تشير نتائج الانتخابات التي جرت في عدة بلدان أوروبية مؤخرًا إلى أن القارة العجوز تمر بمرحلة تغير أيديولوجي عميق. لقد هيمنت أحزاب يسار ويمين الوسط على المشهد السياسي في بلاد أوروبا لعقود طويلة، أما اليوم فإن هذه الأحزاب تواجه تحديات كبرى تُضعف من شعبيتها، وتقلل من قدرتها على مواصلة ممارسة الحكم في أوروبا.
المشكلة هي أن تراجع أحزاب الوسط الأوروبي التقليدية لا يقابله صعود أحزاب وسطية أخرى، فالأصوات التي تهجر أحزاب الوسط تذهب إلى أحزاب يسارية ويمينية، تتعزز مواقعها ومعها يتعمق الانقسام الأيديولوجي في أوروبا.
فقد قدمت الانتخابات التي جرت في عدة ولايات ألمانية خلال شهر أكتوبر ٢٠٠٨ نماذج لتراجع تيارات الوسط لصالح كل من اليمين واليسار. حدث هذا في ولاية بافاريا، أكبر ولايات ألمانيا من حيث المساحة وأكثرها ثروة، ثم تكرر ثانية في ولاية هيسن، وفيها مدينة فرانكفورت العاصمة الاقتصادية لألمانيا.
في بافاريا خسر حزب يمين الوسط المسيحي الاجتماعي 10.5% من إجمالي الأصوات التي فاز بها في الانتخابات السابقة، وخسر حزب يسار الوسط الاشتراكي الديمقراطي 10.9% من أصواته. المستفيد الأكبر من هذه الخسارة هو حزب الخضر اليساري الذي زادت أصواته بنسبة 9%، وحزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف الذي فاز بنسبة 10.2% من الأصوات، وهو الحزب الذي لم يكن ممثلًا ولا بمقعد واحد في الانتخابات السابقة.
مشهد مماثل تكرر في انتخابات ولاية هيسن، حيث خسر حزب يمين الوسط المسيحي الديمقراطي 11.3% من الأصوات التي فاز بها في الانتخابات السابقة، فيما خسر حزب يسار الوسط الاشتراكي الديمقراطي 10.9% من أصواته. ومثلما حدث في ولاية بافاريا، فقد ذهبت الأصوات التي خسرتها أحزاب الوسط إلى أحزاب يسارية ويمينية، فزادت أصوات حزب الخضر اليساري بنسبة 8.7%، فيما حصل حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني على 9% من الأصوات، بعد أن كان قد فشل في الفوز بأية مقاعد في الانتخابات السابقة.
اليمين هو الفائز الأكبر في هذه الانتخابات، فمع أن حزب الخضر اليساري قد عزز مركزه، وأوشك أن يزيح الحزب الاشتراكي الديمقراطي كممثل لليسار؛ إلا أن حزب البديل من أجل ألمانيا حديث التكوين يحقق قفزات سريعة جدًّا بالنسبة إلى حزب لم يتأسس إلا قبل بضعة أعوام. وبنجاح حزب البديل في الدخول إلى برلمان ولاية هيسن فإنه يكون بذلك قد أصبح ممثلًا في برلمانات كل الولايات الألمانية بلا استثناء بعد أن كان قد فاز بالمرتبة الثالثة بين الأحزاب الألمانية في الانتخابات العامة التي جرت في سبتمبر 2017، الأمر الذي يبرر اعتبار حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني الفائز الأكبر في التحولات الأيديولوجية الحادثة في هذا البلد.
ما يحدث في ألمانيا ليس استثناء مما يحدث في القارة الأوروبية، فتراجع أحزاب الوسط التقليدية، وصعود أحزاب اليمين القومي المتشدد وأحزاب يسارية راديكالية؛ هو الظاهرة المتكررة في أغلب بلدان أوروبا مع بعض التنويعات بناء على ظروف كل بلد. ففي البلاد الأقل ثراء التي تعاني من ضغوط اقتصادية -مثل اليونان وإسبانيا- تزيد فرص الأحزاب اليسارية. أما في البلاد الأكثر ثراء، وكذلك في بلاد الكتلة الشيوعية السابقة، فإن فرص اليمين القومي تبدو أكبر بكثير؛ وهذا هو ما تبينه نتائج الانتخابات في ألمانيا وإيطاليا والدول الإسكندنافية والمجر والتشيك وبولندا.
هذه النتائج تعكس تحولًا في توزيع القوة بين الأيديولوجيات والأحزاب الأوروبية، وهي أيضًا تعكس انقسامًا يتزايد واستقطابًا يتعمق بين التيارات الأيديولوجية في القارة، وهذا في حد ذاته يُثير القلق.
لقد وُلدت الأيديولوجيات السياسية الحديثة المعروفة في عالم اليوم في أوروبا، فالقومية والاشتراكية والشيوعية والفاشية كلها اختراعات أوروبية. وفي مرحلة صعودها، كانت الأيديولوجيات الأوروبية سببًا في عدم الاستقرار الداخلي والصراعات، خاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لقد قامت الحرب العالمية الأولى عندما قام أحد القوميين الصرب باغتيال ولي عهد الإمبراطورية النمساوية. أما في الفترة بين الحربين العالميتين فإن الانقسام والصراعات الأيديولوجية بين اليمين القومي واليسار الشيوعي كانت سببًا في صعود الديكتاتوريات الفاشية في ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا ودول أوروبية أخرى، وهو التحول الذي أدى في النهاية إلى نشوب الحرب العالمية الثانية عندما حاول القوميون المتطرفون النازيون الألمان السيطرة على أوروبا والعالم.
أوروبا المعاصرة هي محصلة للنجاح الرائع لأحزاب الوسط الأوروبية بأشكالها المختلفة. فبعد الدمار الذي لحق بأغلب دول القارة في الحرب العالمية الثانية، نجحت أحزاب يمين ويسار الوسط في إعادة بناء الاقتصاد والمجتمع والدولة في كل بلد على حدة، كما نجحت في بناء أنجح مؤسسات التكامل الإقليمي في التاريخ، وأقصد بذلك الاتحاد الأوروبي. لقد كانت نجاحات الدول الأوروبية منفردة، ونجاحها مجتمعة في تأسيس الاتحاد الأوروبي؛ الأساس الذي قام عليه السلام الذي تمتعت به القارة الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالتالي فإن الشعور بالقلق الذي ينتاب الكثيرين داخل وخارج أوروبا بسبب التغيرات الأيديولوجية الحادثة هناك هو شعور مبرر. فمجرد التفكير في أن هذا الإنجاز الأوروبي الرائع قد يكون معرضًا للخطر، أو أن أوروبا القادمة لن تشبه أوروبا التي عرفناها؛ هو بالتأكيد أمر مزعج، فما بالك والتغيرات في أوروبا تحدث كل يوم أمام أعيننا.
سوف تكون أوروبا في الفترة القادمة مطالبة بإيجاد توازن اجتماعي وسياسي وأيديولوجي جديد يحفظ لها السلام والاستقرار والرفاهية الاقتصادية، لكن الوصول إلى هذا التوازن والتوافق الجديد لن يكون بالأمر اليسير، وستسبقه مرحلة من عدم الاستقرار السياسي الذي قد يتسم أحيانًا بالعنف، حتى لو كان عنفًا منخفض الحدة، لكن المؤكد أن أوروبا، وهي مصنع الأفكار والأيديولوجيات الأكبر في تاريخ البشرية، لن تعجز عن إنتاج أفكار وعقائد سياسية جديدة قادرة على تجاوز مشكلات الحاضر.