بعد مرور أكثر من عام منذ اشتعال الصراع في السودان، تزايدت مخاوف تشاد من فقدان السيطرة على الحدود، بين البلدين، تلك المخاوف دفعت تشاد إلى تدشين مرحلة جديدة من العلاقات مع موسكو، أملًا في أن تسهم روسيا في مساعدة تشاد على حماية أمنها القومي وسلامة حدودها، وذلك في وقت تزايدت فيه أدوار الفواعل الإقليمية والدولية في المنطقة، وتفاقمت المنافسة على القارة ككل وعلى مواردها لا سيما الطاقة والمعادن النادرة، وربما وجدت روسيا ضالتها في هذه المنطقة، وذلك ضمن صراعها الجيوسياسي مع الغرب، يحاول هذا التقرير أن يلقي الضوء على التطورات التي شهدتها العلاقات خلال الفترة الأخيرة بين روسيا وتشاد، ودوافع ذلك وتأثيراته.
ويمكن فهم علاقة تشاد المتطورة في الآونة الأخيرة في ضوء التطورات السياسية المصاحبة لانتهاء المرحلة الانتقالية بعد الانتخابات الرئاسي. فمنذ تولي الجنرال محمد إدريس ديبي رئاسة المجلس العسكري في تشاد، حيث طور العلاقات مع الحكومات العسكرية في مجموعة دول الساحل، واتفق مع توجهاتها في الابتعاد عن الغرب والميل إلى تطوير العلاقة مع موسكو من أجل التعاطي مع التحديات. وبعد الانتخابات التي نصب فيها محمد إدريس ديبي رئيسًا تنامت مؤشرات التقارب بين تشاد وروسيا عبر صفقات السلاح، والتي كان آخرها في إبريل 2024 عندما زودت موسكو تشاد بطائرات مسيرة بعد أن نجحت في تزويد مالي أيضًا بتلك المنظومة، وهي الصفقة المهمة التي كانت تشاد بحاجة إليها على أكثر من صعيد، بما في ذلك مواجهة الجماعات المتطرفة التي تستخدم التكنولوجيا نفسها، ومراقبة الحدود وضبطها.
وكان الرئيس التشادي محمد ديبي قد وعد الناخبين في حملة انتخابية في مايو 2024 بتحسين الأمن الداخلي والانفتاح على شركاء أمنيين جدد، مثل الكرملين، وربما كانت هذه رسالة تلقتها موسكو التي لديها طموح كبير لتعزيز نفوذها في أفريقيا وفي منطقة الساحل تحديدًا باعتبارها ذات أهمية حيوية للأمن الأوروبي من جهة الجنوب، وساحة للتنافس مع الولايات المتحدة، لهذا جاءت زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى تشاد في 5 من يونيو 2024، والمهم أن هذه الزيارة جاءت مباشرة بعد أن أخطر دولة تشاد ملحق الدفاع الأمريكي بإلغاء الاتفاقية الخاصة بالقوات الأمريكية في تشاد من خلال رئيس هيئة الأركان الجوية الجنرال إدريس أمين، وهي خطوة تشير إلى رغبة تشاد في إفساح المجال لموسكو كشريك استراتيجي بدلًا عن العلاقة مع الولايات المتحدة والغرب.
دوافع تشادية متنامية
أثار تمدد نفوذ تحركات قوات الدعم السريع على الحدود مع تشاد وعلى حدود دول الجوار مخاوف نجامينا، خاصة بعد أن قامت قوات الدعم السريع بإعادة انتشار قواتها بين المناطق الحدودية، وذلك بهدف ضمان عدم جفاف أحد المصادر الرئيسية للإيرادات غير المشروعة وهي مناجم الذهب الكبيرة في المنطقة الحدودية، فضلًا عن أن تلك الحدود مركز لتهريب الأسلحة والمخدرات، وكذلك نافذة تسمح بحرية حركة نسبية وغير مقيدة للأسلحة ومقاتلي المليشيات على حد سواء، بالإضافة إلى أن الحدود تمنح الدعم السريع الفرصة للاتصال بروابطها العرقية والإثنية والسياسية في تشاد؛ الأمر الذي يتيح لها تجنيد عناصر جديدة تدعم بها قواتها.
