يمثل اليوم العالمي لإلغاء الرق في 2 ديسمبر تاريخ اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة لاتفاقية الأمم المتحدة لقمع الاتجار بالأشخاص واستغلال دعارة الغير في 1949؛ وينصب التركيز في هذا اليوم على القضاء على أشكال الرق المعاصرة مثل الاتجار بالأشخاص، والاستغلال الجنسي، والزواج القسري، وعمل الأطفال أو تجنيدهم خلال النزاعات المسلحة. إذ تطورت أشكال الرق وصوره عبر التاريخ، ما زالت أشكاله القديمة قائمة على نحو ما كانت عليه في الماضي، بينما ظهرت أشكال جديدة له. وارتباطًا بذلك، وكاستجابة للتغيرات الجارية محليًا وإقليميًا وعالميًا، اتسع نطاق الحديث حول مصطلح “العبودية الحديثة”.
في حين أن مصطلح “العبودية الحديثة” يفتقر – بقدرٍ ما – إلى تعريف قانوني محدد، إلا أنه قد اكتسب في السنوات الأخيرة رواجًا كبيرًا كمصطلح يشمل العمل الجبري والاتجار بالبشر وبعض أشكال الاستغلال الأخرى. في عام 1926، عرفت عصبة الأمم العبودية على أنها “حالة شخص تُمارَس عليه بعض أو كل السلطات المرتبطة بحق الملكية”؛ ثم وسعت الأمم المتحدة هذا التعريف في عام 1956 ليشمل الزواج القسري وبعض الحماية لحقوق المرأة. تغيرت الأمور مرة أخرى في عام 2000؛ إذ أدخلت الأمم المتحدة مصطلح “الاتجار بالبشر” واستبعدت الإشارة إلى الزواج القسري في بروتوكول “باليرمو”. لكن بحلول عام 2013، اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالزواج القسري كشكل من أشكال الاسترقاق. واستنادًا إلى ذلك، تسعى الورقة إلى إلقاء الضوء على الأشكال المختلفة للعبودية الحديثة، وكذا إشكاليات التصدي لها.
العبودية الحديثة…نطاق أوسع من الاستغلال
تعرف مؤسسة “ووك فري Walk Free”[1] العبودية على أنها “حالات استغلال بحيث لا يمكن للشخص تركها أو رفضها بسبب تهديدات أو عنف أو إكراه أو خداع أو إساءة استخدام للسلطة”. وللحصول على تقديرات على المستوى القطري، أطلقت المؤسسة مؤشر العبودية العالمي The Global Slavery Index في عام 2013. وقد قدر المؤشر الأول أن 29.8 مليون شخص مستعبدون، لكن تم تحديث العدد إلى 35.8 مليونًا، ثم إلى ما يتجاوز 40 مليون شخص وفقًا لمؤشر عام 2018؛ بينهم نحو 400 ألف في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها. وقد اجتمعت منظمة “ووك فري” ومنظمة العمل الدولية وعشرات الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية في عام 2016 لتشكيل تحالف [2]Alliance 8.7 في عام 2017، الذي قدم تقدير مشترك حول أعداد المستعبدين حول العالم إلى ما يتجاوز 40 مليون شخص. وقد عقد هذا التحالف مؤتمرًا في أكتوبر 2017 لوضع مبادئ توجيهية حول كيفية قياس حالات الاستعباد.
ووفقًا لأغلب التحليلات، تضم العبودية الحديثة صورًا متعددة مثل: الاتجار بالبشر، والعمل القسري، واستعباد الدين، والزواج القسري، وبيع واستغلال الأطفال، فضلا عن الشكل التقليدي للعبودية. أشار “سيدهارت كارا Siddharth Kara”- محاضر في مدرسة “هارفارد كينيدي” الحكومية، ومؤلف لثلاث كتب حول العبودية الحديثة – إلى أن شراء وبيع الأشخاص بات أكثر ربحية من أي وقت مضى، وذلك بسبب سهولة نقل الأشخاص في العصر الحديث. ووفقًا لمنظمة “ووك فري” تضم العبودية الحديثة شكلين رئيسيين:
عبودية الدين والعمل القسري: (لفت مؤشر العبودية العالمي لعام 2018، إلى أن عدد من يعانون من هذا الشكل من أشكال العبودية يقرب من 25 مليون شخص حول العالم).
- تظهر عبودية الدين عندما يكون عمل الشخص هو الضمان للدين؛ ففعليًا لم يتم بيع الشخص، لكنه يخضع لــــــ”عقد إيجار طويل” لا يمكنه إنهاؤه، أو لا يمكنه ترك صاحب العمل. ومن جانب آخر، يمكن أن تتسبب شروط العمل (مثل: تدني الأجور، خصم الطعام والسكن، وغيرها) في استمرار الشخص عالقًا مدى الحياة داخل هذه الدوامة. علاوة على ذلك، قد يتم توريث الدين لأفراد الأسرة الآخرين – حتى الأطفال – بطريقة تجعلهم مجبورين على ذات العمل.
