استجابةً لتزايد مُحفزات عدم الاستقرار في الشرق الأوسط بما يُنذر باحتمالية اتساع نطاق التصعيد العسكري في الإقليم، وفي سياق انتهاك إسرائيل لاتفاق وقف إطلاق النار في الثامن عشر من مارس 2025، واستئنافها لعملياتها العسكرية على غزة، بالتزامن مع توسيع عملياتها في الضفة الغربية، بجانب الضربات الإسرائيلية على لبنان وسوريا، فضلًا عن الاضطرابات في منطقة البحر الأحمر؛ جاءت زيارة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” للقاهرة والتي تستمر لمدة ثلاثة أيام بداية من السادس من أبريل الجاري حتى الثامن من الشهر نفسه، لمناقشة تبعات هذه التطورات التي باتت ارتداداتها العكسية غير مقصورة على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط فحسب، بل امتدت إلى الداخل الأوروبي، وكشفت عن المزيد من التباينات السياسية حول آليات التعاطي مع المشهد الإقليمي الراهن.
وعليه، تحمل الزيارة الثانية للرئيس “ماكرون” للقاهرة منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023 أهمية استراتيجية من حيث التوقيت والأولويات، كما تعكس مدى عمق العلاقات المصرية-الفرنسية من ناحية، والمصرية-الأوروبية من ناحية أخرى كونها تتزامن مع مرور نحو عام على زيادة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية في السابع عشر من مارس 2024.
توقيت حاسم
تأتي الزيارة في سياق جُملة من التحولات في توازنات القوى وعلاقات المصالح، وتحديدًا منذ بداية الولاية الثانية للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في يناير 2025، التي أضحت تُؤطر لنمط جديد من العلاقات الدولية القائمة على توظيف القوة أو التهديد باستخدامها لتحقيق أهداف ومصالح الوحدات الدولية دون الأخذ في الاعتبار التداعيات القائمة والمرجحة لها والتي فرضت بالفعل على القوى الدولية لا سيما الأوروبية والعربية المزيد من التحديات غير التقليدية وأسهمت في إعادة صياغة أبعاد الشراكة والتعاون مع الولايات المتحدة.
كانت أبرز مظاهرها في المقترحات الأمريكية بشأن تسوية الحرب الروسية-الأوكرانية، ووقف الحرب في غزة والتي افتقرت في تعاطيها مع هذه الصراعات الراهنة إلى معالجة الأسباب الحقيقة التي دفعت الأطراف المتحاربة للتصعيد العسكري المتبادل، وتجدد جولات العنف المرتبطة بها، علاوة على تجاهلها لحقوق الشعبين سواء الأوكراني أو الفلسطيني وتحديدًا فيما يتعلق بضمان وحدة وسلامة أراضيهم، بجانب عدم الاهتمام بالمخاوف الأمنية لدى الحلفاء والشركاء في أوروبا والشرق الأوسط بشأن تبعات التسوية، وذلك في سياق تنامي التقارب الأمريكي-الروسي من ناحية، وتماهي إدارة “ترامب” مع الرواية الإسرائيلية من ناحية أخرى.
الأمر الذي انطوى على العديد من المهددات الأمنية، كما دفع باتجاه المزيد من التنسيق المشترك بين مصر وفرنسا بشأن إحياء عملية السلام في الإقليمي، والعمل على وضع مُقاربة مشتركة لتسوية الحرب في غزة، بما يضمن إعادة إحياء عملية السلام في الشرق الأوسط، بجانب توطيد العلاقات الثنائية في كافة المجالات، وتعزيز التعاون في الملفات ذات الارتباط بالأمن الأوروبي من بينها ضمان عودة الاستقرار الإقليمي، وتأمين حركة الملاحة الدولية المرتبط بالوقف الفوري لإطلاق النار في غزة.
يُضاف إلى ذلك، انتهاج إدارة “ترامب” إلى سياساتها الحمائية في إطار تبنيها مبدأ “أمريكا أولًا” عبر فرض المزيد من التعريفات الجمركية على العديد من الشركاء التجاريين الرئيسيين بنسب متفاوتة بلغ حدها الأدنى 10% بينما وصل حدها الأقصى نحو 50% على كافة المنتجات والسلع التي تستوردها واشنطن من الخارج، في محاولة لتعزيز الاقتصاد الأمريكي وتقليل العجز في الميزان التجاري وفي هذا السياق فُرض على فرنسا إلى جانب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي –الذي يعد الشريك التجاري الأول لمصر- رسوم جمركية بنسبة 20%؛ حيث اعتبر “ترامب” حجم العجز التجاري مع التكتل بأنه “أمر فظيع” بعد وصوله إلى حوالي 213 مليار دولار في عام 2024. بينما فُرض على المنتجات المصرية نحو 10%.
