على وقع دخول الحرب الروسية على أوكرانيا شهرها الثالث، أعلن الجيش الروسي عن نجاح تجربة الإطلاق الأول من نوعه لصاروخ “سارمات” RS-28 العابر للقارات، وهو ما اعتبره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمثابة صاروخ المستقبل الذي لا يمكن مناظرته بأي صاروخ آخر في العالم، حيث يمكنه تفادي كافة منظومات الاعتراض المضادة والرادارات الموجودة في العالم بالنظر إلى قدرته على المناورة وصعوبة توقع مساره، ملمحًا بذلك إلى أنه يشكل أعلى وسائل الردع التي باتت تمتلكها روسيا ضد أي تهديد وجودي لبلاده. وفي المقابل، قلل المتحدث باسم البنتاجون جون كيربي من خطورة تلك التجربة على أمن الولايات المتحدة أو حلفائها، مشيرًا إلى أن موسكو أخطرت واشنطن بالتجربة وفقًا للقواعد المتّبعة في هذا الشأن في إطار المعاهدة النووية السارية بين البلدين.
وعلى الرغم من رسائل الطمأنة التي أشار إليها كيربي، إلا أنه لا يمكن التغاضي عما تحمله التجربة الروسية الجديدة من رسائل بخلاف تلك التي أشار إليها بوتين علنًا، في سياق ما يمكن تصوره في إطار تداعيات تلك التجربة، ومنها على سبيل المثال ما يلي:
الإعلان عن انضمام صاروخ سارمات إلى ترسانة الصواريخ الروسية الفرط صوتية النووية العابرة للقارات ليس جديدًا في حد ذاته، فقد سبق إعلان بوتين عن الصاروخ عام 2018 بعد ثلاث سنوات من بدء تصميمه الأول؛ إلا أن أغلب الترجيحات كانت تشير إلى أن الصاروخ لن يكون جاهزًا للخروج إلى الفضاء قبل عام 2025، كما أن القيود الاقتصادية التي فُرضت على روسيا بسبب الحرب الأوكرانية دعمت هذا الترجيح إلى حد كبير، وهو ما ينطوي على رسالة ضمنية بأن سلاح العقوبات الاقتصادية لن يردع موسكو عن استكمال تجاربها الصاروخية النوعية من جهة، ومن جهة أخرى إظهار موسكو بأنها لم تغرق في وحل الحرب الأوكرانية على النحو الذي تُصوره أجهزة الاستخبارات الغربية التي تدعم أوكرانيا بالسلاح الذي وصلت قيمته إلى ما يقارب 4 مليارات دولار تقريبا حتى الآن.
السياق الآخر الذي يستشف من الرسائل الضمنية لبوتين، هو الدفاع عن موقفه الخاص بخوض حربه ضد أوكرانيا بأن هناك تهديدًا وجوديًا لروسيا، على خلفية توسيع “الناتو” لمنظوماته الدفاعية في أوروبا الشرقية، وبالتالي فالصاروخ الجديد بما يمتلكه من قدرات فائقة هو رسالة لواشنطن وللناتو بشكل عام في المقام الأول تتجاوز حدود الحرب الأوكرانية، وأن روسيا قادرة على تحقيق الردع الاستراتيجي بشكل استباقي قبل أن تستكمل واشنطن عملية بناء الدرع الصاروخي التي سرعت خطاها فيه بالفعل عقب الحرب الأوكرانية.
لكن بشكل عام، يمكن القول إن التجربة الروسية الجديدة هي مؤشر على مساعي إطلاق سباق تسلح صاروخي عالمي جديد، فالتجربة الأخيرة تأتي بعد شهر تقريبًا من عملية إطلاق القوات الروسية لصاروخ “كينجال” الفرط صوتي في أوكرانيا، وهو ما تسبب بالفعل في إثارة المخاوف من إقدام موسكو على استخدام صواريخ استراتيجية يمكنها تغيير موازين الردع الاستراتيجي القائمة بالفعل، كما أنها تتناغم بذلك مع التوجهات الصينية في هذا الصدد، وهو ما قد يسبب قلقًا للولايات المتحدة التي تسعى إلى عدم الانزلاق إلى هذه الخطوة، فقد كشفت الولايات المتحدة عن اتجاه صيني لتعزيز ترسانتها الصاروخية، مع زيادة عدد الصوامع التي يتم فيها تطوير الصواريخ الصينية العابرة للقارات، وزيادة مخزونها الصاروخي بشكل عام، بالإضافة إلى التجربة الكورية الشمالية التي أُجريت في مارس 2022 بعد توقف لعدة سنوات.
