في 14 فبراير 2021 جرت في إقليم كتالونيا انتخابات محلية بعد ثلاث سنوات من أزمة الانفصال عن إسبانيا، وقد شهدت الانتخابات تراجعًا في نسب التصويت مقارنة بعام 2017, إذ انخفضت من 79% لتصبح 40% في التصويت الأخير. جاءت النتائج بفوز 8 أحزاب من مختلف التيارات السياسية، فيما لم يستطع أي حزب الحصول على الأغلبية الكافية لتشكيل الحكومة الإقليمية منفردًا، مما يفتح الباب لعقد ائتلافات حزبية لتقاسم السلطة وسط أجواء توتر وخلافات داخلية وأخرى مع العاصمة مدريد.
أهمية كتالونيا وجدوى الانتخابات
تاريخيًا أصبح إقليم كتالونيا جزءًا من إسبانيا في 20 يناير 1479. يتمتع بالحكم الذاتي منذ عام 1931, بالإضافة للخصوصية السياسية، يتحدث الإقليم لغة مختلفة خليطًا ما بين الفرنسية والإيطالية تسمى “الكتلانية” أو الكتالونية. يقع إقليم كتالونيا في شمال شرق إسبانيا، ويحده من الشمال فرنسا وأندروا، وشرقًا البحر المتوسط. يتكون الإقليم من أربع مقاطعات (برشلونة العاصمة، جرندة، ليريدا، تاراغونا). تكمن أهمية الإقليم من عدة زوايا جغرافية ناتجة عن موقعه الهام على البحر المتوسط. اقتصاديًا، ينتج الإقليم حوالي 20% من الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا، وثلث الإنتاج الصناعي.
مر الإقليم بعدة محطات هامة شملت السيطرة الإسبانية ثم الاحتلال الفرنسي، والرجوع مرة أخرى لإسبانيا والحكم الذاتي، يليه الاصطدام مع الحكومة المركزية في مدريد إبان عهد الجنرال فرانكو، ثم أخيرًا أزمة إعلان الاستقلال الأحادي في 2 أكتوبر 2017 وقت تولي المحافظين برئاسة راخوي الحكومة الإسبانية. تعود جذور الأزمة عند تبني برلمان كتالونيا في السابع من سبتمبر 2017 قانونًا ينصّ على تنظيم استفتاء لتقرير مصير الإقليم. أقر القانون بغالبية 72 صوتًا من أصل 135 صوتًا إجمالي نواب البرلمان الكتالوني. فيما امتنع 11 نائبًا عن الإدلاء بأصواتهم، واعتبر نواب المعارضة أن التصويت غير قانوني. من جهتها، طالبت الحكومة الإسبانية المحكمة الدستورية بإلغاء التصويت. استمر قادة الانفصال في كتالونيا في خطتهم وعقدوا الاستفتاء في 1 أكتوبر 2017، معلنين أن 90% ممن أدلوا بأصواتهم من سكان كتالونيا قد أيدوا الانفصال عن إسبانيا. لم تعترف حكومة راخوي باستفتاء الاستقلال الكتالوني، وفعّلت المادة 155 من الدستور الإسباني التي تنص على “يجوز للحكومة، بموافقة الأغلبية المطلقة في مجلس الشيوخ، أن تتخذ التدابير اللازمة لإجبار المجتمع المتمتع بالحكم الذاتي على الوفاء بالالتزامات المذكورة في الدستور أو القوانين الأخرى”، وهو ما يعني حق الحكومة المركزية بمدريد في إلغاء نتيجة الاستفتاء وعدم الاعتراف بها، وبل وحقها في تقليص سلطات الحكومة المحلية في كتالونيا أو استبدالهم بممثلين عن السلطة المركزية من مدريد. عقب ذلك اعتقلت الحكومة الإسبانية عددًا من سياسيي وزعماء الانفصال الكتالونيين، ومنهم زعيم حزب اليسار الجمهوري “أوريول جونكويراس”، فيما استطاع رئيس الإقليم “كارليس بوجديمونت” وزعيم حزب “معًا لأجل كتالونيا” الهروب لبلجيكا.
ولعل رفض إسبانيا انفصال كتالونيا ليس فقط بسبب أهميتها الاقتصادية، بل تبعات ذلك من انفراط وحدة الدولة، والتي عانت أيضًا من رغبات انفصالية أخرى من قبل إقليم الباسك في الشمال الذي سيطرت عليه حركة “إيتا” المسلحة والتي توقفت عن العنف في أبريل 2017 بعد مقتل حوالي 800 مواطن خلال أربعة عقود من المواجهات المسلحة مع مدريد. ومن هنا ليس سهلًا على الحكومة المركزية قبول فكرة استقلال كتالونيا.
