عرفت معظم دول العالم فيروس كورونا وتداعياته المحيرة والمستمرة، ونال من مختلف المناحي وتناولته العديد من التحليلات؛ إلا أنه لم يتم بيان الموقف بالنسبة للجرائم والعقوبات بصورة جلية، حتى في مراكز البحوث والهيئات المعنية، التي تأثرت بالجائحة بطريق أو بآخر.
بداية، تجدر الإشارة إلى أن التعريف الكامل للجريمة هو ما حدد عناصرها إلى جانب بيانه لأثرها، بوصفها كل فعل غير مشروع صادر عن إرادة جنائية يقرر له القانون عقوبة أو تدبيرًا احترازيًا، والعقوبة جزاء يتناسب مع الجريمة، فتقدر بقدرها وهي لا تكون عادلة محققة وظيفتها في المجتمع إلا بهذا الشرط (مبدأ الشرعية)، والتدبير الاحترازي ليس جزاء إنما مجرد رد فعل اجتماعي يستهدف وقاية المجتمع خطرًا قد يتعرض له في المستقبل.
وكما ذكر “سيزار بيكاريا” في كتابه “الجرائم والعقوبات” الصادر عام 1764: “لا بد من إجراء تقييم شامل للقوانين بصورة عامة، والقوانين الجزائية بصورة خاصة من منظور يتقرر من خلاله ما إذا كانت القوانين تساهم في تحقيق أعظم قدر من السعادة المشتركة لأكثر عدد من الناس، ومن الأفضل –كما يلاحظ– أن نمنع الجرائم لا أن نعاقب عليها، وهذا هو الهدف الأساسي من كل التشريعات الجيدة. إنها فن إرشاد الناس إلى سعادتهم القصوى”. وقد عُرفت العديد من الجرائم والعقوبات بعد الجائحة، وأغلبها لم يكن معروفًا من قبل.
تأثير الجائحة على أنماط الجرائم ومعدلاتها
لقد خلفت الجائحة تداعيات طالت مختلف قارات العالم ونالت من الثمانية مليارات سكان الكرة الأرضية بطريق أو بآخر، سواء عن طريق إصابة أو وفاة أو آثار نفسية أو صحية أو اقتصادية أو اجتماعية أو آثار أخرى أنهكت المجتمع الدولي بأسره، ولا يبدو لها نهاية في القريب، حيث قدرها البعض بأربع سنوات، وآخرون لعقود قادمة. لكن المؤكد أنها تركت آثارًا كارثية، سواء على المدى القريب أو البعيد، العاجل والآجل. ومن المؤشرات يمكن التنبؤ بأن بعض العوامل أو كلها ستؤدي في النهاية إلى الحد أو القضاء على الجائحة، وهي توفير اللقاحات أو العلاج وبذل الجهود النافعة في هذا الأمر أو التحور، حيث يؤدي انتشار الفيروسات وانتقالها لعدد كبير من الأفراد إلى تحورها لنسخة أضعف تستطيع إصابة الكثير من الناس دون أن تقتلهم، وأخيرًا الوقاية واتخاذ الإجراءات الوقائية للحد من انتشار الجائحة. لكن الواضح أن (كوفيد-19) ليس له نموذج أو كتالوج يمكن اتباع نهج معين إزاء مواجهته سوى التجريب والمحاولة إلى أن يقضي الله أمرًا مفعولًا.
وقد أدى انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19) إلى التأثير على سلوك البشر الاجتماعي، وانتشر العمل والتعليم عن بعد، وعقد المؤتمرات أونلاين” في كافة دول العالم، وتراجعت الجرائم التقليدية وخاصة جرائم النفس والقتل والسرقة في بعض الدول إلى 50%، بينما ازداد الاحتيال الإلكتروني وجرائم الإنترنت والجريمة الإلكترونية والسيبرانية. ويحاول المجرمون البحث عن طرق جديدة للاستفادة من الأزمة، وخاصة المتعلقة بالمواد والمستلزمات الطبية والصحية والتي زادت بطريقة ملحوظة ومذهلة.
