لم تهدأ التظاهرات الشعبية الفرنسية منذ انطلاقها في السابع عشر من نوفمبر 2018 على يد حركة “السترات الصفراء”، احتجاجًا على رفع أسعار الوقود والضرائب، والسياسات الاقتصادية التقشفية للرئيس “إيمانويل ماكرون”. إذ أخذت تلك التظاهرات خلال الأسابيع الماضية اتجاهًا عنيفًا عندما استهدف المحتجون المرافق العامة والخاصة ونهب المحال التجارية، بل ورموز الدولة الفرنسية كقوس النصر، والاشتباك مع قوات الأمن، في مشهد هو الأسوأ منذ تظاهرات عام 1968.
ويُثير ذلك تساؤلات مهمة حول ماهية السمات العامة للاحتجاجات الفرنسية الأخيرة، ودوافعها، والأهم حول أنماط الاستجابة، سواء من قبل الحكومة أو المتظاهرين، وتأثيراتها المحتملة، في ظل مخاوف العدوى الاحتجاجية وتصاعد التيارات الشعبوية، واليمين المتطرف في القارة الأوروبية.
سمات أساسية
حملت الاحتجاجات الفرنسية سمات أساسية، سواء من حيث طبيعة أعداد المتظاهرين، أو طرق التظاهر، ومدى حدتها، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1– أعداد المتظاهرين والمدن المحتجة، إذ شارك مئات الآلاف في تظاهرات فرنسا، وأخذت تلك الأعداد تتراجع نسبيًّا على مدار الأسابيع الماضية، وفقًا لعدة تقارير صحفية، فبينما قدرت الأعداد المشاركة بحوالي 283 ألف متظاهر في الأسبوع الأول، تراجعت في الأسبوع الثاني إلى حوالي 106 آلاف، لتنخفض أكثر في بداية الأسبوع الثالث، حيث بلغت 75 ألف متظاهر، فيما قُدر إجمالي عدد المتظاهرين بنحو نصف مليون شخص منذ انطلاق الاحتجاجات وحتى لحظة كتابة التقرير. وغطت التظاهرات جغرافيًّا مدنًا فرنسية، مثل: باريس، وبوردو، وتولوز، وليون، وتارب، وأوش، ونيس، ونانت، وستراسبورغ، فضلًا عن مناطق أخرى في جنوب غرب فرنسا.
2- قيادة شعبية للاحتجاجات، إذ اعتُبرت حركة “السترات الصفراء” المستقلة المحرك الرئيسي للاحتجاجات الفرنسية، وهي حركة تم تدشينها في نهاية أكتوبر 2018 على مواقع التواصل الاجتماعي، ودعت للتصدي إلى قرار ارتفاع أسعار الوقود والسياسات الاقتصادية التقشفية لماكرون.
3- دعم حزبي ونقابي للاحتجاجات، إذ حظيت حركة “السترات الصفرات” بدعم من النقابات وأحزاب اليمين واليسار، مثل: حزب الجمهوريين، والتجمع الوطني، وفرنسا الأبية. وفي الوقت ذاته، أيدت بعض الأحزاب والحركات مطالب المُحتجين، إلا أنها رفضت الانضمام الى التظاهرات، مثل حركة “الجيل سين”.
4- التحول من السلمية إلى العنف، حيث بدأت احتجاجات حركة “السترات الصفراء” سلمية، ثم حملت طابعًا عنيفًا، خاصة وأن السلطات الفرنسية اتهمت قطاع طرق بالانضمام للاحتجاجات. وتمثلت ملامح العنف في الاشتباكات مع قوات الأمن، ونهب المتاجر، وتكسير المرافق الخاصة والعامة وغيرها، بل وصلت إلى محاولة اقتحام مطار نانت الفرنسي، ومحاصرة الشاحنات للشوارع.
5- تصاعد مطالبات المحتجين، إذ بدأت الاحتجاجات مستهدفة الضغط على الحكومة الفرنسية للتراجع عن قراراتها بزيادة الأسعار، ثم تطورت لاحقًا إلى حدّ المطالبة باستقالة الرئيس “إيمانويل ماكرون” وحل البرلمان.
