وموانئ النفط (سبتمبر 2020)، واتفاق جنيف المتعلق باستدامة وقف إطلاق النار (أكتوبر 2020). فما هي فُرص وتحديات تحقيق مسارات التفاوض المتحققة والجارية تسويةً شاملة للأزمة الليبية؟.
نحو تسوية جادة
أطلقت البعثة الأممية والدول الراعية للتسوية في ليبيا عدة مسارات تمهيدية، فكان الحوار السياسي في المغرب وسويسرا، والمسار العسكري بجولتيه الثالثة والرابعة بالغردقة المصرية وجنيف على التوالي، بالإضافة إلى استكمال أعمال المسار الاقتصادي عبر تونس والقاهرة. وقد حققت المسارات السابقة اختراقًا لحالة الجمود والاقتتال الدائر لسنوات، وانتهت لتفاهمات هامة حول توزيع المناصب السيادية، وتمثل أبرز إنجازات المفاوضات الجارية -حتى الآن- في الوصول إلى اتفاق استدامة وقف إطلاق النار. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أهم العوامل التي قادت لذلك التقدم على النحو التالي:
- تقسيم المسارات: تؤكد الخبرة التاريخية والنظرية بدراسات الصراعات أن تفكيك المعضلة وإشكالياتها هو الخطوة الأولى لتحقيق اختراق لمعادلة الاشتباك القائمة، وانطلاقًا من تشعب الإشكالية بين الأطراف المتنازعة، حيث النفوذ السياسي والسيطرة الميدانية وإدارة عائدات النفط، ذهبت جهود التسوية لتقسيم أنشطتها إلى مسارات تخصصية متدرجة ومتزامنة. فهناك الحوار السياسي بالمغرب وتونس وسويسرا، والمفاوضات العسكرية في مصر وسويسرا، إلى جانب المسار الاقتصادي الذي تم في تونس والقاهرة. وهي محاولة لفض الاشتباك الذي عطّل الوصول لتوافق حول تلك الملفات سابقًا، وهو نمط ساعد -بدرجة أو أخرى- على تحييد العوامل الخارجية عن الملف.
وقد حقق هذا التقسيم اختراقًا على كافة الصعد التي جرى تداولها، فقد توصل وفدا النواب والأعلى للدولة إلى توافق حول تفعيل المادة (15) من الاتفاق السياسي، والمتعلقة باختيار رؤساء المؤسسات الليبية الرئيسية. كما تكرر ذلك مع توقيع اللجنة العسكرية (5+5) اتفاق استدامة وقف إطلاق النار، وتحديد خارطة طريق لإعادة تأهيل المشهد الأمني والعسكري الليبي، ويُنتظر أن يستمر ذلك التقدم بالملف العسكري، في حدود الموضوعات التي تم التوافق عليها، وهو ما سيستكمل باجتماع اللجنة في مدينة “غدامس” الليبية (2 نوفمبر 2020) لأول مرة.
- الدعم الدولي للتسوية: حظيت جولات التفاوض ومخرجاتها بدعم دولي وأممي كبير، لا سيما الدول الهادفة لحل الصراع جديًّا، وقد انعكس ذلك فيما وضعته الدول المستضيفة للمباحثات من إمكانات واسعة لإنجاحها، فضلًا عن سعي العديد من الفاعلين الدوليين لدفع طرفي المفاوضات للتقارب وتخطي العقبات والخلافات. وفي هذا الإطار جاء تثمين المنظمات الدولية والعديد من العواصم لتوصل اللجنة العسكرية لاستدامة وقف إطلاق النار، كما لعبت أطراف إقليمية وغربية دورًا نشطًا لتحييد التدخلات الخارجية المُعطلة للمفاوضات، بل واستقبلت عدة دول مسئولين ليبيين رفيعي المستوى في توقيتات متزامنة، ما يدلل على هامش الحركة الواسع المستهدف لإحداث توافق ونتائج إيجابية. وسعت البعثة الأممية لتوظيف هذا الدعم لتحقيق مزيد من التقدم عبر الإسراع في عقد اجتماعات تكميلية للمسار العسكري والسياسي، خلال نوفمبر 2020؛ للاستفادة مما جرى إنجازه سابقًا.