- ومن ناحية أخرى، قد يخضع العمال المهاجرون لهذا النوع من العبودية عبر العمل لدفع تعويضات إلى وكلاء السفر؛ إذ يقترض الناس المال لتأمين وظيفة في بلد آخر، وبعد الوصول، تتم مصادرة جوازات سفرهم وتشغيلهم حتى سداد الدين.
- كما يتضمن هذا النوع من العبودية العمل الجبري الذي تفرضه الدولة على المواطنين دون تقديم مقابل مناسب. كما يحدث العمل الإجباري عندما تجبر الدولة المواطنين على العمل، في أوقات الحصاد على سبيل المثال أو بعد أزمة اقتصادية لتعزيز التنمية.
- وقد تواجه بعض الفئات نماذج من العمل القسري بسبب ظروفهم المتردية أو حاجاتهم الشديدة للعمل؛ إذ قد يتجه أرباب العمل إلى استغلال أوضاع هذه الفئات عبر دفع أجو ر زهيدة مقابل ظروف عمل صعبة وقاسية.
الزواج القسري والاستغلال الجنسي: (لفت مؤشر العبودية العالمي لعام 2018، إلى أن عدد من يعانون من هذا الشكل من أشكال العبودية يقرب من 15 مليون شخص حول العالم).
- تضم العبودية الحديثة الأشكال المتعلقة بالزواج القسري والاستغلال الجنسي؛ كالزواج بالإكراه، بما في ذلك بيع الزوجات، شراء النساء للزواج. ينعكس هذا النوع في عدد من الصور: عندما لا يكون لدى الشخص (سواء طفل أو بالغ) حرية اختيار الزواج أو رفضه؛ علاوة على الشعور بالخضوع الكامل أو الملكية في الزواج نفسه؛ بجانب عدم القدرة على إنهائه حال الشعور بالإساءة.
- كما تضم أيضًا الاستغلال الجنسي أو الدعارة القسرية، التي تعني أي استغلال جنسي من خلال استخدام القوة أو التهديد باستخدامها أو أي عقوبة أخرى. وتعد اللاجئات والفارات من الحرب أو الصراع أكثر عرضة للاسترقاق. فقد لفتت “ماريا جراتسيا جيامارينارو”، مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بالاتجار بالبشر، في أكتوبر 2016 إلى أن ” الاتجار بالبشر في حالات النزاع ليس مجرد احتمال، ولكنه شيء يحدث بشكل منتظم”.
العبودية قديمًا وحديثًا:
وفقًا لموقع “بي بي سي” يوجد عدد من العبيد أكثر من أي وقت مضى، لكنهم يمثلون نسبة أقل ضمن سكان العالم. لم يعد بإمكان أحد الدفاع عن العبودية؛ أضحت العبودية غير قانونية، لذا يتطلب وجودها استمرار الفساد. وتضم العبودية الحديثة أشكال متنوعة مثل العمل القسري، والاستغلال الجنسي، والعبودية المنزلية، واستغلال الأطفال، والزواج القسري. وعلى عكس العبودية التاريخية أو التقليدية، قد تحمل العبودية الحديثة طبيعة تعاقدية ومؤقتة. ففي بعض الحالات، يدخل الأفراد طواعية في عقد توظيف، يصبحون بموجبه عبيدًا، لفترة قصيرة أو طويلة.
ومن ناحية أخرى، تبدو السمة البارزة بين العبودية قديمًا وحديثًا في وضوح الظاهرة والقدرة على التحقق منها؛ فقديمًا كانت مسألة العبودية واضحة ومعلنة، فكان العبد يحمل هذه الصفة بشكل صريح ضمن هيراركية اجتماعية معروفة. أما العبودية الحديثة فتشهد درجة أكثر تعقيدًا في التحقق من وجودها، فليس كل ضحية للعبودية الحديثة يُطلق عليه توصيف “عبد”، وإنما هو مجرد ضحية لأشكال واسعة من الاستغلال والعلاقات غير العادلة.
تجادل بعض التحليلات بأن ثمن العبيد بات أرخص من أي وقت مضى، ولديهم القدرة على توليد أرباح اقتصادية مرتفعة. وقد لفت كيفن باليس Kevin Bales، أستاذ العبودية المعاصرة بجامعة نوتنجهام، في حوار له مع BBC، عام 2001، إلى أن العبودية الحديثة أسوأ حتى من تجارة الرقيق في الأطلسي. ففي الولايات المتحدة قبل الحرب الأهلية، كان متوسط تكلفة العبيد يعادل حوالي خمسين ألف دولار، بينما قد يصبح سعر العبد حاليًا خمسين أو ستين دولارًا.