كما أن الجماعات المسلحة قد استعادت نفوذها في المنطقة، وبدأت في شن هجمات نوعية في المنطقة طال بعضها تشاد، حيث قيام جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” في دولة مالي، وهي أحد اذرع تنظيم القاعدة في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل، بشن هجوم بطائرات مسيرة لأول مرة في تاريخ الجماعة في مالي، تلك العملية سوف تزيد من مخاطر انتشار الطائرات المسيرة، وأيضًا تمثل خطوة تهديدية كبيرة لقوات الأمن في تلك المنطقة لمواجهة مثل هذه الهجمات بشكل فعال نتيجة لعدم كفاءة وخبرة قدرة القوات الحكومية في مواجهة مثل هذه التهديدات.
إضافة إلى ذلك، فإن تشاد كغيرها من دول الساحل ووسط القارة لديها مخاوفها من النفوذ الأمريكي والغربي الذي على مدار عقود لم يسهم إلا في تدمير دول ومجتمعات القارة، واستغلالها وسرقة ثرواتها، وقد عبرت تشاد عن مخاوفها من أنشطة الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية التي تزايدت بصورة غير مسبوقة خلال الفترة الأخيرة في إطار التنافس الجيوسياسي بين الدول الكبرى على الساحة الأفريقية، وخصوصًا النشاط الأوروبي الذي يحاول أن يتدارك حالة الرفض والغضب، وكذلك الرغبة الأمريكية في ملء الفراغ وإعادة التموضع في إطار المنافسة الاستراتيجية التي تقودها على الصعيد الدولي من أجل تأكيد هيمنتها الدولية، ولا شك أن مخاوف تشاد التقت مع طموحات موسكو التي وجدت في موجة الغضب المتصاعدة في هذه المنطقة فرصة من أجل تعزيز نفوذها وامتلاك ورقة ضغط على الغرب والولايات المتحدة، وربما المنافسة خارج المجال الحيوي من أجل إنهاك الخصوم.
ومن المهم الإشارة إلى أن تشاد تتحرك في إطار سياق إقليمي وليس بصورة منفردة نحو موسكو، وهنا يمكن التنويه إلى أن الرئيس التشادي محمد كاكا بدأ فعليًا في زيادة التعاون مع دول الساحل المدعومة من روسيا في الأشهر الماضية، وأعربت تشاد عن اهتمامها إلى الانضمام إلى تحالف دول الساحل، وهو تحالف عسكري مدعوم من موسكو وموالٍ له يضم كلًا من مالي، النيجر، بوركينا فاسو وتشاد.
الحسابات الروسية
قدمت روسيا دعمًا عسكريًا لتشاد للحد من الوجود المعارضة المسلحة في شمال البلاد، بما يضمن الاستقرار لنظام ديبي، غير أن الأمر لم يتوقف على تنامي العلاقات في الجوانب السياسية والأمنية والتعاون العسكري، بل إن الأمر طال المصالح الاقتصادية، حيث بدأت بالفعل تشاد تجني ثمار استخراج كميات كبيرة من الذهب في سلسلة الجبلية مع الحدود مع ليبيا بمساعدة القوات الروسية، ومن المعلوم أن روسيا لديها اهتمام خاص بالحصول على الذهب من هذه المناطق، وذلك في إطار تعزيز احتياطاتها منه، الأمر الذي يساعدها في تفادي تأثير العقوبات الأمريكية، وتطلعاتها في إضعاف هيمنة الدولار ونظام السويفت الغربي.