وبالرغم من التحديات التي تحملها هذه الخطوة -خاصة مع إعلان بعض القوى الدولية فرض رسوم مضادة مثل الصين- على حركة التجارة الدولية ومعدلات نمو الاقتصاديات الوطنية التي طالتها الرسوم الأمريكية لا سيما الأوروبية التي لا تزال متأثرة بتبعات التخلي التدريجي عن إمدادات الطاقة الروسية، فإنها قد توفر المزيد من الفرص الاستثمارية لمصر مع الاتحاد الأوروبي في ضوء الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين، وأيضًا مع فرنسا التي تعتبر من أهم الشركاء التجاريين الرئيسين للقاهرة.
أولويات مُثارة
من المُتوقع أن تنعكس مآلات هذا المشهد الإقليمي والدولي شديد التعقيد على جدول أعمال الزيارة، كما سيحظى باهتمام خلال المحادثات الثنائية التي سيعقدها الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” مع الرئيس “ماكرون”، إلى جانب التطرق إلى مجموعة من الملفات ذات الاهتمام المشترك، أبرزها ما يلي:
تعزيز علاقات الشراكة والتعاون: في إطار حرص القاهرة وباريس على توثيق أواصل العلاقات الثنائية في العديد من المجالات بينها تعزيز العلاقات الاقتصادية؛ حيث بلغت قيمة الاستثمارات الفرنسية في مصر نحو 7 مليارات يورو مقسمة على حوالي 180 مشروعًا؛ الأمر الذي يمكن البناء عليه خلال المرحلة المقبلة. بجانب احتمالية التطرق إلى مواصلة جهود مكافحة الإرهاب لا سيما في أفريقيا وخاصة أن الجانبين لديهما مقاربات شاملة تستهدف القضاء على كافة مسببات تنامي الظاهرة. علاوة على تعزيز التعاون العسكري الذي شهد حالة من الزخم على مدار العقد الماضي، سواء على مستوى المناورات المشتركة على غرار التدريب البحري “كليوباترا”، والتدريب الجوي “آمون” بنسخهم السنوية التي تعقد بين القوات المسلحة المصرية والفرنسية أو من خلال صفقات السلاح؛ حيث تعد باريس من أهم موردين الأسلحة لمصر في إطار توجه القاهرة لتنويع مصادر السلاح وهو ما تجلى في شراء نحو 54 طائرة مقاتلة من طراز “رافال”، وحاملتي مروحيات من طراز “ميسترال”، وأربع طرادات من طراز “جويند”، بجانب والفرقاطة “فريم”.
يُضاف إلى ذلك، عزم الجانبين توثيق العلاقات في مجال النقل والسياحة والآثار، علاوة على التعليم العالي والبحث العلمي، خاصة بعد إبرام أكبر اتفاق إطاري للشراكة الدولية بين الجامعات المصرية والفرنسية لمنح درجات علمية مزدوجة في 15 تخصصًا علميًا في يوليو 2024. وقد يُعزز هذا التوجه اصطحاب الرئيس “ماكرون” خلال زيارته للقاهرة عدد من الوزراء مثل وزير الخارجية، والدفاع، والاقتصاد، والنقل، والصحة، والبحث، علاوة على عزم الرئيس الفرنسي زيارة جامعة القاهرة والمتحف المصري الكبير.
التأكيد على وقف إطلاق النار: سيكون التأكيد على أهمية وقف إطلاق النار أمرًا مُثارًا خلال المحادثات الرئاسية، في سياق رغبة الجانبين ضمان حماية المدنيين، واستكمال عمليات الإفراج عن الرهائن، فخلال المرحلة الأولى من الاتفاق تم إطلاق سراح نحو 1800 فلسطيني مقابل 33 إسرائيليًا من بينهم الرهينة “عوفر كالديرون” الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية والفرنسية خلال الدفعة الرابعة لتبادل الرهائن، وقد علق الرئيس “ماكرون” –في حينها- على منصة “إكس”: إنه يتشارك مشاعر “الارتياح والفرح الكبيرين” مع أقارب “كالديرون”.. وتابع أن “فرنسا تبذل كل ما في وسعها لإطلاق سراح الرهينة الإسرائيلي-الفرنسي الأخير لدى حماس “أوهاد ياهالومي” دون تأخير”.