وأيضًا لم تعد العبودية تجري وفق معادلة العلاقة بين الشرق والغرب أو الجنوب والشمال، وإنما خريطة انتشارها باتت أكثر تعقيدًا وتداخلًا. فقديمًا شهدت العبودية مسارات محددة لنقل الأفراد من الجنوب إلى الشمال؛ أما حديثًا فقد تتم العبودية داخل الدولة ذاتها أو بين الدول في محيط بعينه. فعلى سبيل المثال: أكبر عدد من ضحايا الاستغلال في العمل القسري يقع في منطقة آسيا والمحيط الهادئ (وفقًا لمنظمة العمل الدولية، ومؤسسة Walk Free، والمنظمة الدولية للهجرة، 2017).
لا تزال هناك أوجه تشابه بين العبودية قديمًا وحديثًا، سيما المرتبطة بالعمل، في أن البضائع المنتجة من خلال العبودية تُباع للجمهور. إذ لا تزال ممارسات العمل القسري والرق التي جرت في المزارع خلال فترات الرق القديمة تتشابه مع ما يجري في بعض سلاسل التوريد العالمية. كما أدى التطور الذي يشهد العالم وانعكاساته الاقتصادية والمالية إلى خلق فرص استغلالية إضافية في سلاسل التوريد. إذ أن عمل الشركات متعددة الجنسيات يتضمن مكامن نمو وتوسع للعبودية الحديثة؛ تفرض هذه الشركات شروطًا تتعلق بجداول التسليم الصارمة على مورديها، تدفعها إلى الاستعانة بمصادر خارجية لأنشطة كثيفة العمالة بقيمة منخفضة، أي “مصانع الظل” غير المنظمة حيث لا توجد حوافز ولاضمانات لظروف عمل لائقة. ونظرًا لأن كل مرحلة من مراحل سلاسل القيمة تتضمن عمال، فمن المحتمل أن يحدث استخدام العمالة بالسخرة في أي مرحلة على طول السلسلة.
قد يتم استغلال نقاط ضعف مختلفة عن العبودية التقليدية مثل الفقر والرغبة في حياة أفضل والحصول على التعليم وغير ذلك. الأمر الذي أدى إلى وجود فائض من العبيد المحتملين الذين يمكن استخدامهم مرارًا وتكرارًا ويتم التخلص منهم من أجل مالك جديد عندما يصبحون غير مجديين مجددًا.
إشكاليات تعيق التصدي للعبودية الحديثة:
على الرغم من خطورة ظاهرة العبودية الحديثة إلا أن الواقع العملي يؤشر على صعوبة تحديد العدد الحقيقي لكافة المستعبدين حول العالم، ما يعني أنها لا تزال تمثل – بقدر ما – جريمة خفية. واستنادًا إلى ذلك، يتضح أن التصدي لهذه القضية يواجه عدد من الإشكاليات التي تنذر باستمرارها بل وتفاقمها. وتتمثل أبرز الإشكاليات في الآتي:
إشكالية المفهوم
أوضح “مايكل دوتريدج Michael Dottridge” – الذي أمضى 25 عامًا في العمل في منظمات حقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية ومنظمة مناهضة العبودية الدولية (حيث كان مديرًا لمدة ست سنوات) – أن استخدام مصطلح العبودية ليس مناسبًا. إذ أن استخدام مصطلح “العبودية الحديثة” للإشارة إلى مستويات متعددة من الاستغلال قد لا تتوافق مع التعريف القانوني للرق. كما يؤدي استخدام مصطلح “العبودية الحديثة” إلى شكل من أشكال الوصم والعار الذي قد يدفع الدول إلى عدم الكشف عن الاختلالات المرتبطة بالعبودية الحديثة داخلها، وقد تؤدي إلى رغبة أقل من الدول في التعاون في هذا الأمر. وفي السياق ذاته، لا يزال هناك اختلاف حول الدرجة التي تستحق عندها ظروف العمل أن تصل لدرجة “الاسترقاق”. فقد لفتت منظمة العمل الدولية إلى أنه “ليس كل الأطفال الذين يتعرضون لأعمال خطرة “عبيد”، ولا يتم إجبار جميع العمال الذين لا يحصلون على أجر عادل”. علاوة على ذلك، يشير المصطلح إلى درجة من الاستغلال شديدة للغاية بحيث تقع خارج بيئة العمل العادية، أي أن هذا الاستغلال لا يمكن مواجهته عبر الهراركية المؤسسية، وتشكيل الجمعيات والنقابات وغيرها.