- تجاوز النقاط الخلافية: كان الوصول للتوافقات المتحققة في المسارات التفاوضية الحالية مقترنًا بحتمية تجاوز الأطراف المتحاورة بعض النقاط الخلافية، وهو ما تضمن تأجيل النظر في البعض الآخر، فمع انطلاق الجولة الثانية من الحوار السياسي بالمغرب، تمسك وفد مجلس النواب باستكمال التشاور مع وفد مجلس الدولة، بعد أن تم استبدال الأخير بوفد جديد، وتم تأجيل انطلاق الحوار حتى وافق مجلس الدولة وعاد وفده الأول للمفاوضات. وهو ما ينصرف أيضًا إلى تأجيل تداول عملية “توحيد المؤسسة العسكرية”، واكتفاء اتفاق “وقف إطلاق النار” بحلحلة المشهد الأمني فيما يتعلق بسحب المرتزقة ومكافحة الإرهاب ووقف الأعمال العسكرية، دون التطرق لقضايا جوهرية كموازنة القوات المسلحة، أو هيكل وتركيبة المؤسسة العسكرية المنشودة.
- تثبيت خطوط المواجهة: رغم تبادل الاتهامات حول خرق قوات الطرفين للهدنة على جانبي خط سرت-الجفرة؛ إلا أن استمرار خفض التصعيد وعدم إطلاق مواجهات مسلحة يُعد عاملًا إيجابيًا محفزًا لاستمرار جهود التسوية؛ للوصول إلى تثبيت للموقف الميداني، وتلافي سيناريو أبريل 2019 حين قادت المواجهات لإلغاء المؤتمر الجامع. ويتضح في هذا الإطار أن الخط الأحمر الذي أعلنته القاهرة (يونيو 2020) قد أسهم في تثبيت خطوط المواجهة بشكل حاسم، وجرى البناء على هذا الوضع في الترتيب لتفعيل المسار الأمني والعسكري.
وبعد تعزيز هذا التثبيت العسكري باتفاق جنيف (أكتوبر 2020)، تستمر اللجنة العسكرية في استكمال أعمالها لأول مرة داخل ليبيا، بلقاء ينعقد بمدينة غدامس (نوفمبر 2020)، والذي يضطلع بالنظر في آليات مراقبة وقف إطلاق النار، وتشكيل اللجان الفرعية المنوطة بالحد من الخروقات، وحصر وتصنيف ودمج الكيانات المسلحة بمؤسسات الدولة، وغيرها من لجان تأمين المنشآت النفطية والمناطق التي ستسحب منها القوات العسكرية.
تحديات خطرة
حملت المسارات التفاوضية -رغم مخرجاتها الإيجابية- عدة إشكاليات، قد تمثل فيما هو قادم تحديات خطرة على استكمال جهود الحل، ومن أبرزها:
- احتمالات تشتت جهود التسوية: يُنظر لخطوة فض الاشتباك الموضوعي باعتماد مسار متخصص لكل ملف، سياسي وعسكري واقتصادي ودستوري، كتهديد قائم قد يعطل أي منها منفردًا أو جميعها، فاحتمالات التوافق رغم تصاعدها ستظل مرهونة بالعديد من المحددات الداخلية والخارجية. وتذهب بعض التقديرات لطرح مفاده أن تقسيم محاور التفاوض جاء استجابةً لوجود ملفات أكثر دقة في التوقيت الراهن، مثل وقف العمليات العسكرية وتثبيت الهدنة أو فتح المنشآت النفطية وإعادة التصدير للعمل أو إعادة توزيع المناصب السيادية، وهو ما يجعل الجهود مركزة لإيجاد توافق حولها. أما المسارات الأخرى، فستشهد زخمًا أقل، وربما تستهلك إطارًا زمنيًّا طويلًا، ولن تمارس الفواعل المنخرطة بالأزمة ضغوطًا لإنجاز تقدمات آنية فيها؛ حتى لا تتفجر الأوضاع وتنهار التفاهمات الحالية.
- الدور الخارجي لتعطيل التفاهمات: يتضح من الموقف الدولي المتصل بمسارات التسوية اتجاه لتقييد وكبح جماح المفاوضات، فالموقف التركي القطري مشكك في صمود اتفاق وقف إطلاق النار، ويدفع قوى الغرب الليبي إلى تبني مواقف من شأنها تعطيل المسارات الجارية. ففي البداية كان استبدال وفد مجلس الدولة بمفاوضات المغرب في جولته الثانية؛ للعودة بالتفاهمات إلى المربع صفر واستهلاك مزيد من الوقت. كما استمرت تركيا في أنشطة تدريب العناصر الأمنية والعسكرية التابعة لحكومة الوفاق، رغم نص اتفاق وقف إطلاق النار على وقف العمل باتفاقيات التدريب العسكري صراحةً. كما صدرت عدة تصريحات بذات المنطقة تستهدف إثارة ملفات الملاحقة الجنائية للجيش الوطني دوليًّا، والتأكيد على أن الاتفاق لا يعني الاعتراف بها.
