بدأت في نهاية العام الماضي، أكبر حملة للتلقيحات في تاريخ البشرية ضد فيروس كورونا المستجد، حيث قدرت وكالة بلومبرغ إجمالي ما تم توزيعه من لقاحات بنحو 304 ملايين في 114 دولة حول العالم، بمعدل تلقيح يبلغ 7.93 ملايين جرعة لقاح يوميًا.
ثُلث تلك الجرعات (حوالي 90.4 مليون جرعة) لُقح بها المواطنون في الولايات المتحدة الأمريكية، في إطار برنامج “أوبريشن وورب سبيد” (Operation Warp Speed)، الذي أطلقته الحكومة الأمريكية في التاسع والعشرين من شهر أبريل الماضي، من أجل تسريع تطوير وتصنيع وتوزيع الأدوات التشخيصية والعلاجية ولقاحات فيروس كورونا المستجد.
لم تكن عملية التلقيح سريعة منذ بدايتها، بل تعثرت بشكل كبير في الأسابيع الستة الأولى، حيث حصل وقتها 7.8% فقط من الأمريكيين على جرعة واحدة من لقاحي فايزر/بيونتك أو موديرنا، بينما لم تتعد نسبة الذين أخذوا جرعتين من اللقاح خلال نفس الفترة 1.8%. لكن مع بداية شهر فبراير، ازدادت وتيرة التلقيح ووصلت لمعدل هائل يتجاوز 1.3 مليون جرعة لقاح يوميًا، وتضاعف هذا المعدل خلال شهر مارس ليتجاوز 2 مليون جرعة يوميًا؛ ليصبح بذلك أسرع برنامج للتلقيح الشامل ضد فيروس كورونا المستجد على مستوى العالم.
النسخة الصحية من هجوم بيرل هاربر
شبه الكثيرون التحدي الصعب الذي واجهته الولايات المتحدة في مواجهة فيروس كورونا المستجد بما حدث معها في عام 1941، حينما نفذت مئات من الطائرات المقاتلة اليابانية هجومًا مفاجئًا على قاعدة بيرل هاربر الأمريكية بالقرب من هونولولو في جزيرة هاواي. وتسبب هذا الهجوم في تدمير وإتلاف ما يقرب من 20 سفينة حربية أمريكية، بما في ذلك 8 بارجات بحرية، وأكثر من 300 طائرة حربية، كما لقي نحو 2403 بحارًا وجنديًا ومدنيًا حتفهم في هذا الهجوم، فيما جُرح أكثر من 1000 آخرون. وفي اليوم التالي الذي أعقب هذا الهجوم، طلب الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت من الكونجرس إعلان الحرب على اليابان والمشاركة بشكل رسمي في الحرب العالمية الثانية.
ووضع الرئيس روزفلت وقتها، أهدافًا محددة لضمان النصر في الحرب، حيث تم تعبئة كل الموارد والجهود الإنتاجية والصناعية الموجودة في الولايات المتحدة للمشاركة في تجهيز الترسانة الحربية الأمريكية. وتمكنت الجهود الموحدة لمصانع البلاد من تصنيع 60 ألف طائرة في عام 1942، و125 ألف طائرة و55 ألف دبابة في عام 1943؛ حيث قامت شركة كرايسلر بتصنيع هياكل الطائرات، وصنعت شركة جنرال موتورز محركات الطائرات والدبابات، بينما أنتجت شركة باكارد للسيارات محركات رولز رويس للقوات الجوية البريطانية، وصنعت شركة فورد القاذفات بعيدة المدى. وفي عام 1944، استطاعت الولايات المتحدة أن تصنع عددًا هائلًا من الطائرات يفوق ما صنعه اليابانيون خلال الحرب بأكملها من عام 1939 إلى عام 1945، مما مكّن الولايات المتحدة من احتلال اليابان. وبحلول نهاية الحرب، كان أكثر من نصف الإنتاج الصناعي في العالم يحدث في الولايات المتحدة.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بخمس سنوات، ومع اندلاع الحرب الكورية، أقرت الولايات المتحدة قانونًا يسمى “قانون الإنتاج الدفاعي لعام 1950″، لإقامة بنية تحتية دفاعية ضخمة يمكن من خلالها تنظيم إنتاج الصناعات الهامة، لا سيما الصناعات الثقيلة مثل الحديد والتعدين، وكذلك التحكم في الأجور والأسعار. ومنذ 1950، أدخلت العديد من التعديلات على نص القانون، وفُعل أكثر من 50 مرة، آخرها خلال مواجهة جائحة كورونا المستجد.