إشكالية تتعلق بالمكاسب الاقتصادية
بالنظر إلى الصور المختلفة للعبودية سواء قديمًا وحديثًا يتضح أن المكاسب الاقتصادية تعد السبب الرئيس وراء اتساع نطاق هذه الظاهرة؛ إذ أن الأمر تجاوز مسألة المالك الفرد للعبيد ووصل إلى الشركات والمؤسسات، وحتى بعض الدول قد تتجه إلى هذا النوع. ومن ناحية أخرى، اتسع نطاق الأنشطة المرتبطة باستغلال البشر سواء عبر الإتجار بالبشر أو الاستغلال الجنسي أو استغلال الأطفال وغيرها. الأمر الذي يعني أن العبودية الحديثة أضحت تنمو وتسير عبر شبكات متداخلة وحلقات متصلة تدر أرباح ليست بالقليلة للأفراد والمؤسسات والشركات بل والدول ذاتها. ما يؤشر على أن التصدي لها سيواجه بموجات رفض ومقاومة من قبل أصحاب المصلحة لتغيير الأوضاع القائمة.
إشكالية تتعلق بالأبعاد الثقافية والمجتمعية
تضمنت العبودية قديمًا قدرًا من القبول المجتمعي حول وجودها واستمرارها، بل وقد واجهت جهود الحد منها حالة يمكن وصفها بالامتعاض المجتمعي لدى بعض الفئات. وارتباطًا بهذا، يحمل مصطلح العبودية الحديثة، والأشكال المتنوعة التي يحويها، قدرًا كبيرًا من التأثيرات الثقافية والمجتمعية التي تساهم في التسامح مع بعض صورها، بل واعتبار بعضها جزء أصيل من الثقافة والأعراف المجتمعية. بالاستناد إلى ذلك، يتضح أن بعض صور العبودية الحديثة قد يُنظر إليها في إطار كونها وضع طبيعي متعارف عليه. ومن بين هذه الأمثلة: لا يمكن توقع أن تعتبر كوريا الشمالية نموذج العمل الإجباري الذي تفرضه كصورة للعبودية الحديثة؛ كما أنه من غير المتوقع أن تعتبر بعض القطاعات التقليدية في المجتمعات المحافظة الزواج الإجباري الذي تفرضه على أبنائها وبناتها نوعًا من العبودية الحديثة. وبالتالي فإن مسألة فك الاشتباك والتداخل بين الأبعاد الثقافية والمجتمعية في بعض الدول والعبودية الحديثة بصورها المختلفة مسألة في غاية الحساسية، إذ قد تدفع هذه المجتمعات إلى الاحساس بالتهديد الثقافي الذي قد يدفعها نحو مزيد من التعنت في تطبيق هذه الصور.
مجمل القول، إن العبودية الحديثة قضية قائمة وملحة، تحوي أشكالًا وصورًا متعددة، تتطلب تعاطي فعال لتحجيم نطاقها ووضع حد لاستمرارها. إلا أن ذلك لا يعني إغفال كونها قضية إشكالية يتطلب علاجها معادلة مرنة متعددة الأبعاد؛ تبدأ بإدراك وجودها وأبعادها المختلفة مع العمل على ضبط المصطلح سياسيًا وقانونيًا، ثم العمل على نشر الوعي على المستويات المختلفة بداية من الأفراد والمجتمعات، ثم التأكيد على ضرورة تعزيز التعاون الدولي من أجل التصدي لها، وكذا تعزيز دور المؤسسات الدولية في العمل على الحد من انتشارها؛ وأخيرًا، تتضح أهمية قيام المجتمع الدولي برسم مداخل ذات طابع إنساني لكافة الأنشطة الاقتصادية والتجارية حول العالم، مثلما يجري مع قضايا البيئة والمناخ، بطريقة قد تساهم في تعديل الاختلالات وأنماط الاستغلال والسياسات غير العادلة التي تتضمن صورًا للعبودية الحديثة.
[1] مجموعة دولية لحقوق الإنسان تركز على القضاء على العبودية الحديثة بجميع أشكالها.
[2] شراكة استراتيجية عالمية تلتزم بتحقيق المقصد رقم 7 من الهدف 8 من أهداف التنمية المستدامة، والذي يدعو العالم إلى “اتخاذ تدابير فورية وفعالة للقضاء على العمل الجبري ووضع حدٍّ للعبودية الحديثة والإتجار بالبشر وضمان منع وإنهاء أسوأ أشكال عمل الأطفال، ومنه تجنيد الأطفال واستغلالهم كجنود، والقضاء بحلول عام 2025 على عمل الأطفال بجميع أشكاله”.