نشرت القيادة المركزية الأمريكية في يوم 23 مارس بيانًا حول استهداف جماعة الحوثي للسفينة التجارية الصينية Huang Pu بعدد من الصواريخ البحرية، وهو ما تسبب في وقوع أضرار طفيفة واندلاع حريق محدود على سطح السفينة، ليتزامن هذا الهجوم مع ورود المعلومات التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام اليمنية حول بدء الحوثي في تنفيذ تغيرات تكتيكية على أسلوب عملياته العسكرية الجارية بمنطقة جنوب البحر الأحمر ومضيق باب المندب وبحر العرب.
يقدر بعض المتخصصين أن تزامن الحدثين يمثل تدشينًا لمرحلة جديدة من عمر أزمة الملاحة البحرية بتلك المنطقة، لتظهر العديد من التساؤلات حول مدى التزام الحوثيين بادعاءاتهم المتعلقة باستهداف السفن الإسرائيلية والسفن المملوكة لدول غربية داعمة لدولة لإسرائيل ، وذلك على سبيل التضامن مع الشعب الفلسطيني تجاه ما يواجهه من اعتداء غاشم خلال حرب غزة الحالية، كما يثير تساؤلات عن تقييم نجاح الأساطيل العسكرية في مهمة التصدي لهجمات الحوثيين.
أهداف متعددة
بدء انخراط الحوثيين في المشهد الإقليمي المتوتر الذي أشعلته حرب غزة الأخيرة، حينما وجه مجموعة من الصواريخ والطائرات المسيرة باتجاه العمق الإسرائيلي يوم 19 أكتوبر 2023، لتستمر الجماعة على مدار الأسابيع اللاحقة في توجيه ضربات متباعدة وضعيفة التأثير باتجاه ميناء إيلات. انتقلت جماعة الحوثي بعد ذلك إلى مهاجمة سفن النقل البحري العابرة بمضيق باب المندب قبالة سواحل اليمن، ولقد كانت البداية من خلال الهجوم على سفينة نقل المركبات جلاكسي ليدر Galaxy leader عن طريق فريق مسلح وبأسلوب متطور للقرصنة البحرية، ليتبع هذا الهجوم وحتى أواخر مارس 2024 قرابة 60 هجمة مسجلة على السفن التجارية.
ولقد حرص الحوثي على التصريح بعد كل هجمة بأنه قام باستهداف سفينة إسرائيلية أو سفينة ذات علاقة عمل بإسرائيل، فضلًا عن استهداف سفن مملوكة لدول غربية داعمة لإسرائيل، لكن المعلومات المتوفرة تبين صورة مختلفة حول تلك الادعاءات، حيث لم تستهدف جماعة الحوثي منذ بداية الأزمة وإلى الآن سوى سبع سفن مملوكة أو مدارة بشكل غير مباشر من قبل شركات إسرائيلية، فيما تنوعت ملكيات السفن الأخرى المعتدى عليها والمقدر عددها بتسع وأربعين سفينة بين دول أوروبية وآسيوية وحتى من أمريكا اللاتينية، في حين لم يتم إثبات أي تبعية أو علاقة لتلك السفن التسع وأربعين بإسرائيل –انظر الجدول التالي رقم 1-.
جدول رقم 1: السفن المدنية التي تمت مهاجمتها بجنوب البحر الأحمر وباب المندب وبحر العرب طبقًا للدولة المالكة خلال الفترة الممتدة بين 19 نوفمبر 2023 24 مارس 2024.
المصدر: إحصاءات المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية.
* ملاحظة: تم التنويه للسفن المثبت ارتباطها بإسرائيل باللون الأخضر، كما ذُكر نوع التبعية لإسرائيل سواء بالملكية أو التشغيل في خانة الدولة المالكة.
نيران وقرصنة
رصدت التقارير الدولية حالة من التنوع في طرائق الهجمات الحوثية المتبعة ضد السفن المدنية على مدار الأشهر الماضية، فهناك هجمات تمت باستخدام قراصنة ومجموعات قتالية تعتلي القوارب السريعة، فيما كانت هناك هجمات باستخدام الصواريخ المضادة للسفن والمسيرات الموجهة، وكانت هناك أيضًا هجمات ذات طابع مزدوج مكون من استخدام للصواريخ والمسيرات في هجوم واحد، أو استخدام للصواريخ والقراصنة في هجوم واحد -انظر الشكل التالي رقم 2-.
