يدور في مصر حاليًا جدل كبير حول الشركات الناشئة إثر القلق الذي خلفته شركة “كابيتار”، ومن قبلها شركة سويفيل للنقل التشاركي والتي قررت خفض بعض من عملياتها، وهو ما دفع بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي إلى تشبيههم بشركات توظيف الأموال غير القانونية أو تلقيبهم بـ”المستريح”، لكن تلك الصفات هي بعيدة كل البعد عن سوق الشركات الناشئة، والتي تعتبر السبب الأول للابتكار في العالم، فكيف يمكن فهم ما يحدث في سوق الشركات الناشئة؟ وما هي آلية عمل تلك الشركات من النشأة وحتى النمو؟
بداية الرحلة
تمرّ الشركة بمراحل من النمو، بداية من مرحلة الفكرة ثم مرحلة إجراء دراسات استطلاع رأي السوق، وصولًا إلى تأسيس الشكل القانوني للشركة، والحصول على استثمار أولي يتم به إنتاج المنتج التجريبي واختباره قبل إطلاق المنتج للعملاء لاستخدامه واستمرار تطوير نموذج أعمال الشركة بما يتوافق مع احتياجات العميل. تبدأ معظم الشركات الناشئة في مراكز تُسمى بحاضنات الأعمال أو مُسرعات الأعمال، وتقوم تلك المراكز بتوفير المعرفة الخاصة بكيفية إدارة الشركات، والأساسيات القانونية اللازمة لإنشاء تلك الشركات، والشكل القانوني الأفضل لمساعدة تلك الشركات على التوسع، وعادة ما تستغرق تلك المرحلة فترة من 3 إلى 6 أشهر، يحصل فيها أصحاب الشركات الناشئة على قدر كافٍ من المعلومات. وتوجد العديد من حاضنات الأعمال في مصر، بعض منها متخصص في قطاعات بعينها، والآخر يدعم معظم القطاعات.
بتخرج الشركة من حاضنة الأعمال/ مسرعة الأعمال يكون مؤسس الشركة قد حصل على المعرفة الإدارية والمالية والقانونية اللازمة لإدارة شركته، ويحصل على تمويل قد يتراوح بين 50 – 150 ألف دولار أمريكي دون تحديد حصة ملكية بالشركة (متعارف عليها بالسوق المصرية)، كمساهمة من حاضنة الأعمال في نمو الشركة، ثم تبدأ الشركة في العمل من خلال ذلك التمويل من خلال تقديم منتج بالسوق، وتحسين المنتج بهدف جذب عملاء جدد وزيادة مبيعات الشركة. في تلك المرحلة من عمر الشركة، لا تكون الشركة قادرة على تحقيق أرباح (في معظم الأحوال)، ويكون تركيز مؤسسي الشركة، وهم أنفسهم الملاك والمديرون، على زيادة قاعدة العملاء وتقديم منتجات جديدة تساهم في خلق قيمة مضافة للعميل. وخلال فترة تتراوح بين 6 أشهر أو عام حسب قدرة الشركة على النمو، تبدأ الشركة في البحث عن تمويل، وهنا يمكن تقسيم التمويل إلى عدد من الأنواع، أولها يُسمى تمويل البذرة (يتضمن ذلك التمويل الذي حصلت عليه الشركة في حاضنة الأعمال)، ثم يأتي في المرحلة التالية تمويل يُسمى Early stage أو التمويل المبكر، ذلك النوع من التمويل يشمل تمويلات تسمى Series A & B، وهي تسميات ترتبط بترتيب التمويل الذي تحصل عليه الشركة لغرض تصنيف مرحلة عمر الشركة بين البذرة أو المبكر أو الأخير، ثم يأتي النوع الثالث من التمويل الذي يكون مباشرة قبل الطرح العام ويسمى تمويل المرحلة المتأخرة Serious D، وقد تكون الشركة في ذلك التوقيت أصبحت قادرة على تحقيق أرباح أو تكون لا تزال في طور النمو وتحقق خسائر.
السمات الرئيسية
يوجد عددٌ من السمات الرئيسية التي ترتبط بالاستثمار في الشركات الناشئة عالميًا، أولها هي حقيقة أن 90 % من الشركات الناشئة عالميًا تفشل، وهي حقيقة أصيلة ترتبط بذلك النوع من الاستثمار، ولذلك فإن المستثمرين الراغبين في الاستثمار في ذلك النوع من الشركات تكون معظمها صناديق استثمار شركات ناشئة (تسمى صناديق استثمار رأس المال المخاطر) أو المستثمرون الذي تتوافر لديهم إمكانيات عالية ويتم تسميتهم High net worth investors، يتم تسميتهم في سوق الاستثمار بالمستثمرين المؤهلين (Qualified investors) وسبب تلك التسمية تأتي من حقيقة أن المستثمرين يجب أن يكونوا على دراية كافية بالأدوات الاستثمارية بتلك الشركات الناشئة، ويدركون حقيقة المخاطر المرتفعة التي تتعرض لها أموالهم من الاستثمار في ذلك النوع من الشركات.