وفي تحليل آخر، جاء أن الإجراءات الاستثنائية والاحترازية التي قامت بها الدول في أعقاب تفشي كورونا ساهمت في تراجع الجرائم التقليدية وفقًا لبعض الدراسات، إلا أن الجريمة المنظمة استطاعت أن تُبدي قدرًا من التكيف مع هذه المتغيرات واستغلال الأزمة وتوظيفها لتحقيق أهدافها والاستمرار في سلوكها الإجرامي. ولقد تغيرت أساليب وطرق ارتكاب الجرائم (كمًا ونوعًا)، وعقوباتها، حيث جرمت أفعال لم تكن مجرمة من قبل (الترهيب أو نشر المرض عمدًا، “تعريض الغير للخطر” أو غيرها)، وظهرت أنماط جديدة في اتجاه الجرائم المتعلقة بالصحة بما يقتضي قيام الفقهاء والعلماء والأجهزة المعنية والتشريعية بالبحث عن الوضع القانوني لها. ويقينًا سيتغير العالم بعد كورونا على كافة المناحي، ومنها ما يتعلق بالجريمة والعقاب في ظل الجائحة غير المسبوقة في التاريخ، والتي مضى عليها أكثر من عام، وستشغل العالم لفترة طويلة قادمة.
وبالتالي فقد تغير نوع وأسلوب ونمط الجريمة بعد أن كانت “تقليدية” أو “مستحدثة”، كل منها بمفرداتها واتجهت الجريمة إلى منحى جديد. وإضافةً إلى تزايد الجرائم المتعلقة بالأدوية والمواد الطبية المختلفة والمستلزمات، فقد تصاعدت الجرائم الناشئة عن كورونا، مثل: الترهيب، نشر العدوى عمدًا، الاحتيال. وفي هذا نرى خلو القوانين من تنظيم هذه الجرائم التي يترتب عليها المساس بالمجني عليهم، وبما يشكل جريمة القتل أو الشروع فيه وليس إعطاء المواد الضارة كما قرر البعض، ذلك أنها من “جرائم الخطر”، إضافة إلى زيادة الجرائم السيبرانية بشكل ملحوظ، في الوقت الذي انخفضت فيه الجرائم التقليدية الأخرى بسبب دواعي الحظر والعزل واتساع الأساليب الاحترازية العديدة والبقاء بالمنازل حتى صار العمل عن بُعد هو السائد في دول العالم، وتعمل كافة الدول بنصف أو أقل من قدرتها على العمل.
ومن ناحية أخرى، اتجه الناس إلى التكالب على شراء السلع المختلفة مما يؤدي إلى الخلل بالأسواق والبيع بأزيد من الأسعار، وبما ينذر بوقوع الفوضى. وهناك تهديد للأمن القومي، لذا لجأت العديد من الدول إلى القوات المسلحة والجيوش لمواجهة الموقف المعقد، إضافة إلى قوات الشرطة التي تجابه المشكلة وتتصدى للجرائم وما أفرزه الواقع حتى استعانت بالتقنيات الحديثة في مواجهة المشكلة ومكافحة الجريمة واكتشاف الأوبئة عن طريق مراقبة تحركات المواطنين وتتبع الهواتف والطائرات المُسيرة لرصد مخالفات الحظر، واستخدام تقنية التعرف على الوجوه لكشف المرضى، وذلك في مخالفة لمبادئ حقوق الإنسان.
وتشير التقارير الدولية إلى انخفاض مستويات الجريمة بنسبة كبيرة في مختلف دول العالم، خاصةً جرائم المرور وحوادث الطرق والنشل والسرقة والاغتصاب والقتل، وأرجع البعض ذلك لتواجد المواطنين في مساكنهم والشرطة في الشوارع، وزيادة جرائم العنف المنزلي والتعدي والسلوك العدواني بالمنازل وجرائم تجارة السلع والقضايا التموينية والمستلزمات الطبية والأدوية المزيفة، والاعتداء على الأطقم الطبية، والمخالفات المتعلقة بالشعائر الدينية والجرائم السيبرانية. إضافة إلى تنامي عمليات الإرهاب، وإن كانت بعض الجماعات الإرهابية قد أرجأت أنشطتها خوفًا من العدوى، ثم قامت بالعديد من الأعمال فيما بعد.
العقوبات.. دعوة لإعادة النظر
نتيجة اكتظاظ السجون ونفقاتها الباهظة ولمنع انتشار الأوبئة فهناك اتجاه عام إلى التوجه نحو العقوبات غير الاحتجازية أو بدائل الحبس، وأكثرها أهمية العمل للنفع العام بدون أجر، أو الغرامات المختلفة أو الإقامة بأماكن معينة، أو السوار الإلكتروني (المراقبة في المنزل)، والتوسع فيها واستحداث المزيد منها، والعمل بها وفق ما جاء في القوانين المقارنة، واللجوء إلى العقوبات البديلة كالاختبار القضائي والمراقبة الإلكترونية والعقوبات المدنية والإدارية.
