في كل أشكال الحراك الشعبي التي شهدتها المنطقة في الموجة الأولى عام 2011، أو الموجة الثانية في 2019، عهد إلى سلطة انتقالية لتولي مقاليد الأمور، كانت ليبيا الوحيدة التي أزيح فيها النظام بتدخل عسكري خارجي عبر حلف شمال الأطلنطي الناتو، حيث تولى المجلس الوطني الانتقالي مقاليد الأمور بعد مقتل العقيد معمر القذافي بثلاثة أيام تقريبًا (23 أكتوبر 2011). وبعد نحو ثمانية أشهر، وفي منتصف العام التالي انتخب أول برلمان للبلاد (المؤتمر الوطني العام) الذي تسلم السلطة من الانتقالي، وتباعًا تشكلت أجسام سياسية وأمنية مختلفة ومزدوجة بشكل جهوي ما بين الشرق والغرب، وبالتالي لم تكن مركزية في أي مرحلة انتقالية من المراحل التي تعاقبت عليها البلاد وانتهت جميعها إلى الفشل، بما فيها المرحلة الانتقالية التي انتهت مؤخرًا (21 يونيو 2022)، فمن الناحية الشكلية كانت هناك حكومة واحدة في طرابلس، لكن عمليًا كانت هناك مراكز متعددة للسلطة في البلاد.
هذه الخلفية المعروفة عن ليبيا، تقود إلى نتيجة واحدة مفادها أنه لا يمكن استعادة الاستقرار في ليبيا إلا عبر سلطة موحدة، بغض النظر عن هيكلها (مركزي أو لا مركزي)، تنهي حالة التعددية والجهوية القائمة، وللوصول إلى هذه النقطة، فإن الأمر يتطلب توافقًا سياسيًا بين كافة اللاعبين في المشهد السياسي الليبي على الصعيد المحلي، لكن هذا التوافق هو ذاته معضلة الحل في ليبيا، فكل طرف يسعى إلى هندسة التوافق وفقًا لمنظوره الخاص، الذي يستند على معيار واحد، وهو معيار المصلحة؛ إذ لو كان هناك معيار أو معايير أخرى لما بقيت هذه الأجسام، سواء أكانت وليدة عملية انتخابات مثل البرلمان، أو وليدة مسار تدويل الملف الليبي مثل كافة الحكومات والأجسام الانتقالية القائمة في المشهد الليبي.
النتيجة الأخرى التي شكّلتها مخرجات هذه المعادلة الصعبة التي يواجهها الحراك الشعبي حاليًا في ليبيا، تتعلق بمطالبة الحراك بإزاحة كافة الأجسام دون تمييز بين ما هو منتخب، وما تشكل في سياق مخرجات عملية التدويل، التي تمت تحت شعار الرعاية الأممية، في ظل الوصاية المقررة بحكم الفصل السابع من الأمم المتحدة، وآخرها وليس أولها المسار الألماني (مؤتمرا برلين 2020 – 2021)، وهي العملية التي تعثرت مع فشل إجراء الانتخابات التي كانت مقررة في 24 ديسمبر الماضي، فحتى الخيار الذي تبناه الحراك والمتمثل في الإبقاء على المجلس الرئاسي، كشف الاجتماع الأول بين قادة حراك “بالرتيس” أنه ليس البديل الأفضل الذي يمكن التعويل عليه حتى لا يكون هناك فراغ في السلطة. ليس فقط بالنظر إلى ضعف هذا المكون، ولكن بالنظر إلى الخريطة العامة لتوزيع السلطة والتي يبدو فيها “الرئاسي” هو الحلقة الأضعف بينها جميعًا، إذ لم يكن لأدائه ملامح واضحة، حيث أهدر فرصة بناء الجسور بين كافة المكونات والأطراف، حيث تصدعت العلاقات بين الأطراف وفي المقدمة منها البرلمان وحكومة الوحدة عندما حجب البرلمان عنها الثقة، كما انحاز إلى حكومة الدبيبة عندما شكل البرلمان حكومة الوحدة على أرضية خريطة الطريق التي أعلن عنها في مارس 2022، وحتى الآن لا يزال متخبطًا في مشهد صعب.
لا شك أن الحراك الشعبي أصبح رقمًا في المشهد الليبي، لكنه رقم سيتحول بمرور الوقت إلى طرف في المعادلة الصعبة، فرهانه على الرئاسي فشل، وخياره الآخر باللجوء إلى المجلس الأعلى للقضاء يبدو أنه خيار أضعف، بحكم أن المجلس ذاته هو أحد المكونات التي طالتها أعراض الأزمة الليبية المزمنة، وبالتالي ليس أمامه من خيار سوى التصعيد باللجوء إلى العصيان المدني، وهو خيار ليست له سوابق ذات مغزى، فالعصيان المدني سيزيد من الأزمات التي تشهدها البلاد. على سبيل المثال، يشار إلى أن هناك قوة قاهرة تعيق عمل قطاع النفط، وهو القطاع الأهم في البلاد، وهو ما يطرح السؤال حول نتائج العصيان المدني، التي يمكن أن تشكل عمل الدولة في الحالات المناظرة، وضعًا في الاعتبار أن الشلل الراهن في قطاع النفط ظاهره حالة تمرد شعبي على موقف حكومة الدبيبة من عدم تسليم السلطة، وهو أحد مظاهر العصيان، لكن باطنه معركة توازنات بين قوى متنافسة على السلطة بغض النظر عن مشروعيتها السياسية.