أما عن نماذج الأعمال الخاصة بمعظم الشركات، فهي تركز على جذب أكبر قاعدة من العملاء، وفي سبيل ذلك كل الطرق متاحة، حتى وإن تم بيع الخدمات والسلع بسعر أقل من سعر التكلفة ويتم تسمية ذلك (Cash Burning) أو حرق الأموال، وعادة ما تكون مصروفات الشركة التسويقية والإدارية وتكاليف تشغيلها أكبر بكثير من الإيرادات المتولدة عن الشركة، وتعتمد الشركة في استمرارها في ذلك الوقت على الجولات التمويلية التي يتم تجميعها من المستثمرين الذين يثقون في إدارة الشركة ويتوقعون أن تستطيع تلك الشركة أن تصل إلى نقطة التعادل عن قريب (نقطة التعادل هي النقطة التي تتساوى فيها تكاليف وإيرادات الشركة للوصول إلى صفر ربحية، وفي معظم الأحوال تكون نقطة التعادل المتعهد بها خلال 3 – 5 سنوات)، وفي سبيل تلك التعهدات تستمر تلك الشركات في جمع أموال، وتزيد من قيمها السوقية بشكل كبير للحد الذي قد تصل فيه الشركة إلى 500 مليون دولار أو مليار دولار دون تحقيق أي أرباح.
صفقات ساخنة
كان لعام الكورونا أثر كبير على زيادة الابتكار في مجال التكنولوجيا، وهو ما أدى إلى ازدهار سوق الشراكات الناشئة بشكل واسع، وحيث إن مصر هي جزء من السوق العالمية فقد شهدت مصر نشاطًا كبيرًا في سوق الشركات الناشئة، فقد بلغ إجمالي رأس المال المخاطر الذي تم ضخه في الشركات الناشئة في عام 2021 مبلغ 491 مليون دولار تم ضخه من خلال عدد 147 عملية استثمارية (جولة تمويلية) والذي يمثل ارتفاعًا بنسبة 20 % مقابل العام السابق له، ووفقًا لتلك البيانات فقد حققت مصر نموًا سنويًا مركبًا للعام الرابع على التوالي بنسبة 117 % خلال الفترة من 2017 – 2021.

وضع ذلك مصر في الترتيب الثاني بين دول الشرق الأوسط من حيث أكثر الدول جذبًا للاستثمارات في صناعة الشركات الناشئة، حيث جذبت مصر 147 صفقة، لكن المثير في الأمر هو أن معدل النمو السنوي المحقق في مصر بلغ 26 % وهو أعلى من معدل النمو السنوي في الإمارات التي جاءت في المرتبة الأولى.

وحيث إن هناك فرضية يتم طرحها دائمًا تشير إلى أنه كلما زاد رأس المال الذي تخصصه لصناعة معينة بعينها، زادت احتمالات حدوث فقاعة ومن ثم الانهيار، وعليه يزعم البعض أن ما حدث في العامين الماضيين كان بمثابة فقاعة في صناعة الشركات الناشئة عالميًا، وهو ما تسبب في انفجارها. لكن لا يمكن أن تكون الصورة كذلك في دولة مثل مصر كانت صناعة الشركات الناشئة بها ما زالت تحبو وفي بداية مرحلة نموها مقابل تلك الصناعة المزدهرة عالميًا منذ أكثر من عقدين، خاصة وأنه في حال مقارنة أسعار الشركات الناشئة العاملة في مصر بمثيلاتها من الأسعار عالميًا، فتعتبر الشركات المصرية منخفضة التقييمات، ومن ثم فماذا حدث؟!
