بلغة نووية رصينة ومنضبطة يتحدث العالم بلسان فصيح. لغة تجيد كلاً من أمريكا وروسيا وأوروبا استخدام مفرداتها النووية وتوظيفها بما يخدم المعني المراد حتي وإن اختلفت الألسنة. يبدع كل طرف من الأطراف الثلاثة في استخدام مصطلحاته النووية وإطلاقها في الوقت المناسب قبل أن يطلق الذخائر. تحمل الكلمات الرسائل بشكل لا لبث فيه قبل أن تحملها صورايخ بالستية عابرة للقارات قد تطلق من منصات ثابتة أو متحركة أو من تحت الأرض. تتخفي التورية خلف الكلمات مثلما تتخفي تحت الماء غواصة نووية لديها القدرة علي التسلل والوصول إلي أهدافها بكل ثبات وبشكل مباغت. تحلق قاذفاتها في الجو بسرعات كبيرة تفوق سرعة الصوت بأضعاف وهي تعلم أين تشكل لهيبها ومتي ليس بعلامات علي أبجدية منمقة وإنما بنظام ملاحة دقيق. صياغة نووية مليئة باستعراض مواطن الجمال ليس بالاستعارات أو الكنايات وإنما باستعراض قوة الثالوث النووي للدول العظمي وإمكاناتها النووية في البر والبحر والجو. يأتي اعلان القيادة الاستراتيجية الأمريكية (استراتكوم) القيام بمناورات الرعد الكوني أو العالمي أو الشامل (GT 23) السنوية المعتادة مع شركائها وحلفاؤها وسط تأكيد علي مشاركة بريطانيا -الحليف الرئيسي- ليضع الثالوث النووي للدول العظمي علي كفتي ميزان بما تمتلكه من أسلحة نووية مختلفة. لقد بات الاطمئنان علي جاهزية أسلحة الردع الإستراتيجي ومدي موثوقيتها عملاً استعراضياً أكثر من كونه اجراءاً روتينياً -حتي وإن أكد البعض غير ذلك- في ظل عام وأكثر مر علي حرب روسية أوكرانية لم تخمد نيرانها بعد.
القيادة الإستراتيجية الأمريكية
وفقًا لوزارة الدفاع الأمريكية فإن كلًا من عناصر الجيش، مشاة البحرية، البحرية، القوات الجوية، القوة الفضائية وخفر السواحل، تشكل قوام القوات المسلحة للولايات المتحدة الأمريكية في حين يعد الحرس الوطني للجيش والحرس الوطني الجوي مكونين احتياطيين ويعملان جزئيًا تحت سلطة الدولة. ويوجد بوزارة الدفاع الأمريكية 11 قيادة مقاتلة، لكل منها مهمة جغرافية أو وظيفية محددة تقوم من خلالها بممارسة مهام القيادة والسيطرة على القوات العسكرية في حالات السلم والحرب.
القيادة الأفريقية: وتختص بحماية والدفاع عن مصالح الولايات المتحدة من خلال تعزيز القدرات الدفاعية للأمم الأفريقية.
القيادة المركزية: وتهتم ببناء أطر التعاون بين الدول في منطقة الشرق الأوسط لمجابهة الأزمات والدفاع ضد التهديدات والحفاظ علي استقرار المنطقة.
القيادة السيبرانية: تعمل علي الدفاع عن المصالح الوطنية ضد الهجمات والتهديدات السيبرانية.
القيادة الأوروبية: تعمل مع الناتو وبعض الشركاء لنشر الأمن، والدفاع عن أوروبا وأجزاء من الشرق الأوسط وأوراسيا.
قيادة المحيط الهادئ: تعمل علي تعزيز الأمن وضمان الاستقرار وتقديم المساعدات الإنسانية.
القيادة الشمالية: الأولوية الأولي لهذه القوات هي الدفاع عن الولايات المتحدة من خلال الردع والكشف عن ومجابهة التهديدات المختلفة عن طريق تعزيز التعاون الأمني مع الحلفاء والشركاء.
