تتفاوت جودة الحياة والخدمات العامة المقدمة بصورة كبيرة بين المناطق والأقاليم الجغرافية وذلك في العديد من دول العالم، بداية من مدى توافر البنية التحتية الأساسية (الكهرباء، والصرف الصحي، ومياه الشرب النظيفة) وصولًا إلى القدرة على الوصول إلى التعليم والخدمات الصحية، وإمكانية الحصول على فرص عمل ملائمة بأجور جيدة. فمن غير المقبول أن تتحدد حقوق الأفراد بناء على أماكن تواجدهم، بل يجب أن تكون هناك عدالة في توزيع الخدمات.
وفي مصر، لم يكن للتنمية الإقليمية أو المكانية أي وجود في نظام التخطيط القومي حتى صدور قانون رقـم 70 لسـنة 1973، فقـد خلـت الخطـط فـي مصـر حتـى السـبعينيات مـن ذلك المفهوم، ولـم تأخـذ احتياجـات كل إقليم فـي الاعتبار، حتى تم إدراجها ضمن مستهدفات خطة التنمية مصر 2030 كأحد مستهدفات الحكومة المصرية في الفترة الحالية.
فقد أدت خطط الدولة المصرية السـابقة وآليات تنفيذها إلى عدم توازن مجهودات التنمية بين المحافظات المختلفة، فقـد قامـت الدولـة بتـركيـز وتكثيـف الجهـود التنمويـة فـي عـدد مـن المحافظات وذلـك نتيجـة محدوديـة الموارد مما تـرتب عليه العديد من المشكلات، بداية من اختلال توزيـع السـكان، وتآكل الأراضي الزراعيـة، والهجـرة غيـر المنظمة مـن الريف للحضـر. ونستعرض فيما يلي أبرز المؤشرات التي تعكس التفاوتات بين المناطق والأقاليم الجغرافية في مصر، من حيث توزيع الموارد والخدمات، حتى نتحرى عن أسباب اللا مساواة المكانية من حيث انتشار الفقر واللا مساواة في الأنشطة الاقتصادية، ومستوى التحصيل التعليمي.
أولًا- تفاوت معدلات الفقر بين محافظات مصر المختلفة:
تشير البيانات إلى تصدر محافظات الصعيد قائمة المحافظات الأكثر فقرًا في الجمهورية، حيث سجلت محافظة أسيوط نسبة فقر بين مواطنيها بلغت 66.7%، تلتها محافظة سوهاج بنسبة 59.6%، ثم الأقصر 55.3%، والمنيا 54%، ثم قنا 41%، وذلك مقارنة بمتوسط الجمهورية البالغ 32.5%، بما يدل على وجود حاجة ملحة إلى تحسين مستويات المعيشة بالصعيد.
تؤكد المؤشرات التنموية في مصر على التفاوت القائم بين الحضر والريف، وبالأخص ريف الوجه القبلي، فوفقًا لمسح الدخل والإنفاق والاستهلاك 2019-2020 نجد أن 48% من سكان ريف الوجه القبلي لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من الغذاء وغير الغذاء، ولا يزال ثلثا الفقراء يقطنون في الريف، و43% منهم يعيشون في ريف الوجه القبلي، بينما يقطن فيه حوالي 26% من السكان.
التوزيع الجغرافي لنسبة الفقر على مستوى الجمهورية
المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بحث الدخل والإنفاق 2017/ 2018.
ثانيًا- البنية التحتية للمياه والصرف الصحي:
توسعت تغطية مياه الشرب خلال العقود الأخيرة. لتتجاوز 90٪ من المواطنين متصلين بمياه الشرب مباشرة إلى مساكنهم. ومع ذلك، فبرغم انتشار واستقرار الوصول للمياه في المناطق الحضرية، لا تزال أعداد كبيرة من المساكن غير موصولة بالمياه في المناطق الريفية، حوالي 12٪ من السكان في مساكن غير موصولة بمنظومة مياه الشرب وفي المناطق الحضرية لا تتصل مساكن 4٪ من السكان بالمياه، خاصة في المناطق الفقيرة وغير الرسمية (العشوائية).
وفيما يتعلق بالصرف الصحي في مصر، نجد أن 10٪ من المصريين لم يستفيدوا من الوصول إلى شبكة صرف صحي حديثة، مع تفاوتات ملحوظة جغرافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، فقد بلغت نسبة السكان الذين لا يحصلون على خدمات صرف صحي كافٍ في المناطق الريفية حوالي 15٪، وذلك مقارنة بحوالي 1٪ في مساكن المناطق الحضرية.
