تجدد الصراع في منطقة دارفور ولقي 168 شخصًا مصرعهم، ونزح نحو 20 ألفًا آخرون، وعدد غير معروف من الآلاف الجرحى، بعد الاشتباكات التي شهدتها منطقة (كرينك) التي تبعد 80 كم عن مدينة الجنينة حاضرة ولاية غرب دارفور، في 24 أبريل 2022، بعد هجوم من مليشيات قبلية مسنودة بقوات حكومية غير نظامية يعتبر الأعنف من نوعه منذ توقيع اتفاق جوبا للسلام بين الحركات المسلحة الدارفورية والحكومة الانتقالية. بدا النزاع محدودًا، ولكنه سرعان ما تطور نتيجة انفلات الحالة الأمنية في جميع ولايات دارفور الخمسة حتى أصبحت هناك بيئة جاهزة للصراعات والنزاعات ذات الطابع القبلي والجهوي.
ويطرح النزاع الحالي مجموعة من الأسئلة: من المستفيد الأول من الحرب في دارفور؟ ومن هم صناع وتجار الأزمات في دارفور؟ وأين بند الترتيبات الأمنية؟ وما الأيدي الخفية وراء الإقليم المضطرب؟.
تجدد الصراع ومحاولة السيطرة عليه
أكدت تنسيقية القبائل العربية أن مسلحين هاجموا منطقة (بير دبوك) غرب منطقة (كرينك) وقُتل اثنان من الرعاة هما أحمد الصليل عبدالله، وسعيد أبو بكر، برصاص مسلحين اختبئوا لدى قبيلة المساليت، وقامت القبائل العربية بملاحقة ومطاردة الجناة الذين احتموا في الرئاسة المحلية بمنطقة (كرينك)، وطالبت القبائل العربية بتسليمهم الجناة؛ إلا أن الجهات المختصة رفضت ذلك مما ساعد في اندلاع الاشتباكات المسلحة بين الأطراف بالمنطقة. وفي السياق ذاته، أصدرت الكتلة الثورية (ولاية غرب دارفور) مرسومًا اتهمت فيه القبائل العربية بشن هجوم بالأسلحة الثقيلة على منطقة (كرينك)، مما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى.
وبسبب الثأر من قبيلة المساليت بعد مقتل اثنين من قبيلة الرزيقات، تجدد العنف القبلي بين كل من الرزيقات والمساليت في منطقة (كرينك)، وهو الأمر الذي دفع القبائل العربية لأن تشن هجومًا مباغتًا في منطقة كرينك بغرض الثأر والانتقام لمقتل ذويهم بعد احتماء القتلة بها. وقد استخدمت القبائل العربية الأسلحة الثقيلة، وسيارات الدفع الرباعي، والدراجات النارية، وتم إشعال النيران بالمنازل، ونهب جميع ممتلكات المدنيين بمنطقة (كرينك)، بالإضافة إلى إحراق جميع مؤسسات الدولة بما فيها مقر الشرطة، والاستيلاء على مخازن الأسلحة. وما زالت مليشيات القبائل العربية تتجمع في المنطقة، مما يشير إلى نوايا تجدد الصراع المسلح مرة أخرى هناك.
وقد اتخذت السلطات العسكرية في الخرطوم تعزيزات أمنية غير مسبوقة بولاية الجنينة، بعد أحداث العنف التي وقعت في منطقة (كرينك). وفي جلسته الطارئة أصدر مجلس الدفاع والأمن، وهو أعلى هيئة أمنية بالبلاد، مرسومًا بإعلان حالة الطوارئ بولاية الجنينة، وفرض حظر تجوال من الساعة السادسة مساء حتى السادسة صباحًا، ومنحت أفراد القوات الأمنية تفويضًا كاملًا باستخدام القوة لحسم المواجهات، فيما أرسلت القيادة العامة للجيش السوداني طائرات عسكرية لحسم النزاع.
