يواجه اتفاق السلام السوداني الذي تم توقيعه في جوبا (عاصمة جنوب السودان)، في الثالث من أكتوبر 2020، بين الحكومة وعدد من الحركات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق؛ عقبات تتعلق بدمج الميليشيات المسلحة في الجيش أو رفض بعض الحركات الانضمام للاتفاق؛ ما يفرض على القاهرة الاضطلاع بأدوار مؤثرة في المرحلة المقبلة لإنفاذ الاتفاق.
سياقات السلام
جاء التفاوض على السلام الذي رعته جنوب السودان مدفوعًا برغبة ثورية في تخطي مظالم الماضي، التي عانت منها غالبية الأقاليم السودانية. غير أن المرحلة الانتقالية شهدت المزيد من التعقيد منذ اليوم الأول بسبب انعدام الثقة، والتي انعكست على الإجراءات والترتيبات الانتقالية، التي وصل إليها الأطراف بشق الأنفس، وقد بدت الفروقات البينية والأجندات المتضاربة والمصالح الضيقة بين الفرقاء السودانيين، تعلو المصالح العليا والرؤى الموحدة، ولعل خبرات وتجارب الماضي كانت أهم عامل لانعدام هذه الثقة، وغياب الرؤية الواضحة، وهو الأمر الذي انعكس بالتبعية على العملية التفاوضية؛ إذ كان لكل طرف رؤية وتصور مختلف حول مستقبل البلاد، وكيفية الوصول إليه.
شكّلت التحديات الأمنية التي تشهدها البلاد سياقًا ضاغطًا على كافة الأطراف السودانية. فالمواجهات القبلية وغياب القبضة الأمنية باتت ملامح رئيسية للمرحلة الانتقالية، وهو ما مثّل محفزًا للمجلس السيادي والحكومة الانتقالية اللذين كان عليهما مسارعة الزمن لإتمام الاتفاق الذي بموجبه ستنطلق عملية إعادة إرساء المؤسسات الأمنية والعسكرية، بينما أضفى السياق المعقّد الذي يكتنف عملية التفاوض قدرًا من انعدام المرونة، في وقت كان الوصول فيه إلى صيغة توافقية حول قضايا الأمن والسلام والتنمية ضرورةً لا غنى عنها، ما أدى -في نهاية المطاف- إلى دفعٍ من الأطراف المعنية إلى توقيع اتفاقٍ تبدو فيه البنود المختلَف حولها أكثر من المتوافق عليها، فضلًا عن غياب تصور شامل حول كيفية وضعه محل تطبيق، والتغلب على التحديات التي تعوقه، ناهيك عن استمرار بعض الأطراف والحركات السودانية خارج المشهد.
تحديات الاتفاق
تضمن الاتفاق ستة بروتوكولات لتقاسم السلطة والثروة وإحلال الأمن، وفقًا لصياغات أخذت طابعًا توافقيًّا بين الأطراف السودانية القائمة على المرحلة الانتقالية. حيث تم الاتفاق على ضمان مقاعد تمثيلية في كلٍّ من المجلس السيادي، والحكومة الانتقالية، والمجلس التشريعي، فضلًا عن ضمان نسبة من الثروة والسلطة المحلية لأعضاء الجبهة الثورية التي تضم الحركات المسلحة في عضويتها. وهو الأمر الذي بدا ظاهريًّا أنه تعويض عن عدم عدالة الماضي في تقاسم السلطة والثروة في الولايات والأقاليم المحلية؛ خاصة دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق.
وقد بدا تقاسم السلطة في اتفاق السلام السوداني وكأنه مواءمة بين أطراف تملك أدوات القوة والنفوذ، دون النظر في طبيعة استحقاقهم لتلك الامتيازات. فإذا كانت الولايات والمناطق السودانية عانت تهميشًا في السابق؛ فإن أفرادها يرون الاتفاق لا يشملهم، أو أنه نوع من استرضاء الحركات المسلحة التي حملت السلاح في السابق ضد نظام “البشير”، وأن الجبهة الثورية ليست معبرة عن كافة أطياف السودان. ومن ثم، يُعد ضمان حصة من المناصب لأعضائها، هو الاستئثار بالسلطة، وصورة منتقصة لمكونات ونسيج المجتمع المهمش.
هناك بعض الأطراف السودانية التي لم تنضم للاتفاق ومنها “عبدالواحد نور” صاحب أكبر فصيل مسلح في دارفور، بعدما أصرّ على ضرورة التفاوض على مبدأ علمانية الدولة، ناهيك عن عدم ثقته في “محمد حمدان دقلو” (حميدتي) نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، الذي حاربه سابقًا في دارفور. هذا فضلًا عن انسحاب حركة تحرير السودان – جناح “عبدالعزيز الحلو”، الأمر الذي يعكس -في مجمله- حالة التباين وعدم التوافق الذي تعاني منه الجبهة الثورية، والذي انعكس على الأجندة التفاوضية ومسار المفاوضات.