خريطة حدود كتالونيا ومقاطعاتها
تأتي أهمية الانتخابات الكتالونية كونها أُقيمت بعد ثلاثة أعوام من عدم الاستقرار السياسي في إسبانيا بصفة عامة، بداية من سحب الثقة من حكومة المحافظين -بقيادة مارينو راخوي- في يونيو 2018، ثم إجراء الانتخابات المركزية مرتين خلال عام 2019, وكذلك محاولات مدريد التفاوض مع كتالونيا على منحها مزايا وسلطات أخرى تعزز من إدارة الحكم الذاتي، وذلك وسط انقسام في الأحزاب الانفصالية الكتالونية, وبقاء عدد من قادة الانفصال في السجن منذ أكتوبر 2017، وإن منحهم رئيس الوزراء الإسباني “بيدرو سانشيز” ميزة نسبية بوضعهم في سجون برشلونة بدلًا من بقائهم مدريد. سانشيز كان يأمل في فوز فرع الحزب الاشتراكي في برشلونة ” pse-pose”, بزعامة وزير الصحة السابق “سلفادور إيلا” الذي استقال للترشح في كتالونيا. وعلى الجانب الآخر، تطلعت الأحزاب الانفصالية لتحقيق أكبر مكاسب انتخابية تمكنهم من إدارة الإقليم والسعي نحو الاستقلال عن إسبانيا، غير أن النتائج لم تلبِّ طموحات الطرفين.
نتائج تعزز من الانقسام
عكست نتائج الانتخابات في كتالونيا حالة الانقسام السياسي المسيطرة على الإقليم سواء بين الأحزاب المتنافسة أو عند المواطنين. فبالإضافة لتراجع شعبية أحزاب كبرى مثل المحافظين، تمكن حزب فوكس اليميني المتطرف من الدخول لأول مرة في البرلمان الكتالوني، فيما تقاربت كفة الأحزاب المؤيدة للانفصال والرافضة له. ويمكن رصد مؤشرات النتائج بالتفصيل من خلال الجدول التالي:
جدول(1): نتائج الانتخابات الكتالونية في عام 2021 مقارنة بعام 2017

من الجدول السابق يمكن استنتاج عدة ملاحظات منها:
1. زادت شعبية الحزب الاشتراكي الكتالوني (فرع الحزب الاشتراكي الحاكم في مدريد) بقيادة وزير الصحة السابق “سلفادور إيلا”، واستطاع أن يضيف لمقاعده 16 مقعدًا إضافيًا مستغلًا حالة ركود الأوضاع السياسية في الإقليم، وتبني خطاب تصالحي مع كل الطوائف. صحيح أن خطاب “إيلا” لم يمكنه من حصد الأغلبية المطلقة التي تمكنه من تشكيل حكومة في كتالونيا، لكنه على الأقل منحه فرصة عقد ولو حكومة أقلية.
2. استمر حزب الشعب المحافظ في التراجع بخسارة مقعد من أصل أربعة امتلكها في البرلمان السابق وربما يكون ذلك لسوء العلاقة بين حكومة راخوي -المحافظة السابقة- مع كتالونيا منذ 2017، واعتقال قادة الأحزاب الانفصالية، وقضايا الفساد التي تورط بها الحزب.
3. حزبا ائتلاف الحكومة الحالية في كتالونيا من “اليساري الجمهوري” و”معًا من أجل كتالونيا” لم يحدث بهما فارق كبير، فبينما ربح الأول مقعدًا واحدًا فقط، خسر الثاني مقعدين, مما يعني عدم حدوث تحول مهم في شعبيتهما, مع الأخذ في الحسبان عزوف 60% من الناخبين عن الإدلاء بصوتهم.
4. البرلمان الحالي الكتالوني شديد الانقسام، فالأحزاب الثمانية رغم انقسامها لمعسكرين، أحدهما مؤيد للانفصال وآخر يرفضه، وكان من الأولى أن يتحد كل فريق ويشكل تحالفًا لتشكيل حكومة لكن الواقع عكس ذلك تمامًا، فالأحزاب الانفصالية تختلف في آلية تعاملها مع مدريد كما تختلف أيديولوجيًا، وهذا ربما يعوق أو يمد أجل تشكيل الحكومة. أما المعسكر الرافض للانفصال فهو مقسم ليمين ويسار، ووسط ومتطرف. فعلى سبيل المثال، أعلن مبكرًا “إيلا” -وزير الصحة السابق- نيته عدم التحالف مع حزب فوكس اليميني المتطرف مما يخرجه مبكرًا من أي ائتلاف قادم.