تداعيات غياب أجهزة الدولة عن الإقليم
تشهد ولاية غرب دارفور، وعاصمتها مدينة الجنينة، منذ عامين نزاعات وصراعات قبلية أودت بحياة المئات من المواطنين العزل، كما تسببت في نزوح ما يقرب من 20 ألفًا من أهالي المنطقة. وعلى مدار الشهور الماضية شهدت عدة مناطق في غرب دارفور وجنوبها ووسطها، صراعات ونزاعات قبلية، وتمثل عملية العنف القبلي والصراعات المتكررة في جميع ولايات دارفور الخمسة تحديات حقيقية في ظل الغياب التام لأجهزة الدولة، حيث لم تتخذ الدولة السودانية عقوبات رادعة تجاه الذين يرتكبون تلك الجرائم، فبلا شك يشجع عدم تنفيذ القانون على مرتكبي العنف الآخرين من بعض القبائل على تنفيذ وشن عمليات ثأر كما حدث بين الرزيقات والفلاتة.
وعلى الرغم من توافر المعلومات لأجهزة الدولة السودانية حول الجهات التي شاركت في العنف، إلا أن حكومة الإقليم والحكومة الانتقالية لم تتحركا لاتخاذ الإجراءات القانونية حتى لا تتسع دائرة الانتقام والثأر في مجتمع قبلي.
إخفاق اتفاق جوبا والترتيبات الأمنية
تتصاعد وتيرة العنف والصراعات والنزاعات القبلية بين القبائل في ولايات دارفور المضطربة بأعلى مما كانت عليه في وقت سابق، مما يعني أن بند الترتيبات الأمنية الموقّع بين الحركات المسلحة في دارفور والحكومة الانتقالية لم يدخل حيز التنفيذ، وأيضًا عدم جدوى تأثيره خاصة فيما يتعلق ببسط الأمن وسيادة القانون في ولايات دارفور الخمسة. فضلًا عن أن عدم إجازة بعض القوانين الخاصة بإدارة الحكم الإقليمي، بالإضافة إلى عدم وجود صلاحيات كافية لحكام الولايات؛ أضر بشكل كبير وأدى إلى تدهور التفلتات الأمنية، مما أثر على كافة الأوضاع الداخلية في الإقليم المضطرب.
كما حدث فراغ أمني كبير بعد إنهاء مهمة قوات حفظ السلام الأممية، في جميع ولايات دارفور الخمسة، إثر توقيع اتفاق سلام بين الحركات المسلحة في دارفور والحكومة الانتقالية في أكتوبر عام 2020، والذي بموجبه يتم تنفيذ بند الترتيبات الأمنية، والذي ينص على نشر قوة قوامها 12 ألف جندي نصفهم من مقاتلي الحركات والنصف الآخر من القوات النظامية لحماية المدنيين في الإقليم كقوة هجينة مكونة من الأجهزة المختلفة، لكي تكون بديلًا للقوات الأممية في حفظ الأمن والاستقرار في دارفور.
تصاعد دور المليشيات
تلعب المليشيات القبلية دورًا كبيرًا في زيادة رقعة عدم الاستقرار في دارفور، وتشكل هاجسًا يؤرق المواطنين وحكومات الإقليم المضطرب، وبالتالي تقع مسئولية الانفلات الأمني على بعض زعماء القبائل الذين لديهم علاقات داخل مؤسسات الدولة السودانية، في مجتمع يقوم على القبيلة والعشيرة، حيث تشكل أحد أهم المحاور في الحياة اليومية لسكان الإقليم، فضلاً عن أن النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي يُبنى أساسًا على الزراعة والرعي، وعلى كيفية المحافظة على سبل العيش والحياة من خلال قوة وتأثير القبيلة في المنطقة التي تتحرك فيها، فيتم توظيف هؤلاء في معارك الكل فيها خاسر، وهو ما يمكن تفسيره بالتواطؤ مع المليشيات المسلحة ودعمها بالمال والعتاد وتوفير الحصانة لها من عدم المساءلة القانونية.
إن ظاهرة تنامي المليشيات القبلية في المجتمع بدارفور تعود إلى تراجع دور الإدارة الأهلية، بالإضافة إلى الحرب الأهلية عام 2003، حيث انتشر السلاح بسهولة، وأصبحت أغلب القبائل تمتلكه، في ظل غياب سلطة الدولة.
ختامًا، في ظل الأزمة الراهنة التي تعيشها الحكومة المركزية، والانقسام الذي يعيشه السودان، وعدم تطبيق اتفاق جوبا والتفاهمات الأمنية؛ فإن تجدد الصراعات في دارفور أمر منطقي نتيجة الانفلات الأمني الراهن، كما أن تجدد الصراعات القبلية يهدد استقرار ووحدة الأراضي السودانية ككل.






