القيادة الجنوبية: تعمل مع الشركاء والحلفاء عبر جنوب ووسط أمريكا لتعزيز السلام وحقوق الإنسان والقضاء علي الأنشطة غير المشروعة بمناورات عسكرية مشتركة مع دول أخري.
قيادة الفضاء: تعمل علي الدفاع عن المصالح الأمريكية في الفضاء بالتعاون مع الشركاء والحلفاء.
قيادة العمليات الخاصة: تشرف على مختلف مكونات العمليات الخاصة للقوات المسلحة.
القيادة الإستراتيجية: تختص بمنع والكشف عن الهجمات التكتيكية التي تتعرض لها الولايات المتحدة عالمياً.
قيادة النقل: تختص بتوفير قدرات النقل اللازمة للجيش.
تقع القيادة الإستراتيجية الأمريكية في قاعدة أوفوت الجوية بالقرب من أوماها، نبراسكا وتمارس عملها تحت شعار “السلام وظيفتنا…”، ويترأسها الجنرال أنتوني ج. كوتون وهو يشغل منصب القائد الأعلى للقوات العسكرية الموحدة من جميع الفروع الخمسة للجيش المكلفة بالقيادة. ويعتبر قائد القيادة الاستراتيجية هو المسؤول والمدافع عن القدرات الاستراتيجية للأمة الأمريكية. وتقوم القيادة الإستراتيجية بمهام التنسيق والتكامل لتوفير المعلومات الدقيقة في الوقت المناسب لكل من الرئيس ووزير الدفاع والقيادات الوطنية الأخرى والقادة المقاتلين.
تتمثل مهمة القيادة الإستراتيجية في ردع الهجوم الاستراتيجي وتوظيف القوات، حسب التوجيهات، لضمان أمن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. تسمح القيادة بالعمليات العسكرية المشتركة كما أنها هي القيادة المقاتلة المسؤولة عن العمليات الخاصة بالردع الاستراتيجي والعمليات النووية والقيادة النووية والتحكم والاتصالات (NC3) وعمليات الطيف الكهرومغناطيسي المشتركة والدفاع الصاروخي والتحليل والاستهداف و تقدير التهديدات الصاروخية. وبناءً علي ما سبق، فإن القيادة الإستراتيجية تعتبر مصدرًا هامًا للقيادة الوطنية لفهم أعمق لتهديدات محددة حول العالم ووسائل الاستجابة لهذه التهديدات بسرعة. ويعتبر مركز العمليات الشاملة “”GOC هو بمثابة العصب الرئيسي للقيادة الإستراتيجية ويمثل الآلية التي يتم من خلالها قيادة العمليات والسيطرة على القوات.
مناورات الرعد الشامل
أعلنت القيادة الإستراتيجية للولايات المتحدة أن القوات الأميركية ستجري مناورات لإختبار مدي الجاهزية النووية، ونصت في بيانها: “ستبدأ القيادة الإستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية تدريباتها السنوية على القيادة والسيطرة على القوات النووية في 11 أبريل 2023” . وقد أشار الإعلان إلى أن مثل هذه التدريبات تقام سنويا وليست ردًا على تصرفات أي دولة. والهدف الرئيسي من هذه التدريبات هو تقييم جاهزية القوات النووية وقدرات الردع الإستراتيجي. وأكدت أن حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين، بما فيهم بريطانيا، سيشاركون في التدريبات. وتجدر الإشارة إلي أن مناورات الرعد الشامل تجري لمدة تقارب 10 أيام سنويًا وبشكل اعتيادي في نهاية شهر أكتوبر وقد تستمر لشهر نوفمبر إلا أنه قد تم تأخيرها العام الماضي 2022 لتجري في العام الحالي 2023.
وفي ذات السياق، فإن روسيا قد قامت بإجراء مناورات نووية في أوقات سابقة وبالتزامن معها كما قام حلف الناتو باستعراض قوته النووية من خلال مناورات سميت “الظهر الصامد” steadfast noon وهي مناورات روتينية سنوية للحلف قام بها لاختبار جاهزية أعضائه لأي ضربة نووية محتملة.