عملة وارب سبيد (Operation Warp Speed)
تسبب وباء كورونا المستجد في عدد قياسي من الإصابات والوفيات داخل الولايات المتحدة، حيث تخطى عدد الوفيات حاجز النصف مليون، وهو عدد ضخم يفوق إجمالي القتلى الأمريكيين خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية وحرب فيتنام مجتمعة، بينما وصل إجمالي من أصيبوا بالفيروس نحو 29 مليون أمريكي، وفقًا لبيانات وكالة بلومبرغ بتاريخ 1 مارس 2021.
يأتي هذا الرقم الهائل من الوفيات والإصابات على الرغم من خطة الطوارئ الوطنية التي أعلنها الرئيس السابق للولايات المتحدة دونالد ترامب، في اليوم التالي لإعلان فيروس كورونا جائحة عالمية (11 مارس 2020). وشملت الخطة توفير تمويل قدره 50 مليار دولار لمواجهة انتشار الفيروس في الولايات المتحدة. وتم أيضًا الإعلان عن عدد من الإجراءات الاحترازية، مثل وقف حركة السفر مع أوروبا، والتي كانت وقتها بؤرة لتفشي كورونا المستجد. كما مُنح القطاع الصحي سلطات واسعة النطاق من أجل توفير أقصى قدر من المرونة لمقدمي خدمات الرعاية الصحية خلال الاستجابة للفيروس، وشملت تلك السلطات: التنازل عن بعض متطلبات الترخيص الفيدرالية، ورفع قيود الأعداد المحددة للأسرّة ومدد الإقامة داخل المستشفيات، وكذلك السماح بجلب المزيد من الأطباء من الخارج للعمل داخل المستشفيات. لكن رغم ذلك استمرت وتيرة الإصابات والوفيات الناتجة عن الفيروس، مما استدعى ضرورة إطلاق برنامج “أوبريشن وورب سبيد” في 29 أبريل الماضي، لتطوير آلية المواجهة الأمريكية ضد الجائحة.
يتخذ برنامج “أوبريشن وورب سبيد” نفس المنهجية العملية التي اعتمدتها الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية، من أجل الاستغلال الأفضل لكافة الموارد المتاحة للسيطرة على الجائحة، وتم بناؤه بالاعتماد على أربعة مبادئ رئيسية:
وضع هدف واضح يتم إنجازه وفقًا لجدول زمني محدد.
تعبئة القدرات الصناعية والإنتاجية لأفضل الشركات المصنعة للأدوية، بما في ذلك الشركات الخاصة والحكومية.
تفعيل قانون الإنتاج الدفاعي، لمنح الأولوية لتصنيع المواد الخام الدوائية والمستلزمات الطبية اللازمة خلال تطوير الأدوات التشخيصية والعلاجية ولقاحات فيروس كورونا.
استخدام السلطة الفيدرالية لتوجيه الجهود التصنيعية للشركات الخاصة، وليس الإدارة التفصيلية لها، وهو ما ساهم بشكل كبير في تطوير لقاح ضد كورونا في زمن قياسي.