وقد انصرفت تحديات اتفاق السلام إلى الترتيبات المستقبلية، حيث تركت عديدًا من القضايا محل تساؤل عن كيفية اختراقها والتعامل معها بموجب تلك النصوص، التي لا تزيد على كونها عملية لاقتسام المناصب بين أطراف المرحلة، والتي اتضحت في الكوتة التي حصلت عليها الجبهة الثورية. وانعكس هذا الأمر على مسار الشرق الذي شهد احتجاجًا من بعض القبائل والأطياف غير المنضوية تحت لواء الجبهة الثورية، والتي قامت بإغلاق موانئ الشرق والطرق الرئيسية اعتراضًا على تمثيل الجبهة الثورية لهم في مسار الشرق. هذا فضلًا عن بقاء حالة الأمن في دارفور موضع تساؤل.
هناك ثمة تحديات جوهرية تواجه الاتفاق، لعل أبرزها دمج الميليشيات المسلحة، فضلًا عن اشتراط الحركات الغائبة عن الاتفاق حقَّ تقرير المصير إن لم تتوصل لاتفاق مُرْضٍ، وفي حال تمّ التوصل لاتفاق فإن أطراف الجبهة الثورية، المفترض بهم تقلد مناصب تنفيذية وقيادية، يفتقرون إلى المهارة والخبرة، اللهم إلا بعض قادتها من ذوي الخبرات، فضلًا عن تحدي التمويل في ظل الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها السودان.
رهانات الدور المصري
تعوّل الأطراف المشاركة في اتفاق السلام السوداني على الدور المصري في إقناع حركتي “عبدالعزيز الحلو” و”عبدالواحد نور” للانضمام للاتفاق، لا سيما في ظل العلاقات التاريخية التي تجمع البلدين، والوزن الإقليمي للقاهرة في الاتفاق، حيث تتوقع تلك الأطراف دورًا من القاهرة على عدة مستويات:
– تيسير التفاوض: انطلاقًا من الدور الذي لعبته مصر مع بدء المرحلة الانتقالية بدعوة الأطراف السودانية، وعقد العديد من اللقاءات مع قادة المرحلة الانتقالية، على غرار لقاءَي القاهرة والعين السخنة؛ يتوقع أفراد الحكومة الانتقالية والجبهة الثورية على السواء، أن تلعب مصر دورًا في دفع كل من “عبدالواحد نور” و”عبدالعزيز الحلو” للتوصل إلى اتفاق، بحسن نية، باعتبار مصر طرفًا مقبولًا لكافة الأطراف.
– حشد التمويل: يعاني السودان أزمات اقتصادية طاحنة تُعد أحد معوقات بناء السلام بالبلاد، فعقب توقيع الاتفاق، أطلقت وزارة التخطيط السوداني بعض المشاريع التنموية، وأعلنت عن تخصيص جزء من الميزانية العامة لمشاريع التنمية؛ إلا أن النسب المنصوص عليها في الاتفاق لإحداث التنمية لا تلبي المستهدف من مشروعات تنموية. ومع بقاء السودان في قائمة الإرهاب، طالبت الأطراف السودانية بدور مصري لحشد الدعم والتمويل لجهود التنمية السودانية، على غرار مؤتمر أصدقاء السودان بكل من السعودية وألمانيا.
– الدعم الفني: بموجب الترتيبات الأمنية التي نصّ عليها الاتفاق، يتعين في غضون تسعين يومًا البدء في ترتيبات دمج الميليشيات المسلحة التابعة للحركات، وفي هذه الجزئية فإنه بجانب الدعم الفني المتمثل في عقد التدريبات الرامية لبناء مؤسسة عسكرية احترافية، هناك حاجة لمزيد من إجراءات الثقة، التي بموجبها تسلم الحركات المسلحة ما لديها من أسلحة. هذا فضلًا عن الدعم الفني لإصلاح منظومة الشرطة والقضاء، التي تمتلك فيها مصر منظومة احترافية متقدمة، وهي الأدوار التي طالب بها كافة الأطراف.
في مقابل تلك الأدوار المتصوَّرة لمصر في مرحلة ما بعد توقيع اتفاق السلام السوداني، فإن ثمة قيودًا مطروحة، منها طبيعة البيئة الإقليمية والدولية، حيث يتنافس لاعبون إقليميون ودوليون آخرون مع مصر في الملف السوداني. وليس أدل على ذلك من الدعوة التي تلقاها رئيس الوزراء السوداني “عبدالله حمدوك” لزيارة قطر في الفترة المقبلة لبحث القضايا المشتركة، واستمرار الضغوط الأمريكية، فضلًا عن اللاعب الإثيوبي الذي لا يزال يحاول استقطاب السودان في مواجهة مصر. على الجانب الآخر، ثمة تحديات سياسية واقتصادية تركت السودان منفتحًا على كافة الأطراف الخارجية، ما قد يدفعه إلى التواصل مع أطراف قد تتقاطع أو تتناقض مصالحها مع القاهرة.
ــــــــــــــــــ
نقلا عن “تقديرات مصرية”، العدد (١٢)