الثالوث النووي الأمريكي
يشير مصطلح الثالوث النووي إلى الطرق التي يتم من خلالها إطلاق الأسلحة النووية وهي ثلاث طرق رئيسية إما عن طريق البر أو البحر أو الجو أو يمكن وصفها بثلاث مكونات، قاذفات قنابل استراتيجية، صواريخ باليستية عابرة للقارات، وصواريخ بالستية تطلق من الغواصات. وتهدف أي دولة من امتلاك نظام نووي بثلاث مكونات إلي خفض المخاطر الناجمة عن التدمير الكامل لقوتها النووية من قبل الخصوم حال تلقيها لضربة أولي بالإضافة إلي زيادة قدرتها علي الرد بضربة أخري. تمثل الركائز الثلاث للثالوث النووي الأمريكي العمود الفقري للأمن القومي الأمريكي ويوفر الثالوث، جنبًا إلى جنب مع القوات المعنية، الردع على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع لمنع الأعمال العدائية من خصوم الولايات المتحدة وتقديم استجابة حاسمة، في أي مكان وفي أي وقت.
تختلف التقديرات بشأن حجم الترسانة النووية العالمية وبحسب التقرير السنوي لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام لعام 2022 وكذلك تقرير جميعة العلماء الأمريكيين “فاس” فإن الترسانة النووية العالمية تبلغ أكثر من 12 ألف رأس نووي تمتلك الولايات المتحدة وروسيا أكثر من 90% منها. وتشير المعلومات إلي أن هذه الترسانة منها ماهو في وضع الاطلاق الإستراتيجي ومنها ماهو في وضع التخزين ومنها ماهو في وضع التقاعد، وتجدر الإشارة إلي أن دولاً أخري مثل بريطانيا وفرنسا والصين وكوريا الشمالية والهند وباكستان وإسرائيل تمتلك أسلحة نووية ولكن بأعداد أقل. وتجدر الإشارة إلي أن روسيا في وقت سابق قد علقت مشاركتها في معاهدة ستارت الجديدة وهي المعاهدة المعنية بمراقبة الأسلحة النووية.
الاستجابة في البر
يشكل ما يصل إلى 400 صاروخ من طراز “مينيوتمان 3” Minuteman III والذي يعرف اختصاراً باسم “MM3” الجزء الأكثر استجابة في الثالوث النووي الأمريكي وهي موزعة علي خمس ولايات أمريكية، وقد ظلت القوة الأمريكية من الصواريخ البالستية العابرة للقارات في حالة تأهب مستمر على مدار الساعة منذ عام 1959. وتعمل الولايات المتحدة علي تحديث برنامج الردع الاستراتيجي الأرضي لها من خلال استبدال مينيوتمان 3 بمنظومة “GBSD” أي منظومة الردع الاستراتيجي الأرضي فضلاً عن تحديث 450 منشأة إطلاق صواريخ باليستية عابرة للقارات في عام 2029.
مينيوتمان، هو نظام سلاح استراتيجي يستخدم صاروخًا باليستيًا عابرًا للقارات، تم تصميمه في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وتم نشر مينيوتمان 1 في أوائل الستينيات، أما مينيوتمان 3 فقد دخل الخدمة في السبعينات وقد مثل مينيوتمان مفهومًا ثوريًا وإنجازًا تقنيًا غير عادي حيث أن كل صاروخ يحمل ثلاثة رؤوس حربية منفصلة،يمكنها أن تدمر ثلاثة أهداف مختلفة بقوة تدميرية عالية. وتوضع الصواريخ داخل صوامع صلبة لحمايتها من الهجمات وتكون متصلة بمركز للتحكم في الإطلاق تحت الأرض. تقوم أطقم الإطلاق، المكونة من ضابطين، بإرسال تنبيهات على مدار الساعة في مركز التحكم في الإطلاق، وتوفر مجموعة متنوعة من أنظمة الاتصالات للرئيس ووزير الدفاع اتصالًا مباشرًا وموثوقًا للغاية وفوريًا مع كل طاقم إطلاق. وفي حالة فقدان القدرة على القيادة بين مركز التحكم في الإطلاق ومنشآت إطلاق الصواريخ عن بُعد، فإن طائرات مركز التحكم في الإطلاق المحمولة جواً E-6B التي تم تكوينها خصيصًا تتولى القيادة والسيطرة تلقائيًا على الصاروخ وتنفيذ أوامر الرئيس فور تلقيها.