المصدر: إحصاءات المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
ويتضح من الجدول السابق أن الصواريخ البحرية الموجهة والبالستية كانت أكثر أنواع الأسلحة استخدامًا في الهجمات المسجلة ضد السفن المدنية، حيث أطلق الحوثيون ما عدده 60 صاروخًا خلال 37 هجمة من أصل 56، فيما لم يستخدموا سوى 13 طائرة مُسيَّرة خلال اثني عشر هجومًا، ويعتبر نشاط القراصنة والمجموعات القتالية من أقل الأدوات المستخدمة ضد السفن التجارية، حيث لم يتم تسجل سوى 9 هجمات فقط من هذا النوع.
نتائج محدودة
بتحليل نتائج الضربات الحوثية الموجهة ضد السفن التجارية بنطاق السواحل الجنوبية والغربية لدولة اليمن خلال فترة الرصد (19 نوفمبر 2023 – 24 مارس 2024)، تبين أن أكثر من نصف السفن التي تمت مهاجمتها من قبل جماعة الحوثي كانت قد نجت من أي أضرار ولم تصب بأي نوع من الأذى، لتتمكن بعد ذلك من الوصول إلى الميناء التالي بسلام –انظر الشكل التالي رقم 3-.
المصدر: إحصاءات المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
فيما وصل عدد السفن التي أصيبت بأضرار مادية إلى 26 سفينة، وكان حجم الضرر في أغلب الحوادث لا يتعدى التخريب الطفيف لبدن السفينة، أو اشتعال لحريق محدود تمت السيطرة عليه خلال دقائق -انظر الشكل التالي رقم 4-، على الجانب الآخر تعرضت أربع سفن فقط لحوادث يمكن وصفها بالكبيرة؛ أولها ناقلة المركبات Galaxy leader والتي تم الإشارة من قبل لاختطافها في يوم 19 نوفمبر 2023، بالإضافة لحادث إصابة سفينة الصب Rubymar في يوم 18 فبراير 2024، وهو ما أدى لغرقها بشكل كامل بعد أسبوعين، وأيضًا إصابة سفينة البضائع العامة Islander يوم 22 فبراير 2024 بأضرار طفيفة وسقوط مصاب واحد من بين طاقمها، وإصابة سفينة الصب الجاف True Confidence يوم 6 مارس 2024 بأضرار طفيفة، وسقوط ثلاثة قتلى من بين بحارتها.
المصدر: إحصاءات المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
تصدٍ مشتت
انتبهت القوى الدولية في وقت مبكر لخطورة الأزمة الأمنية بجنوب البحر الأحمر وبحر العرب، وذلك لأهمية ممر “قناة السويس -باب المندب” بالنسبة للتجارة العالمية، حيث يسهم هذا الممر في نقل ما يزيد على 12% من تجارة العالم سنويًا، هذا ما دفع بالولايات المتحدة إلى أخذ زمام المبادرة في توجيه عدد من المدمرات المتخصصة في التصدي للأهداف الجوية الموجهة بالإضافة إلى حاملة الطائرات USS Dwight D. Eisenhower بحلول منتصف نوفمبر 2023.
ولقد قامت مجموعة من دول العالم الكبرى باتباع خطوات الولايات المتحدة في شأن إرسال قطع بحرية لتأمين حركة الملاحة التجارية بمحيط منطقة باب المندب، وكان من بين تلك القوى المملكة المتحدة وفرنسا والصين والهند وألمانيا -انظر الجدول التالي رقم 5-، لترابض بتلك المنطقة على امتداد فترة الأزمة أكثر من 20 قطعة بحرية حربية.
جدول رقم 5: أبرز القطع البحرية العسكرية المرابضة بمحيط مضيق عدن
خلال الفترة من نوفمبر 2023 وحتى مارس 2024.
المصدر: إحصاءات المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
سعت بعض القوى الكبرى إلى تعزيز الوجود الأمني في البحر الأحمر من خلال الانخراط مع دول أخرى في تحالفات ومهمات أمنية، مثل تحالف حارس الازدهار والذي أُعلن عن تدشينه يوم 19 ديسمبر بقيادة والولايات المتحدة وبالتعاون مع أكثر من 20 دولة، ومهمة اسبيديس التي أطلقها الاتحاد الأوروبي 19 فبراير 2024 بتعاون مجموعة من أكبر دول الاتحاد، فيما فضلت قوى أخرى أن تعمل منفردة وبدون الدخول في تحالفات مثل الصين والهند، مع الإبقاء على مبدأ حماية وعون جميع السفن التجارية دون تمييز.