محفزات عامة
أبرزت الاحتجاجات الفرنسية العنيفة جملة من المحفزات الأساسية التي نقلتها من المطالبات السلمية إلى الممارسات العنيفة، ومن أبرزها ما يلي:
1- رفض السياسات الاقتصادية الاصلاحية، حيث مثلت الإجراءات الاقتصادية التقشفية للحكومة الفرنسية محفزًا لاندلاع التظاهرات، خاصة المتعلقة بارتفاع أسعار الوقود، وإلغاء الضرائب على الثروة. إذ اعتبرت الحكومة أن إعفاء بعض أموال الأغنياء قد يُشجع على إعادة استثمار تلك الأموال في الاقتصاد، كما أن رفع أسعار الوقود يقلل الانبعاث الحراري عبر تشجيع المواطنين على امتلاك السيارات الكهربائية، لكن بالمقابل فإن شرائح من الطبقة الوسطى والفقيرة تعتبر هذه الإجراءات الاقتصادية ضغطًا على الأحوال المعيشية، خاصة مع ارتفاع الضرائب.
2- تراجع دور النخب السياسية التقليدية، إذ شكل تراجع ثقة المواطن الفرنسي في النخب التقليدية، خاصة الأحزاب السياسية التقليدية، أحد محفزات صعود حركات شعبية على غرار “السترات الصفراء”، إضافةً إلى استغلال أحزاب اليمين المتطرف لهذه لاحتجاجات بدعمها مطالب المتظاهرين في مواجهة سياسات “ماكرون”.
3- تزايد فجوة الثقة بين الشارع و”ماكرون”، حيث تشير استطلاعات الرأي الأخيرة في فرنسا إلى تراجع شعبيته، كما الحال مع استطلاع لمؤسسة إيفوب في شهر نوفمبر الماضي (2018)، والذي أظهر أن 25% فقط من المستطلع آراؤهم عبروا عن رضاهم عن سياسات “ماكرون” بعدما كانت النسبة 29% في شهر أكتوبر الماضي، الأمر الذي قد يفتح الطريق إلى صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في أي انتخابات قادمة.
أنماط الاستجابة
في مواجهة تصاعد حدة الاحتجاجات الشعبية، واتخاذها طابعًا عنيفًا، برزت عدة أنماط للاستجابة الحكومية، يمكن توضيحها على النحو التالي:
1- التفاوض مع المحتجين دون التراجع عن السياسات، إذ طالب الرئيس “ماكرون” رئيس وزرائه يوم الأحد 2 ديسمبر 2018، بالتفاوض مع المحتجين وزعماء الأحزاب السياسية، لكن في المقابل لم يقدم تنازلات أو يتراجع عن القرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة، حيث طالبت الأخيرة المحتجين باحترام القوانين. وكانت مفاوضات سابقة قد جرت مع ممثلين عن حركة “السترات الصفراء” دون التوصل إلى نتائج بسبب الخلاف على تمثيل الحركة ذاتها.
2- تخفيف وطأة القرارات الاقتصادية الأخيرة، حيث أعلن رئيس الوزراء “إدوارد فيليب” عن تدابير إضافية للتخفيف من أسعار ارتفاع المحروقات، بما في ذلك زيادة المساعدات المخصصة للأكثر فقرًا حتى يتمكنوا من تغيير سياراتهم إلى كهربائية أو دفع فواتير المحروقات.
3- تحميل الخصوم مسئولية الاحتجاجات، حيث اتهم وزير الداخلية الفرنسي “كريستوف كاستانير” قوى اليمين المتطرف بالدعوة للتظاهرات، وهو ما رفضته “مارين لوبان” التي رأت أن التظاهرات تعبير عن غضب شعبي تجاه السياسات الاقتصادية.
4- الاحتواء الأمني للمحتجين، ففي بداية التظاهرات حاولت الأجهزة الأمنية عدم التصعيد ضد المتظاهرين الذين دعوا إلى إغلاق المرتكزات والمحاور الاستراتيجية في البلاد، لكن ذلك دفع الشرطة الفرنسية لاحقًا إلى تحديد أماكن التظاهر (منطقة “شان دو مارس”) والحيلولة دون وصول المحتجين إلى مواقع حساسية، كالقصر الرئاسي، والجمعية الوطنية، ومقر رئاسة الحكومة، عبر إغلاق الطرق المؤدية لتلك المواقع.