إدخال المساعدات الإنسانية للقطاع: ارتباطًا بوقف إطلاق النار من المتوقع أن يكون هناك تأكيد على أهمية ضمان إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية لأهالي القطاع، استكمالًا للجهود المصرية الرامية للنفاذ المستدام للمساعدات، وتنسيق دخول المساعدات الغربية لا سيما الفرنسية عبر معبر رفح إلى غزة، فضلًا عن الدور الفرنسي في هذا الأمر؛ إذ كانت باريس في مقدمة الدول الأوروبية التي قامت بإرسال المساعدات الإنسانية والإغاثية لا سيما الطبية، كما استضافت مؤتمرًا إنسانيًا لدعم سكان القطاع بالتزامن مع الحرب. كما دعت فرنسا في بيان مشترك مع ألمانيا والمملكة المتحدة إسرائيل إلى “الالتزام بالتزاماتها الدولية لضمان تقديم المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع وآمن ودون عوائق إلى السكان في غزة”، كما وصف البيان الوضع الإنساني في القطاع بأنه كارثي.
وذلك ردًا على تعليق إسرائيل دخول المساعدات إلى غزة. وفي سياق التزام فرنسا بالتركيز على الوضع الإنساني في القطاع، سيتوجه الرئيس “ماكرون” إلى العريش في الثامن من أبريل الجاري لعقد مجموعة من اللقاءات مع الهلال الأحمر المصري وفرق تابعة لمنظمات غير حكومية فرنسية ودولية، وبعض الفرنسين المشاركين في بعثة الاتحاد الأوروبي الخاصة بمراقبة الحدود، وذلك وفقًا لما أوضحته الرئاسة الفرنسية.
مناقشة الخطة المصرية بشأن غزة: انطلاقًا من توافق القاهرة وباريس على أهمية التوصل إلى تسوية شاملة للحرب الراهنة، كأساس لاستعادة الاستقرار والسلام الإقليمي القائم على مبدأ حل الدولتين، فمن المتوقع أن يحتل ملف غزة أولوية متقدمة خلال زيارة الرئيس “ماكرون” للقاهرة، خاصة في ضوء إعلانه عن دعمه للخطة المصرية لإعادة إعمار غزة التي تم إقرارها خلال القمة العربية الاستثنائية التي عقدت في الرابع من مارس 2025، والمكونة من ثلاث مراحل، ومرتكزة بالأساس على إبقاء الفلسطينيين على أراضيهم، فضلًا عن تأكيد الجانبين على رفض أي مخطط يهدف إلى تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، وأيضًا كافة أشكال الضم التي قد تتعرض لها غزة أو الضفة الغربية.
استعادة أمن الممرات البحرية: استجابة للاضطرابات الناجمة عن استمرار الحرب في غزة وتحديدًا في منطقة البحر الأحمر على خلفية تهديد جماعة الحوثي لحركة الملاحة الدولية، من المُرجح أن تستهدف المحادثات إلقاء الضوء على أهمية ضمان أمن الممرات البحرية لا سيما قناة السويس التي يمر بها نحو 12% من حجم التجارة العالمية، وحوالي 25% من تجارة الحاويات العالمية، فضلًا عن أهميتها بالنسبة للقاهرة؛ حيث وصل حجم خسائر إيرادات القناة نحو 800 مليون دولار شهريًا نتيجة الأوضاع الراهنة في الإقليم، لذا فقد دعت مصر إلى أهمية استعادة الأمن لضمان حركة الملاحة في البحر الأحمر عبر التعاون المشترك. فيما انضمت فرنسا إلى تحالف “حارس الازدهار” بقيادة الولايات المتحدة، بجانب المشاركة في مهمة الاتحاد الأوروبي “أسبيدس”، لردع التهديدات الراهنة وضمان حرية الملاحة البحرية.
بحث سبل الاستقرار الإقليمي: من المُرجح أن يشير الرئيس “السيسي” والرئيس “ماكرون” إلى أهمية التعاون المشترك لاستعادة الأمن والاستقرار، تجنبًا للحد من تنامي اتساع نطاق التصعيد العسكري في الإقليم. بجانب التأكيد على أهمية وحدة وسلامة السيادة الوطنية والإقليمية، ورفض التدخلات العسكرية أو التوسع على حساب الأراضي العربية، بجانب ضرورة العمل على دعم الاستقرار السياسي في بعض دول مثل: سوريا وليبيا ولبنان والسودان والصومال. علاوة على احتمالية التطرق إلى ضرورة الحد من الانتشار النووي في الشرق الأوسط كهدف لخفض فرص المواجهة العسكرية. اتصالًا بذلك هناك احتمالية لعقد قمة ثلاثية مصرية-أردنية-فرنسية خلال زيارة الرئيس “ماكرون” للقاهرة، وفقًا لما نوه عنه المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية.
ختامًا، من المتوقع أن ترسخ زيارة الرئيس الفرنسي لمصر في مثل هذا التوقيت لفصل جديد من العلاقات المعززة على كافة المستويات، بناءً على علاقات التعاون والشراكة التاريخية، وتقارب الرؤى حول آليات التعاطي مع العديد من الملفات ذات الأولوية الملحة وفي مقدمتها استعادة السلام والاستقرار في الشرق الأوسط.
باحث أول بوحدة الدراسات الأوروبية