ثالثًا- الأنشطة الاقتصادية:
يتركز حوالي (30%) من شركات القطاع الخاص المصري في ثلاث محافظات فقط، هي القاهرة والجيزة والإسكندرية، والتي تستوعب أيضًا ما يقرب من (40%) من العمالة في القطاع الخاص. كما بلغ نصيب محافظات صعيد مصر من الشركات نحو (17%)، وبلغت حصتها من التوظيف بالقطاع الخاص نحو (14%). مما يفسر محدودية فرص العمل بتلك المحافظات.
في حين تشكل الشركات في المحافظات الحدودية (مطروح، وشمال وجنوب سيناء، والوادي الجديد) (1.3%) فقط من الشركات والعمالة في القطاع الخاص، وهو ما تعكسه الخريطة في الشكل التالي.

المصدر: التعداد الاقتصادي 2017/2018، الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
رابعًا- عدم الاتزان في التوزيع الحضري:
يتـركز حوالي 62% من سكان الحضر في إقليمي القاهرة الكبـرى والإسكندرية، ويمثل سكان الحضر حوالي 9.42% من سكان الجمهورية. وجديـر بالذكر تضاعف عدد سكان الحضـر مقارنـة بالريـف بفعـل عوامـل الجـذب للمـدن، بما تسبب في تفاقم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في المدن مع انتشار ظاهرة العشوائيات، وخاصة في المحافظات الأكثر كثافة.
الجهود الحالية لتحقيق التنمية المكانية
تأتي مبادرة “حياة كريمة” لسد الفجوة التنموية بين الأقاليم الجغرافية المصرية، وهي مبادرة هدفها تحقيق هدف العدالة المكانية، وهو هدف من الأهداف الرئيسية لرؤية مصر 2030. وتُمثل هذه المبادرة نموذجًا للشراكة بين الوزارات والمؤسسات الحكومية المعنية، والقطاع الخاص والمجتمع المدني، وتتمثل في الوزارات والمؤسسات الحكومية المعنية في وزارات التضامن الاجتماعي والتخطيط والتنمية الاقتصادية والقوى العاملة والتنمية المحلية والمالية، بالإضافة إلى جهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر وغيرها من المؤسسات الحكومية، كما يشارك فيها عدد من الجمعيات الأهلية، فضلًا عن القطاع المصرفي وبيت الزكاة والصدقات المصري وبعض الجامعات الخاصة.
تتحدد أهداف المبادرة في أربعة أهداف استراتيجية، هي: بناء الإنسان، وتحسين جودة حياة المواطنين، وتحسين مستوى معيشة المواطنين الأكثر احتياجًا، وتوفير فرص عمل لائقة ومنتجة. وكانت أهداف التنمية المستدامة وبالتحديد الهدف الأول، وهو القضاء على الفقر بكل صوره وفي كل مكان، والهدف العاشر الخاص بالحد من التفاوت داخل البلدان وفيما بينها؛ هي الأهداف الملهمة للمبادرة، ومع ذلك فقد تماست كل تدخلات المبادرة مع مجمل أهداف التنمية المستدامة، وربما قيمة هذه المبادرة هي قيامها بتصميم تدخلات قصدية لتحقيق أهداف محددة في المناطق الأكثر احتياجًا، ولهذا السبب تم إعداد صيغة تمويلية لتوزيع الاستثمارات على القرى المستهدفة تأخذ في الاعتبار متغيرين أساسيين، هما: عدد السكان، ومعدل الفقر في كل قرية، بغية الوصول إلى سقف تمويلي استرشادي يؤخذ في الاعتبار عند تحديد أولويات التمويل في كل قرية.
استهدفت المبادرة في مرحلتها الأولى 143 قرية في 46 مركزًا في 11 محافظة، بواقع 1.8 مليون مستفيد، وبلغت نسبة الفقر في المحافظات المستهدفة 76%، وبلغت جملة الاعتمادات الموجهة لقرى المرحلة الأولى 5.5 مليارات جنيه.
وقد أسفر تقييم المرحلة الأولى من “حياة كريمة” (2019 – 2021) وفقًا لما قام به الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن عدد من النتائج؛ أولها: انخفاض معدل الفقر بحوالي 14 نقطة مئوية، وثانيها: تحسن مؤشر جودة الحياة (معدل إتاحة الخدمات الأساسية) بحوالي 18 نقطة، وثالثها: تحسن في معدل التغطية بالخدمات الصحية بحوالي 24 نقطة، ورابعها: تحسن في معدل التغطية بالخدمات التعليمية بحوالي 12 نقطة، وأخيرًا تحسن في معدل التغطية بالصرف الصحي بحوالي 46 نقطة مئوية.