ذلك الأمر يأخذنا إلى الافتراض الثاني، النبوءة التي تحقق ذاتها Self- Fulfilling prophecy، وتقوم تلك النظرية على أساس أن الأوضاع الحالية من الأزمة الاقتصادية العالمية التي كانت خلفًا للأزمة الروسية الأوكرانية، وارتفاع مستويات التضخم عالميًا والتي تبعها إقدام البنوك المركزية عالميًا على رفع أسعار الفائدة، فرضت اعتقادًا مفاده أن ممارسة الأعمال في الوقت الحالي أصبح أصعب من ذي قبل، نظرًا لصعوبة الحصول على التمويل، وعلى الرغم من قصر المدة بين الحرب الروسية الأوكرانية وبين إقدام الفيدرالي الأمريكي على رفع أسعار الفائدة وبين الوقت الحالي (سبتمبر 2022)، فإنه لا يمكن افتراض أن الأموال المخصصة لتلك الصناعة نضبت أو انتهت، وعليه فإن الأموال المخصصة للضخ في تلك الصناعة في مصر ما زالت متوفرة، لكن تخوف المستثمرين من حالة الاستثمار بشكل عام عالميًا، أو ارتفاع احتمالية فشل تلك الشركات الناشئة منعهم من الاستثمار بها، وهو ما ترتب عليه صعوبة حصول تلك الشركات على أموال في جولاتها التمويلية، وحيث إن تلك الشركات لا تفضل الدخول في جولات تمويلية على تقييمات أقل من القيم التي سبق جمع تمويلات عليها Down round Valuation للعديد من الأسباب، منها عدم موافقة المستثمرين الحاليين في الشركة أن تنخفض قيم مساهمتهم بالشركات Equity Dilution، فقد لجأ بعض من تلك الشركات إلى تأجيل جولاتهم التمويلية، أو اللجوء إلى التمويل البديل من خلال القروض المصرفية أو ما يسمى بالتمويل المخاطر Venture Debt، نظرًا لأن التمويل بالدين يشترط بالأساس قدرة تلك الشركات على توفير تدفقات نقدية من العمليات الإنتاجية، فإن تلك الشركات في ظل البيئة الحالية وإنفاقها الواسع على النمو بشكل كبير “حرق النقود” Cash Burning، فإنه لا يوجد نقدية بالشركة متولدة عن عملياتها، وقد تمت الاستدانة بناء على فرضية أن سوق رأس المال المخاطر سيعود من جديد، وسيتم استخدام رأس المال الذي سيتم ضخه في الجولات التمويلية المستقبلية في سداد تلك الديون.
لكن بعض الشركات لم تستطع الانتظار والتحمل حتى الجولة التمويلية المستقبلية، وبسبب مطالبات الجهات المقرضة لسداد الديون، التي قد يكون جزءًا منها تم الحصول عليه بشكل شخصي أو على مستوى الشركة، تفشل الشركة في سداد تلك التمويلات ومن ثم تبدأ في الإغلاق وتسريح العاملين لخفض التكاليف وينتهي الحال بفشل الشركة.
ذلك هو السيناريو الذي يحدث بمعظم الأسواق عالميًا، والأكثر ترجيحًا أنه حدث في السوق المصري، فالأمر لن يخرج عن كونه سوء تقديرات في خطة عمل الشركة، وسوء إدارة، وحسابات خاطئة تتعلق بعمليات تمويل الشركة، والتي انتهت بفشل الشركة. وعليه فإن سبب فشل الشركة لا يتعلق بأي عملية احتيال أو سرقة أموال المستثمرين، ومن الجدير بالذكر أن معظم الشركات الناشئة في مصر تعمل وفقًا للقوانين المصرية، حيث يتم التسجيل في الهيئة العامة للاستثمار، وتأسيس الشركة، وعمل نظام أساسي للشركة، وتكوين المجالس المختلفة التي تستوفي معايير الحكومة، مثل مجلس الإدارة، أو اللجنة الاستشارية، لجنة المراجعة ولجنة الحوافز وغيرها، كما أن أصحاب الشركات من رواد الأعمال هم من بين فئات الشباب الحاصلين على تعليم مرتفع، ولديهم خبرات في السوق، سواء في أسواق ناشئة أخرى أو في شركات كبيرة تعمل في نفس المجال.
الخلاصة، تختلف الشركات الناشئة عن شركات توظيف الأموال غير الشرعية “المستريح” اختلافًا كليًا. الشركات الناشئة هي كيان قانوني شرعي، حصل على تراخيص مزاولة أعماله بشكل قانوني، وجذب استثمارات من خلال القنوات الشرعية (استثمارات محلية أو أجنبية)، ويتم تطبيق قواعد الحوكمة المتعارف عليها، والتي تختص بتحديد الصلاحيات وفصل السلطات في الشركة، لكن ظروف السوق عالميًا ومحليًا، وتخوف المستثمرين من ضخ مزيد من الأموال في شركات ناشئة محفوفة بالمخاطر في ظل الوضع الحالي، الذي يطرح فوائد مرتفعة على أدوات الاستثمار الثابت “السندات الحكومية” يدفع بالأموال إلى اختيار البديل الأكثر أمانًا، وهو ما يترتب عليه انهيار بعض الشركات الناشئة، وفشلها بسبب عدم توافر المرونة والقدرة على الاستمرار في السوق خلال تلك الأزمة.
نائب رئيس وحدة الاقتصاد ودراسات الطاقة