نجحت القوى العسكرية البحرية في التصدي لسبع وستين هجمة أطلقها الحوثيون باتجاه السفن التجارية، وأيضًا باتجاه أهداف لم يتسن تحديدها بدقة سواء كانت سفنًا تجارية أو باتجاه العمق الإسرائيلي، فضلًا عن الدفاع عن نفسها، حيث وجه الحوثي بعضًا من هجماته ضد السفن العسكرية الدولية الموجودة بباب المندب، ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى دور القوات الأمريكية في تحمل الجانب الأكبر من عبء عمليات المواجهة، حيث تصدت وحداتها البحرية منفردة لستة وخمسين هجومًا، فيما لم تتصد بقية القطع المنتمية لدول أخرى مثل فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة سوى لأحد عشر هجومًا.
لكن على الرغم من تلك المجهودات لا يزال الحوثي قادرًا على إطلاق الهجمات، بل وإصابة سفن تجارية في بعض الأحيان، ويعود ذلك إلى المساحة الشاسعة التي ينشط فيها الحوثي، والمقدرة رقعتها بأكثر من 152 ألف ميل بحري مربع، وهو ما يُصعب على جميع القطع البحرية ملاحقة المقذوفات الحوثية، التي تُطلق بشكل غير منظم، وفي اتجاهات مختلفة، ونحو أهداف مجهولة بالنسبة للجهات المتصدية.
كما يضاف إلى ذلك التحدي، معضلة أخرى وهي المتمثلة في تنويع الحوثي لأدواته الحربية التكتيكية، خاصة المستخدمة منها ضد السفن العسكرية، حيث بدأ الحوثي منذ مطلع فبراير الماضي في استخدام القوارب السطحية والغواصات تحت سطحية الانتحارية غير المأهولة لاستهداف القطع الحربية المرابضة، كما تثار شكوك حول اعتزام الحوثين استهداف كابلات الإنترنت البحرية المارة بمضيق باب المندب، فضلًا عن نثر ألغام بحرية يصعب اكتشافها وكسحها، وذلك لزيادة خطر الملاحة البحرية في منطقة باب المندب.
مستقبل الأزمة
من المحتمل أن تطور أزمة الملاحة في البحر الأحمر إلى واحدة من ثلاثة سيناريوهات، أولهم: تقلص عدد الهجمات على السفن وخفوت نشاط جماعة الحوثي، وذلك بتأثير عدد من العوامل في مقدمتها تهدئة الوضع العسكري بقطاع غزة وزوال السبب الرئيسي الذي تبرر به جماعة الحوثي ضرباتها، بالإضافة إلى الضغط على إيران لوقف دعمها الكبير للحوثيين، فضلًا عن الوصول لحل سياسي يمني يضمن دمج الحوثي في إطار منظومة السلطة الحاكمة، مما سيُحمّل الجماعة مسئولية مراعاة المصالح اليمنية والدولية.
ويتمثل السيناريو الثاني: في احتمالية بقاء مجمل الأوضاع على ما هي عليه، بداية من استمرار الحرب على قطاع غزة مرورًا بعدم توقف الضربات الأمريكية على العمق اليمني، وصولًا لاستمرار إيران في إمداد جماعة الحوثي بالمزيد من القدرات العسكرية والاستخبارية النوعية، لتقوم تلك الأخيرة بتكثيف ضرباتها على السفن التجارية، وهو ما سيبقى بدوره على مخاوف شركات الشحن العالمية من عبور باب المندب، لتضطر السفن إلى اتخاذ طريق رأس الرجاء الصالح، وبالتالي زيادة تكاليف النقل مما سيفاقم بدوره من معدلات التضخم العالي.
أما السيناريو الثالث والأخير: فيتمثل في تقديم جماعة الحوثي لأهدافها السياسية والاقتصادية، على سردياتها الآنية المتعلقة بنصرة فلسطين وشعبها، حيث من الممكن أن يسعى الحوثي لتقوية موقفه السياسي المحلي والدولي من خلال الاستفادة من قدراته على إرباك الملاحة البحرية العالمية، ليضمن لنفسه أكبر قدر من المكاسب أثناء تفاوضه مع الحكومة اليمنية الشرعية، كما من الممكن أن يبالغ الحوثيون في طموحاتهم الاقتصادية من خلال التطلع لتحصيل رسوم على مرور السفن بمضيق باب المندب، ولو بشكل غير رسمي، وهو ما قد يحمل بدوره نتائج عكسية، فلن تجلب مثل تلك الاستراتيجيات سوى الاستعداء الدولي لجماعة أنصار الله الحوثي، وذلك لعدم لرغبة الدول الكبرى في تكرار نموذج الاعتداء على حرية الملاحة في مناطق أخرى من العالم.