- محاولات الالتفاف على مخرجات التسوية: اتجهت بعض الأطراف المنوطة بتطبيق مخرجات مسارات التسوية، إلى تبني مواقف تُعد انقلابًا على ما تم التوافق عليه، حيث صرح رئيس المجلس الأعلى للدولة “خالد المشري” بأن اتفاق وقف إطلاق النار “مجرد اتفاق بين قوة شرعية وأخرى متمردة..، ولن يشمل ما أبرمته حكومة الوفاق من اتفاقيات مع الدولة التركية”، وهو تناقض تام مع المادة الثانية من الاتفاق. كما اتجه وزير الدفاع “صلاح الدين النمروش” إلى مالطا (31 أكتوبر 2020) لبحث دعم البحرية الليبية في عمليات التدريب المختلفة، وصيانة القطع البحرية، فيما وقّع وزير الداخلية “فتحي باشاغا” (26 أكتوبر 2020) اتفاقية شراكة أمنية مع قطر، وهي خطوات تؤكد أن الاتجاه السائد داخل حكومة الوفاق ينم عن تجاهل التطبيق المنضبط لمخرجات المسار العسكري.
- محدودية السيطرة على الفاعلين بالداخل: يُعد المشهد الأمني بالمنطقة الغربية تحديًا بالغ التعقيد لمسارات التسوية، لا سيما حالة السيولة الأمنية، وغياب السيطرة الفعالة على تحركات المجموعات المسلحة. وقد أعقب التقدم في المفاوضات مواقف لتلك المجموعات تؤشر على نيتها عدم الامتثال لما جرى التوافق عليه، فنجد المطلوب دوليًّا “صلاح بادي” القيادي بميليشيات مصراتة يعلن رفضه لمسارات الحوار القائمة، وأنه لن يلتزم بمخرجات أيٍّ منها، وفي مقدمتها الاتفاق الصادر في جنيف عن لجنة (5+5). ما يثير التخوفات من تحرك هذه المجموعات بنمط عشوائي لإثارة المواجهات المسلحة، وتقويض أية مسارات للحل، في ظل سيطرتها على المشهد الميداني بالعاصمة ومقرات السلطة فيها.
- الاختلاف حول معايير اختيار المشاركين: أثار إعلان البعثة الأممية عن قائمة المشاركين بجولة الحوار السياسي في تونس (نوفمبر 2020) موجة من الانتقادات، حيث أعلنت “قوة حماية طرابلس” رفضها للأسماء المطروحة؛ واعتبرتها شخصيات “دُست لتطبيق أجندة معينة”. كما صرح وزير الدفاع بالوفاق أن “اللقاءات المُزمع انعقادها الأيام القادمة والشخصيات التي اختيرت لها، وغيرهم ممن باركوا ذلك، باعوا القضية وتنكروا لدماء الشهداء والأبرياء ويلهثون وراء المناصب والمكاسب الشخصية، ويدعمون من أجرم في حق الليبيين، ويبحثون عن حلول تلفيقيه للأزمة”. وقال آمر غرفة عمليات تأمين وحماية سرت والجفرة “إبراهيم بيت المال” إن البعثة الأممية تعبث بمصير الليبيين، وتحيد الأطراف الفعلية على الأرض عن المشاركة.
وامتد رفض قائمة المشاركين لمجلس النواب، إذ أعلن “تجمع الوسط النيابي” عن تحفظه على الأسماء المشاركة، واعتبر أن البعثة الأممية “قد انحرفت عن المسار الصحيح، وتعدت على صلاحيات السلطات الوطنية”، وهو ما أكده رئيس المجلس الأعلى للقبائل بالجنوب “علي بوسبيحة” بقوله: “إن البعثة الأممية لدى ليبيا لا تريد حلًّا لمشكلة البلاد، بل تديرها لإطالة أمدها”. واستنكر المجلس الاجتماعي لقبائل الطوارق الأسلوب والطريقة” لدى اختيار البعثة أعضاء لجنة الحوار السياسي. كما رفض “المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية” الحوار بهذا المسار والشخصيات المختارة، وأعلن أنه لن يقبل بأية مخرجات تثمر عنه.
إجمالًا، يمكن القول إن المرحلة الراهنة تشهد زخمًا وجهودًا إيجابية افتقدتها الأزمة الليبية لفترات طويلة، وأن نجاح المسار العسكري في مرحلتي الغردقة وجنيف قد حقق الاختراق المأمول لتثبيت الهدنة، ولكن الوقوف عند حدود ما تم إنجازه سياسيًا وأمنيًا قد يعطل جهود التسوية الشاملة، بل وقد يدفع بتجدد دورات الصراع في ليبيا. ورغم الانفراجة المشهودة على صعيد الأزمة، يبقى تصاعد التحرك القطري -كواجهة أعمال لتركيا- مهددًا لنجاح التفاهمات، لا سيما مع غياب ضمانات دولية واضحة لرعاية الاتفاقات المنجزة والالتزام العام بها.