في مقابل ذلك، كان من المفترض أن تطلق واشنطن في مارس العام الجاري تجربة لصاروخ “مينتيمان -3” لكنها أوقفت التجربة بعد أن أشارت تقارير دولية إلى أن الصاروخ كان بالفعل في وضع الإطلاق. علمًا بأن واشنطن سبق وأجرت تجربة على الصاروخ في فبراير 2020 بالفعل، وبالتالي فإن التجربة الثانية التي تم الإعلان عن وقفها هي تجربة مطورة للتأكيد على قدرات الصاروخ التي تشكل نقلة نوعية في القدرات الصاروخية الأمريكية. ووفقًا لمواصفات الصاروخ الروسي “سارمات” فإنه يمكنه حمل 10 رؤوس نووية ثقيلة أو 16 رأسًا خفيفة، وقطع مسافة تصل إلى 6 آلاف كلم بسرعة 15 ألف ميل في الساعة الواحدة، كما أنه يعيد لفت الانتباه مرة أخرى إلى مقاربة سباقات التسلح الصاروخي والنووي، ويطلق عليه صاروخ “يوم القيامة” أو بتسمية الناتو “الشيطان” بالنظر إلى إمكانياته كصاروخ نووي بالأساس. ففي المقابل لذلك حينما أعلن “كيربي” عن وقف تجربة “مينتيمان -3” علق بقوله إن الولايات المتحدة تؤكد على أنها “قوة نووية مسئولة”، وهي نقطة جوهرية في هذه المقاربة.
لكنّ النقطة السابقة تقود إلى نقطة أخرى تتعلق بعامل التوفق في هذا السباق المحتمل، وهي طبيعة القدرات النووية التي يمتلكها الطرفان، فروسيا طورت مركبة الانزلاق الصاروخي الخاصة لإنجاح عملية الإطلاق، وبالتبعية الرؤوس الحربية التي تحمل المادة النووية، ونظريًا تبدو هذه الرؤوس أكثر من نظيرتها التي يمكن للصاروخ الأمريكي حملها وهي ثلاثة رؤوس بقدر 335 طنًا، لكن من الناحية العملية فإن واشنطن تطور من طبيعة المكون النووي الذي يمكن أن تحمله رؤوس أقل، كذلك فـ”مينتيمان -3″ يمكنه حمل أكثر من 10 رؤوس حربية بالفعل، بالإضافة إلى أن واشنطن أعلنت أنها تمتلك قرابة 450 صاروخًا منه، في حين لا توجد تقديرات معلنة عن حجم ترسانة روسيا من صواريخها الجديدة.
هذه المقارنة بين إمكانيات الصاروخين الروسي والأمريكي محل نقاش محتدم داخل الولايات المتحدة حول ما الذي يمكن أن تشكله عملية إطلاق سباق تسلح صاروخي ونووي في الوقت نفسه على تغيير قواعد اللعبة، ونصحت مراكز الفكر الاستراتيجي الإدارة الأمريكية السابقة والحالية أيضًا بعدم الانخراط في هذه السباقات وجر العالم إليها، بل على العكس من ذلك أوعزت بأن تلعب واشنطن دور القوة الرشيدة في النظام العالمي لضبط التسلح، وعدم الخروج عن قواعد اللعبة المتبعة في هذا الشأن. وأشارت تقديرات استراتيجية لجأت إلى سيناريوهات محاكاة إلى خلاصة تساؤل مفاده: إلى أين سيتجه العالم إذا ما وصلت الأمور إلى هذا السيناريو المرعب؟ خاصة وأن موسكو لديها أكبر ترسانة نووية في العالم، بالإضافة إلى أنه لا يمكن النظر فقط إلى صاروخ “سارمات” على أنه المهدد الوحيد، فهناك عائلات أخرى من الصواريخ الروسية وبمخزون كبير تشكل تهديدًا فعليًا للقواعد الصاروخية في أوروبا قبل أن تفكر حتى في الوصول إلى الولايات المتحدة، رغم ما تمتلكه الأخيرة من قدرات لا يمكن التقليل منها. ومن المثير للانتباه في هذه التقديرات أنها توقعت مسبقًا سيناريو التحرك الروسي في مواجهة الناتو مبكرًا قبل اندلاع الحرب الأوكرانية.
وعلى الرغم من أن التجربة الروسية يمكن اعتبارها مجازفة، لكنها لا تزال في حيز إظهار القدرات النوعية مع إطلاق أكبر قدر ممكن من الرسائل، لكنها لا تزال في إطار الحد الممكن من الضوابط قبل الوصول إلى سيناريو حافة الهاوية بأمتار قليلة، ودلالة ذلك ما أشار إليه كيربي بالإخطار الروسي للتجربة، وهو ما يعني تفعيل “الخط الساخن” الجديد بين وزارتي الدفاع الروسية والأمريكية وفق ما تم الإعلان عنه بالتزامن مع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا. لكن لا يزال من الصعوبة بمكان الجزم بما إذا كان اتباع الضوابط في إطار الحد الأدنى كفيلًا بالحد من المخاوف المتصورة، خاصة إذا ما تصورنا أن موسكو تريد أن تُخرج “سباق التسلح الصاروخي الصامت” إلى حيز العلن، وهو ما سيتوقف مستقبلًا على خطة الولايات المتحدة، وإذا ما كانت ستبقى على وضع الضبط أم ستغير موقفها، مع الوضع في الاعتبار أن موسكو لا تنظر فقط إلى الموقف الأمريكي، ففي الوقت ذاته هناك مطالب أوروبية ضاغطة على واشنطن بنقل أسلحة استراتيجية ونووية أمريكية، ولا سيما بولندا التي تشكل رأس حربة حاليًا على الجبهة الشرقية للناتو، لكن تظهر واشنطن حتى الآن دعم البنية الدفاعية الأوروبية لا يزال له سقف واضح، وبالتالي لن تغير من قواعد اللعبة حتى الآن.