قبل أيام جرى الإعلان عن كشف أثرى كامل الأوصاف في التوابيت والمومياوات والمقبرة الفرعونية، وكان العدد هذه المرة مائة من القطع التي عمرها ٢٥٠٠ سنة. وقبل شهور توالت سلسلة من ذات الوصف كان فيها ٥٨ مرة، و٥٩ مرة أخرى، وقيل بشكل واثق إننا في الطريق إلى اكتشافات أخرى. قبل عام بدأ الكشف عن مقبرة «واحتى» الفرعوني كبير الكهنة الذي عاش قبل ٤٥٠٠ عام، ومحنط الفرعون، والمسؤول عن القارب المقدس للدار الآخرة. باختصار هناك بعث جديد للفراعنة الأجداد الذين أتوا إلينا هذه الأيام ربما ليشدوا أزرنا في مواجهة الجائحة، وربما لأنهم ينقلون لنا رسالة أنه آن الأوان لمصرنا أن تكون كما كانت فرعونية خالصة قوية وعفية وقادرة. هناك فارق آخر في المسألة كلها وهي أن كافة الاكتشافات مصرية خالصة من علماء المصريات ومن العاملين من أول الأساتذة في مجالات معرفية من تاريخ ولغة وكيمياء وتشريح وطب، والعمال بالطبع الأساتذة في البحث عن الآثار الفرعونية. ولكن المسألة لها وجه آخر وهي أنه مع كل اكتشاف فإننا نقدم إضافات كثيرة للشخصية الوطنية المصرية بما تعرضه من تاريخ يقاوم ما جرى من طمس شديد للوجود المصري على مدى آلاف السنين. فالحقيقة هي أنه حتى بدايات القرن التاسع عشر عندما تعرف شامبليون على فك شفرة اللغة الهيروغليفية، والتوسع في الاكتشافات التاريخية، فإن المصريين كانوا قد فقدوا جزءا كبيرا من ذاكرتهم التاريخية. تدريجيا ومع كل كشف جديد رفع الغطاء عن الذاتية المصرية، وما كان لها من أمجاد قديمة ونبيلة في الفكر والبناء جعلتها «فجر الضمير» بامتياز فهي التي علمتنا وعلمت باقي البشرية أن للكون خالقا، وأن الحياة من الميلاد للموت هي حالة انتقالية يكون بعدها حساب على القول والفعل. الفكرة بعد ذلك أخذت أشكالا عديدة، ومسميات شتى، وإنما هي المسؤولية التي وضعها «أزوريس» في أعناق كل البشر في فعل الخير وقول الطيب.
ما حدث ليس مجرد حادث سياحي سوف يسعد السائحين في العالم الذين يسعدون بكل ما هو فرعوني لأنه يأخذ الإنسان في رحلة مثيرة إلى مهده الأول. وصحيح أن السياحة هامة لمصر فهي تقدم ١١.٣٪ من الناتج المحلى الإجمالي، وتقدم ١٩.٣٪ من العملة الأجنبية لمصر، ويعمل فيها ١٢.٦٪ من قوة العمل المصرية. ولكن ذلك على أهميته هو جزء بسيط من الموضوع الذي يشكله البعث والنهضة الجارية في مصر ليس فقط لتجهيز منطقة الجيزة لأعداد أكبر من السائحين وإنما تكوين رافد جبار إلى نهر عظيم من الغوص والتنمية للشخصية المصرية تتمثل في أكبر عملية بناء للمدن الباهرة والمتاحف العظيمة التي عرفتها مصر في تاريخها الحديث. وفى الوقت الذي كان فيه «عذاب القبر» يطبع الشخصية المصرية بدرجات من الخوف والاكتئاب فإن الخروج الفرعوني الباهر بألوانه وتمام ملامحه يشهد على رحلة عظيمة قام فيها المصري بواجباته إزاء الرب وأخيه الإنسان.
في عام ٢٠١٥ قامت وزارة السياحة باستطلاع آراء السائحين الذين يزورون منطقة أهرامات الجيزة فكانت النتيجة هي أن ٥٨٪ منهم يرون أنها غير آمنة، و٧٠٪ يرونها غير نظيفة، أما ٧٤٪ فقد أشاروا إلى أن المنطقة لا تترك علامة واضحة في الأذهان. تغيير ذلك لم يأت فقط من مقدم الفراعنة بكامل حالتهم من العالم الآخر، وإنما بإعداد مدينة مصرية كاملة تستعد لاستقبالهم ومن يأتي بعدهم بما يليق بهم، وما يناسب أحفادهم من المصريين الجدد. جرت عملية تحديث كامل للبنية الأساسية للمنطقة، وإنشاء مطار سفنكس الدولي، والمتحف المصري الكبير، وطريق الواحات- الفيوم بكل ملحقاته من تفريعات وجسور، وتطوير هضبة الأهرام كلها ومعها قرية نزلة السمان لكي تليق بالجوار الفرعوني الجديد. التكلفة الكلية للتطوير حتى الآن بلغت ٣٠ مليار جنيه منهم ٢٠ مليارا كانت للمتحف الكبير. التنفيذ جرى عن طريق الهيئة الهندسية للقوات المسلحة في واحد من أعظم أعمالها بطولة، ومعها هيئات عامة كثيرة، والقطاع الخاص المصري ممثلا في شركة أوراسكوم. بقيت تحية واجبة لهيئة المعونة اليابانية «جايكا» التي ساهمت ماليا وفكريا في تصميم المتحف، وكان إصرارها عجيبا، وإيمانها بمصر والمصريين وصلابتهم صلدا، حيث عاشت مع المشروع قبل أكثر من عشر سنوات صابرة على مناورات البيروقراطية حتى قارب أكبر مشروع تاريخي مصري على الانتهاء. بقيت ملاحظة شخصية وهي أننى ممن عاشوا في منطقة الأهرامات لثلاثة عقود تقريبا، وشاهدتها وهي تنهار إلى عشوائيات مرعبة، وأحمد الله لما وهبه من عمر لكى أشاهدها بعد بعثها كواحدة من أهم المناطق الحضرية في العالم.