5- خسر حزب “المواطنون” ذو التوجه الليبرالي 30 مقعدًا, توزعت على الاشتراكي (16 مقعدًا) واليمين المتطرف (10 مقاعد) وحزب “الترشيح من أجل الوحدة الشعبية” (4 مقاعد), وهذا يعني أن الخاسر الأكبر في توزيع المقاعد ليس فقط حزب “المواطنون” بل المعسكر الرافض للانفصال لأنه في المجمل خسر 4 مقاعد ذهبت للانفصاليين فجعلتهم من 70 مقعدًا في عام 2017 إلى 74 مقعدًا في 2021, ليس هذا فحسب بل ظهور اليمين المتطرف في البرلمان الكتالوني لأول مرة خسارة أيضًا للمعسكر الرافض للانفصال، فمقاعد فوكس (اليميني المتطرف) ربما ترجح كفة ائتلاف عن الآخر, على عكس لو ربح تلك المقاعد الحزب الاشتراكي أو فرع بوديموس في كتالونيا.
6. الانتخابات الكتالونية هذا العام تتقارب مع استطلاعات الرأي التي أظهرت ميل المواطنين نحو الانفصال بفارق ضئيل، حيث بلغت نسبة المؤيد للانفصال حوالي 47.7% والرافض 44.5%، وهذا يفسر عدم ترجيح كفة أي حزب من الأحزاب المتنافسة وكأنها فقط لعبة تباديل وتوافيق بين الجانبين الرافض والمؤيد.
أما فيما يخص مناطق نفوذ الأحزاب الكتالونية والتغير في مقاعدها طبقًا للتوزيع الجغرافي ما بين عامي 2017 و2021
فيمكن بيانها كلتالي:
١. برشلونة لديها 85 مقعدًا في البرلمان الكتالوني، نالت الأحزاب الرافضة للانفصال في انتخابات 2021 (الاشتراكي- فوكس- كومبوديوم- المواطنون- الشعب) 45 مقعدًا لتخسر بذلك مقعدين عن انتخابات 2017 التي نالت فيها 47 مقعدًا، فيما حصلت الأحزاب الانفصالية (اليساري الجمهوري- معا من أجل كتالونيا- الترشيح من أجل الشعبية) على 40 مقعدًا بزيادة مقعدين عن انتخابات 2017 التي حصلت فيها على 38 مقعدًا.
٢. في مقاطعة جرونا خسرت الأحزاب الرافضة للانفصال مقعدًا لتتراجع من 5 مقاعد في انتخابات 2017 ليصبح لديها 4 في 2021. فيما ارتفعت مقاعد الأحزاب الانفصالية من 12 إلى 13.
٣. في مقاطعة لاردة ارتفعت مقاعد الأحزاب الرافضة للانفصال من 1 مقعد في 2017 إلى 4 في 2021, وتراجعت الأحزاب الانفصالية من 14 مقعدًا إلى 11.
٤. في مقاطعة تارجوانا تراجعت الأحزاب الرافضة للانفصال من 8 في 2017 لتصبح 7 في 2021, فيما ربحت الأحزاب الانفصالية مقعدًا في 2021 لتصبح مقاعدها 11 مقعدًا.
٥. على مستوى المقاطعات الأربع الكتالونية تتفوق الأحزاب الانفصالية في ثلاث وهي (جرونا- لاردة- تاراجونا) وتتفوق الأحزاب الرافضة للانفصال في برشلونة فقط. وعلى مستوى الانخفاض والارتفاع في الدعم, ارتفعت الأحزاب الرافضة للانفصال في مقاطعة “لاردة” وحصلت على 3 مقاعد إضافية مما يعني زيادة الدعم لها في تلك الولاية, في المقابل ارتفع دعم الأحزاب الانفصالية في المقاطعات الثلاث الأخرى (برشلونة– جرونا- تاراجونا) لتحصل على 4 مقاعد إضافية، وهو ما رفع مقاعدها في البرلمان الكتالوني عامة لتصبح 74 مقعدًا بدلًا من 70 مقعدًا حصلت عليها في 2017.
سيناريوهات محتملة
طبقًا للنتائج المعلنة والتصريحات التي أدلى بها قادة الأحزاب فإن هناك عدة سيناريوهات محتملة لتشكيل حكومة كتالونيا وهي كالتالي:
1. حكومة أقلية: السيناريو الأول قيام “سلفادرو إيلا” الزعيم الاشتراكي بتشكيل حكومة أقلية مع حزب “كوموبوديم”، وهو الحزب الذي يمثل فرع بوديموس اليساري المتطرف في كتالونيا، مما يعني تشكيل حكومة بنفس تحالف الائتلاف الحاكم في مدريد، ويتطلب هذا السيناريو دعم الحزب -اليساري الجمهوري- أو امتناعه عن التصويت. مع العلم بأن الأغلبية المطلوبة في البرلمان الكتالوني 68 مقعدًا من أصل 135, وما يمتلكه الاشتراكيون واليسار المتطرف فقط 38، وهو ما لا يكفي لتشكيل حكومة إلا بدعم بقية الأحزاب الرافضة للانفصال (الشعب- فوكس- المواطنون)، وهذه الأحزاب أيضًا لا تملك إلا 20 مقعدًا، هذا مع رفض “سلفاردو إيلا” التحالف مع فوكس. وبالتالي هذا السيناريو يبدو ضعيفًا، خاصة بعد إعلان “بير أراجونيس”، الرئيس الحالي لكتالونيا والمرشح عن اليساري الجمهوري، رفضَ دعم “إيلا” لتشكيل حكومة.