وبلا شك، ستوفر موسكو لنجامينا دعمًا يدفع العلاقات قدمًا، وهذا من شأنه أن يعزز الاستراتيجية الروسية طويلة الأمد، التي تتعلق بكيفية زيادة نفوذها في غرب أفريقيا. ومع أن روسيا تواجه عقبات في التموضع في تشاد، بفضل السياسيات المستمرة لبعض دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لكن تستغل موسكو الضغوطات الداخلية في تشاد والتي تطالب بالابتعاد عن فرنسا وتطرح نفسها كبديل يمكن الاعتماد عليه، وهذا يتواكب مع نهج دول الساحل التي لديها رغبة في تقليل الاعتماد على الغرب والشراكة الأمنية المكلفة.
وبالمقابل لدى روسيا استراتيجية في إقليم الساحل تتضمن توسيع العلاقات الدفاعية والاقتصادية مع كل عضو في المجموعة؛ مما يعني أن تشاد سوف تستفيد من روسيا في منظومة الأسلحة والعتاد العسكري الروسي، وهو ما سيسهم بدوره في ضمان استقرار المنطقة وضمان تدفق مصالح روسيا، حيث ستصبح أنجمينا ضامنًا للأمن الفعلي من التهديدات الخارجية خاصة من جماعة بوكو حرام ومستقبل مليشيا الدعم السريع. وهي جهود ستكون منسقة إقليميًا إذ قامت موسكو بتدشين وجود عسكري لها في الدول الأربع.
كما تستغل موسكو التناقضات الداخلية في تشاد من خلال المعارضة الكبيرة للوجود الفرنسي في تشاد منذ 2021. وقد لعبت وسائل الإعلام الروسية دورًا كبيرًا في منطقة الساحل على هذا التيار المستقل المناوئ لسياسية الفرنسية في غرب أفريقيا، بتأجيج المعارضة الداخلية المعادية للغرب، بالإضافة إلى خطاب دبلوماسي حافز لهذا التيار يقدم الكرملين نفسه من خلاله كبديل جديد وغير استعماري.
ولا شك سوف تحرص موسكو على ضمان استقرار تشاد النسبي، بفضل تعاونهم العسكري الاستراتيجي، بالتعاون العسكري والاستراتيجي، يستعد الكرملين لنقل عتادها العسكري وتوزيع عدد من قواتها في ليبيا إلى كل من تشاد والنيجر ومالي وبوركينا فاسو، ليسهل لها التواصل مع قواتها المترابطة في أفريقيا الوسطى، بالتالي تكون موسكو تمكنت في خلال فترة وجيزة من تكوين شبكة متنوعة لقواتها المنتشرة في غرب أفريقيا.
ختامًا، يمكن القول إن روسيا تكتب تاريخًا جديدًا لنفوذها في غرب أفريقيا، وأن دول المنطقة التي شهدت موجة عارمة ضد الوجود الفرنسي والأمريكي تجد في روسيا بديلًا مهمًا يمكن أن يدعم تطلعاتها في تحقيق استقلالية استراتيجية عن الغرب، وهذه التطورات بدورها سوف تشعل التنافس الدولي في منطقة الساحل، وتجعلها ساحة للمواجهة وتصفية الحسابات بين القوى الكبرى، ومنطقة تتقاطع فيها المشروعات والمنافسة، وهو أمر له تأثيراته في الأمن الإقليمي، وفي الاستقرار الداخلي في هذه الدول، لا سيما أن المنطقة ذات أهمية استراتيجية لا سيما فيما يتعلق بالطاقة والمعادن النفيسة وخطوط التجارة الدولية والتنافس الجيوسياسي، ربما ستحقق تشاد جملة من المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية من التعاون مع موسكو. وحقيقة ليس من المستبعد في ظل التنسيق الإقليمي والتعاون مع موسكو أن تقود التحركات الراهنة إلى الحد من الاضطرابات وأنشطة الجماعات المتمردة والعنيفة واستعادة الدول الوطنية سيادتها وسيطرتها على حدودها بمساعدة موسكو التي ستجعل ضمن أولوياتها تقديم أمل لدول المنطقة بديلًا عن الغرب والولايات المتحدة.