السؤال هو: هل نرى في زمن “كورونا” جرائم جديدة ومن ثم عقوبات جديدة؟ وهل من المتوقع أن نرى في القوانين والتشريعات تجريمًا لهذه الأفعال؟ وهل من المناسب إنشاء الشرطة الصحية التي تم اقتراحها لمواجهة الأمور والمستجدات والجوائح نظرًا لزيادة الأعمال وتنفيذ الإجراءات الاحترازية وتوزيع اللقاحات، والتي تستمر حتى بعد الجائحة؟.
وتوجد بعض العقوبات المناسبة والملائمة، خاصة غير الاحتجازية نحو الغرامات المتنوعة أو العمل للمنفعة العامة دون أجر، أو الإسورة الإلكترونية، أو البحث عن عقوبات بديلة أخرى في القوانين المقارنة وهي كثيرة، وتسمح بها المواثيق الدولية والشرائع السماوية، وذلك لعدم انتشار الأوبئة أو اكتظاظ السجون ومنعًا من الاختلاط. وقد تم اللجوء إلى إجراءات أمنية وإدارية واحترازية قد لا تتفق في بعضها مع حقوق الإنسان وذلك للصالح العام.
وقد لزم أن يتم دراسة الموضوع من كافة جوانبه، وأن تقوم الجهات المعنية التشريعية والتنفيذية بدورها في هذا الشأن، مع الأخذ في الاعتبار العقوبات الواجبة التنفيذ بعيدًا عن السجون وعيوبها، والتوسع في العقوبات البديلة وغير الاحتجازية من الغرامات التقليدية إلى الغرامات اليومية والمعروفة في معظم دول العالم حتى التدابير الاحترازية السابق المناداة بها تحت مظلة الأمم المتحدة والتي صدر بشأنها القواعد المنظمة، حيث ما زال فيروس كورونا قائمًا ومستمرًّا وطال معظم دول العالم، وانتشرت الجائحة وتمددت في كافة الأنحاء، ومن الواضح أنها ستستمر لفترة طويلة قادمة (ربما شهور أو سنوات) حتى يُوجد اللقاح المؤكد والشافي، ولن تفلح اللقاحات إلا إذا تم تطعيم غالبية سكان الكوكب، وان اختلفت وتنوعت وتطورت، في الحد من الفيروس المحير والمتطور والموجات والسلالات المتعاقبة، وحتى اللقاحات المختلفة (الحقن والاستنشاق وغيرها)، وقد نتج عن ذلك العديد من الأمور السلبية، خاصةً ما تعلق بالجريمة والعقاب وتداعياتها وظهور أنواع وأنماط جديدة منها.
وتؤكد كافة المؤشرات على أنه من المناسب أن يتم تدارك هذه الأمور وإصدار التشريعات التي يشارك فيها -غير رجال القانون– أساتذة وعلماء من تخصصات مختلفة لوضع الأمور في نصابها، خاصةً في عالم ما بعد كورونا، والتعامل مع الجائحة على نحو أكفأ خلال الفترات المختلفة (الأولى، الثانية، الثالثة) وحتى النهائية منها لاتخاذ الملائم في كل فترة، وبما يتلاءم مع ظروف وإمكانيات كل دولة، وذلك على كافة السُبل والمناحي بأساليب جديدة ومبتكرة وأفكار من خارج الصندوق، في إطار توسع مفهوم الأمن الإنساني أو البشري الشامل والمتكامل الذي يركز على الفرد والجماعة وعلى محاوره ومكوناته المختلفة؛ الاقتصادي، والصحي، والغذائي، والبيئي، والشخصي، والمجتمعي، والسياسي، وذلك دون ترتيب أو أولوية.
وفي النهاية فإنه لا يجب إغفال تحديات التنمية المستدامة، مع إعادة وضع أولويات لها، خاصة ما يتعلق بالصحة وبتغير المناخ، والأمن الإنساني، ويجب الاهتمام بالأهم ثم المهم حفاظًا على البشرية والرفاه والبقاء وحرية الإنسان، وإرجاء باقي الأهداف إلى السنوات المقبلة، والإعداد الجيد لمؤتمرات منع الجريمة (مارس – كيتو باليابان) ومجموعة العشرين (نوفمبر – باري بايطاليا) لمواجهة آثار الجائحة والمسائل المالية والعملات الافتراضية والأمور الأخرى، وتغير المناخ (نوفمبر-جلاسكو بأستكلندا) وغيرها المزمع عقدها عام 2021 تحت مظلة الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية أو الإقليمية الأخرى، اتجاهًا إلى النظام العالمي الجديد بعد فيروس كورونا.