في هذا السياق، يمكن استدعاء الدروس المستفادة من الخبرة الليبية، فالفوضى قائمة في ظل وجود الأجسام السياسية، لكنها أكثر خطورة في ظل غياب هذه الأجسام، مع عدم إهمال أن هناك فصائل ومليشيات مسلحة تمثل هي الأخرى رقمًا في المعادلة، ومن السهولة بمكان عودتها إلى الاحتكام للسلاح مجددًا، بما يهدر الفرصة الأهم التي تشكلت في المرحلة الانتقالية الأخيرة (الفاشلة)، وهي استمرار عملية وقف إطلاق النار، وبالتالي أصبحت هذه الفرصة مهددة في حال اللجوء إلى نقطة الصدام. كذلك، يمكن استدعاء الدروس المستفادة من النماذج الإقليمية، ربما أقربها إلى الأذهان مع اختلاف التركيبة هي الحالة العراقية، فعندما اندلعت ثورة “تشرين” أعادت الانتخابات إنتاج حالة أصعب مما كان قبلها، مع الوضع في الاعتبار أن هناك حكومة انتقالية واحدة، وليست هناك فرصة لإنتاج حكومات موازية كما هو الأمر في الحالة الليبية. لكن في الأخير، ماكينة السياسة تعيد إنتاج نفس النخبة.
في ليبيا أيضًا هناك إشكالية نخبة تم استهلاكها عبر دورات الانتقال السياسي، وهو ما يطرح السؤال ، هل ستعيد الماكينة السياسية في ليبيا إنتاج النخبة ذاتها؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فلماذا تتصارع النخبة السياسية في ليبيا طالما أنه سيعاد تدويرها في مشهد جديد؟ بل سيجدد هذا المشهد مشروعيتها إن حدث ذلك. في واقع الأمر، من المتصور أن ذهنية النخبة في ليبيا هي ذهنية أسيرة تجربتها الخاصة التي تشكلت عبر سنوات الفوضى، والتي لا تسعى إلى تغييرها، فقط تأتي لحظة التحول حينما تنضح الصفقات وتتشكل محاور التوازنات، أو بفعل عملية التدخل الخارجي التي رهنت سيادة الدولة لتوافقات القوى الخارجية وفق أجندة مصالحها، فأصبحت تتدخل في التفاصيل قبل العموميات، وهو ما يمثل تحديًا آخر أمام الحراك الشعبي الذي يطالب باستعادة سيادة الدولة وهو مطلب وطني، لكنه غير قابل للتنفيذ، لا سيما عبر المجلس الرئاسي ذاته، بناء على مواقفه من عملية التدخل التي تركت تارة في يد الحكومة التي عززتها، أو في يده حينما تعاطى مع قضية السيادة كمجرد خطاب سياسي لا يرقى إلى مستوى التنفيذ العملي، بينما كان بمقدوره إنهاء هذا الوضع بمراسيم رئاسية بحكم تقلده منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وإنهاء البروتوكولات التي وقعها أسلافه تماشيًا مع مسار جنيف نفسه الذي مهد الأرضية التي جاء عليها الرئاسي.
التحدي الآخر وليس الأخير، يرتبط بإرث عقد الفوضى، وغياب المصالحة المجتمعية، على وقع إقصاء النظام السابق، وهو ما شكل الهامش الذي يتحرك فيه أنصار النظام حاليًا باعتبارهم إحدى القوى التي ترى أنها صاحبة شرعية من بين الشرعيات المتنازع عليها، ورفعت السقف في ساحة التنافس على الرئاسة والبرلمان من جهة، ومن جهة أخرى في حال بقاء المشهد ممزقًا يمكن أن تكون طرفًا جهويًا جديدًا في معادلة الصراع الجهوي، وبمرور الوقت امتلكت أوراق ضغط ذات تأثير في مشهدين، الانتخابات إن أجريت، ومشهد الفوضى إن أصبحت الخيار البديل.
في الأخير، لا يمكن التقليل من أن الحراك يعكس نتيجة منطقية لفشل الساسة قبل فشل العملية السياسية في ليبيا، ونتيجة طبيعية لإهدار إدارة الموارد في بلد غني تفقره الصراعات، وتضعفة الانقسامات، وتخربه التدخلات الخارجية، لكن في الوقت ذاته فإن الحراك يواجه مأزقًا قد يحوله إلى معضلة من بين المعضلات الليبية، بدلًا من أن يكون حركة إصلاح وتصويب المسار، مما يفرض عليه الاستفادة من تجربة ليبيا نفسها، وتجارب الآخرين، حتى لا تبدأ البلاد من نقطة الصفر مرة أخرى.