نتائج خطة التلقيح الشامل الأمريكية حتى الأول من مارس 2021
انطلقت خطة التلقيح الأمريكية في منتصف شهر ديسمبر من العام الماضي، بالاعتماد على 400 مليون جرعة لقاح، نصفها من لقاح فايزر/بيونتك والنصف الآخر من شركة موديرنا، وذلك بعد حصولهما على الترخيص بالاستخدام الطارئ من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية. ولتحقيق مناعة القطيع ضد الفيروس، تم التخطيط لتلقيح 230 مليونًا من أصل 260 مليون أمريكي (حوالي 85% من المواطنين في سن السادسة عشرة فأكثر) بجرعتين من اللقاح. ووفقًا للجدول الزمني المُعلن وقتها، كان من المفترض أن يتم تلقيح 20 مليون أمريكي قبل نهاية عام 2020، ولكن بسبب تواقت عملية التلقيح مع موسم الأعياد والكريسماس، لم يتم تلقيح سوى 3 ملايين مواطن أمريكي فقط. وأثار هذا المعدل البطيء من التلقيح حفيظة العديد من المواطنين والسياسيين في الولايات المتحدة، وحدث هذا بالتزامن مع انتهاء عهد الرئيس ترامب، واستلام الرئيس جو بايدن للحكم، الذي أعلن فور توليه المنصب عن خطة زمنية جديدة للتلقيح ضد كورونا؛ تتضمن تلقيح 100 مليون مواطن خلال 100 يوم، بمعدل مليون مواطن يوميًا.
استطاعت الولايات المتحدة أن تحسن من وتيرة عملية التلقيح مع بداية شهر فبراير، وارتفعت معدلات التلقيح اليومية لتصل إلى 2.15 مليون أمريكي يوميًا بحلول شهر مارس الجاري. وحتى كتابة هذا المقال، يبلغ عدد الذين تلقوا جرعة واحدة من اللقاح 58.9 مليون أمريكي، أي حوالي 17.7% من إجمالي السكان، فيما يصل عدد من تلقوا جرعتين من اللقاح 30.7 مليونًا، ما يمثل 9.2% من السكان. كما أُعلن مؤخرًا، عن اعتماد لقاح جونسون آند جونسون أحادي الجرعة بفعالية تصل إلى 66% ضد فيروس كورونا، ليصبح ثالث لقاح يُرخص له بالاستخدام الطارئ في الولايات المتحدة، لكنه أقل تكلفة من لقاحي فايزر وموديرنا، فضلًا عن سهولة شروط تخزينه داخل الثلاجات العادية. كذلك أبرمت الولايات المتحدة عقودًا جديدة لشراء 200 مليون جرعة إضافية من لقاحي فايزر/بيونتك وموديرنا، ليصل إجمالي اللقاحات إلى 600 مليون جرعة، بالإضافة إلى ملايين الجرعات المتوقع شراؤها من لقاح جونسون آند جونسون، ما يرجح استقرار إمدادات اللقاح في الولايات المتحدة بما يغطي التلقيح الشامل لكافة الأمريكيين.
ووفقًا لتقرير نُشر من قبل معهد المقاييس الصحية والتقييم بجامعة واشنطن، انخفضت الإصابات الجديدة بفيروس كورونا المستجد داخل الولايات المتحدة بشكل كبير، يُقدر بنحو 50% منذ منتصف شهر يناير الماضي. ورجح العلماء هذا الانخفاض بعاملين رئيسيين: الأول استمرار زيادة معدلات التلقيح ضد كورونا، والثاني هو تراجع موسمية الفيروس مما يساعد على انخفاض احتمالية انتشاره. ومع انخفاض الأعداد، بدأت عدة ولايات في تخفيض الإجراءات الاحترازية المفروضة. على سبيل المثال إعادة ولاية نيويورك فتح السينمات مرة أخرى، كما ألغت ولاية تكساس القرار الإلزامي بارتداء الكمامات.
مع ذلك، تواجه الإدارة الأمريكية في الوقت الحالي، انتقادات شديدة فيما يخص التوزيع العادل للقاحات، بالأخص بين الأمريكيين السود؛ حيث تفيد بيانات مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها CDC، أن 5.4% فقط من جرعات اللقاح التي وزعت خلال الشهر الأول من حملة التلقيح، تلقاها أمريكيون من الأقلية العرقية السوداء، مقارنة بـ60.4 % من البيض، و11.5% من ذوي الأصول اللاتينية، و6% من ذوي الأصول الآسيوية، هذا بالرغم من أن معدل الوفيات جراء فيروس كورونا بين الأمريكيين السود هو ضعف المعدل بين البيض، وفقًا للسلطات الصحية الأمريكية.