2. حكومة مختلطة: السيناريو الثاني هو تشكيل حكومة يسارية مشتركة بين المؤيدين والرافضين للانفصال، مكونة من الاشتراكيين، واليسار الجمهوري، واليسار المتطرف “كوموبوديم”. ويفترض هذا السيناريو حدوث مقايضة بين الحكومة المركزية في مدريد واليسار الجمهوري في كتالونيا، بحيث تفرج السلطات الإسبانية عن المعتقلين من قادة الانفصال مقابل تشكيل حكومة ائتلافية يقودها “سلفادور إيلا”. هذا السيناريو عليه ملاحظات، منها رفض زعيم اليسار الجمهوري -السابق- المعتقل “أوريول جونكويراس”, والحالي “بير أراجونيس” لهذا الطرح وتلك الصيغة التبادلية، ومن جانب آخر لم يوضح رئيس الحكومة المركزية في مدريد “بيدرو سانشيز” الموقف النهائي له بل اكتفى بالتشديد على احترام السلطة القضائية وأحكامها، مع العلم بأن الكلمة الأخيرة للحكومة الإسبانية.
3. حكومة انفصالية: يفترض هذا السيناريو بقاء الحكومة الحالية في كتالونيا كما هي، أي بقاء ائتلاف حزبي “اليسار الجمهوري” و”معًا من أجل كتالونيا” على أن ينضم لهما حزب “الترشيح من أجل الوحدة الشعبية” وتكون الحكومة ممثلة لمعسكر الانفصال بـ74 مقعدًا بما يزيد عن الأغلبية المطلوبة بـ6 مقاعد, هذا رغم اختلاف النهج الفكري في التعامل مع مدريد, في حين دعم حزب اليسار الجمهوري حكومة سانشيز ولديه نهج مهادن في علاقته معها, حيث تخلى عن دعم انفصال أحادي الجانب عن مدريد ويدعم قيام مفاوضات معها حتى توافق على عقد استفتاء مصير للإقليم. على عكس حزب “معًا من أجل كتالونيا” الذي اصطدم مع الحكومة المركزية، لكن ذلك لم يمنعهما من البقاء معًا في ائتلاف حكومي، وحتى الآن لا توجد مؤشرات قوية تنفي هذا السيناريو.
4. حكومة موسعة: هذا السيناريو يفترض ضم الأحزاب الثلاثة المؤيدة للانفصال (اليساري الجمهوري، معًا من أجل كتالونيا، الترشيح من أجل الوحدة الشعبية”) بالإضافة لحزب فوكس اليميني المتطرف والمستبعد من التحالف مع الاشتراكيين. ويعتمد هذا الطرح على تقوية الحكومة الكتالونية الحالية من جانب، وتوحيد مسار التفاوض مع الحكومة المركزية من جانب آخر، بعد حل الخلاف بين اليساري الجمهوري و”معًا من أجل كتالونيا”.إجمالًا، يمكن القول إن نتائج الانتخابات الحالية سوف تساعد في ترسيخ الانقسام الكتالوني وتطيل -من جانب آخر- أمد تشكيل الحكومة في الإقليم في ظل الاختلافات المتعددة بين الأحزاب. ويبقى سيناريو تشكيل حكومة انفصالية موحدة أقرب للواقع للاشتراك في هدف واحد هو الاستقلال، بخلاف بقية السيناريوهات التي لا تبدو في نفس قوة هذا السيناريو، إما للاختلافات الأيديولوجية، أو صعوبة الحصول الأغلبية الكافية، فضلًا عن استبعاد فكرة قبول اليسار الجمهوري العمل مع الاشتراكيين في حكومة واحدة, مع التأكيد على أن موقف الحكومة الإسبانية ثابت في رفض منح الاستقلال لكتالونيا، وأقصى ما لديها في المدى الزمني المتوسط هو الإفراج عن المعتقلين, وعلى المدى البعيد محاولة منح كتالونيا مزايا دستورية أكبر وسلطات أعلى في الحكم الذاتي.