الاستجابة في البحر
تتم من خلال غواصات الصواريخ الباليستية وهي تعتبر بمثابة منصات لإطلاق الصواريخ الباليستية لا يمكن اكتشافها. وتمثل غواصات الصواريخ البالستية SSBN من فئة أوهايو جزءًا مهمًا في الردع الإستراتيجي البحري الأمريكي وعددها 14 غواصة وتمتاز بقدرتها علي التخفي والتسلل والإيصال الدقيق للرؤوس الحربية النووية. يسمح تصميم فئة أوهايو للغواصات بالعمل لمدة 15 عامًا أو أكثر بين عمليات الإصلاح الرئيسية. وفي المتوسط، تقضي الغواصات 77 يومًا في البحر تليها 35 يومًا في الميناء للصيانة، وكل غواصة لديها طاقمان أزرق وذهبي يتناوبون على قيادتها في دوريات، ويؤدي هذا إلى زيادة الأوقات التي تكون فيها الغواصة متاحة للقيام بمهامها مما يقلل من عدد الغواصات المطلوبة لتلبية المتطلبات الاستراتيجية ويسمح بتدريب الطاقم المناسب. علي الرغم من تلك المزايا لهذا النوع من الغواصات إلا أنها قد تقادمت وسيتم استبدالها بغواصات SSBN من فئة كولومبيا في عام 2030.
الاستجابة في الجو
يوفر أسطول القاذفات الأمريكية مجموعة من خيارات الاستجابة التقليدية والنووية، ويتألف أسطول القاذفات من 46 طائرة من طراز “B-52H Stratofortress” قادرة على حمل أسلحة نووية و 20 طائرة من طراز “B-2A Spirit” وهو الجزء الأكثر مرونة في الثلاثي حيث أنه لديه القدرة على توفير قوة نيران هائلة في وقت قصير في أي مكان في العالم حتي في ظل وجود دفاعات متقدمة.
وتشير المعلومات إلي أن القاذفة B-52 هي قاذفة ثقيلة بعيدة المدى يمكنها أداء مجموعة متنوعة من المهام حيث يمكن أن تحمل أسلحة نووية أو تقليدية موجهة بدقة ومن المقرر لها أن تظل في الخدمة بعد عام 2040 بينما القاذفة B-2 Spirit هي قاذفة شبح متعددة المهام قادرة على إيصال أسلحة تقليدية ونووية، وقد حلت B-21 Raider محلها بدءًا من منتصف عام 2020.
مجمل القول، تمتلك الدول العظمي ثالوثًا نوويًا قادرًا علي إحداث حالة من التوازن والتعادل بين كفتي ميزان إحداها في الشرق تقف عليها روسيا والأخري في الغرب تقف عليها أمريكا وحلفاؤها الغربيين. هذه القدرات النووية سواء كانت استراتيجية أو تكتيكية يتم التلويح بها حينًا أو استعراضها حينًا إلا أنها مازالت قابعة في منطقة الردع ولن يكون خروجها لمنطقة الاستخدام الهجومي بالأمر الهين أو القرار السهل لأن خروجها قد يدمر الميزان نفسه وهو أمر تعيه كافة الأطراف التي تقف علي كفتيه. إن الموضوع يشبه سلم موسيقي تتدرج نغماته السبعة صعودًا وهبوطًا مابين تعليق لمعاهدة، وتلويح بيورانيوم منضب، ونشر لأسلحة غير استراتيجية، وحروب كلامية، وصراعات دبلوماسية، واستقطاب دولي، واستعراض بمناورات نووية عسكرية إلا أن اللحن لم ينفلت للنشاز حتي الآن.
ببرنامج السياسات العامة