5- ردع السلطة للعنف، حيث سعت قوات الأمن الفرنسية إلى ردع العنف بعد تفاقمه في الشوارع عبر تطويق حركة المتظاهرين والحيلولة دون تمددها، حيث اعتقلت الشرطة 400 متظاهر، بينما أصيب 300 شخص، كما استخدمت الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين، علاوة على الدفع بما يقرب من ثلاثة إلى خمسة آلاف شرطي لتأمين المؤسسات الحيوية والتعامل مع المُحتجين. في الوقت نفسه، بدأت التقارير تشير إلى احتمالية فرض حالة الطوارئ، بما قد يعيد البلاد إلى حالة الإجراءات الاستئناثية في عام 2015 عندما تم فرضها لمواجهة الهجمات الإرهابية المتصاعدة آنذاك.
تأثيرات محتملة
لم تنجح استجابات الحكومة الفرنسية -حتى اللحظة الراهنة- في إقناع المتظاهرين بالعدول عن مطالبهم، لا سيما مع تصاعدها لتشمل حل البرلمان واستقالة “ماكرون”، وهو أمر يراه بعض المراقبين غير مرجح، لاعتبارين: الأول أنه لا يزال أمام “ماكرون” ثلاث سنوات ونصف في فترته الرئاسية. وثانيها أن الأغلبية البرلمانية لا تزال داعمة للرئيس الفرنسي.
لكن يظل أن ثمة تأثيرات محتملة للمشهد الاحتجاجي في فرنسا، منها:
1- احتمال عودة الذئاب الإرهابية المنفردة، وذلك لاستغلال مناخ الفوضى، لا سيما في ظل مؤشرين، الأول: ما ذكره تقرير لمؤسسة صوفان الذي أشار إلى أن أعداد المقاتلين الذين يحملون الجنسية الفرنسية في تنظيم “داعش” بلغ 1910، وأن 302 شخص منهم عادوا إلى فرنسا بعد إنزواء ذلك التنظيم. والثاني: ما رصدته تقارير صحفية حول ملصقات داعشية في الاحتجاجات الأخيرة تحرض المتظاهرين على تدمير باريس.
2- احتمال اتساع دائرة العنف وتأثيره على الاقتصاد الفرنسي، وذلك حال تجاهل مطالب المحتجين أو عدم مراعاة تأثيرات القرارات الاقتصادية على الأوضاع المجتمعية، خاصة وأن المواجهات بين الشرطة والمحتجين خلال أسابيع من التظاهرات أسفرت عن مقتل شخصين وإصابة 780 آخرين بينهم 141 فرد أمن، كما أثرت الخسائر الاقتصادية للاحتجاجات على حوالي 70% من الاقتصاد الفرنسي، وفقًا لوزير الاقتصاد.
3- احتمال اتساع الاحتجاجات جغرافيًّا في أوروبا، وذلك في إطار العدوى الاحتجاجية، خاصة وأن بلغاريا وبلجيكا وهولندا شهدت احتجاجات على أسعار الوقود وزيادة تكاليف المعيشة، وإن كانت لا تقارن بالعنف والحدة التي شهدتها فرنسا. بينما بدت دول أخرى، كبريطانيا وألمانيا، على أهبة الاستعداد لأي احتجاجات عنيفة، لا سيما وأن الأولى تواجه أزمة البريكست، بينما تخشى الثانية من أن تطال تلك الاحتجاجات اللاجئين لديها.
في الأخير، يبدو أن تخفيف الآثار الاجتماعية لسياسات الإصلاح الاقتصادي، لا سيما المتعلقة بالمناخ، اتجاه مرجح للحكومات الأوروبية في المرحلة القادمة، بسبب المشهد الاحتجاجي العنيف في فرنسا، ولمنع تمدده إلى باقي دول القارة.
تقديرات أساسية حول الاحتجاجات وخسائر فرنسا
- تراوحت خسائر مبيعات الشركات الفرنسية ما بين 60-70%.
- توقف العمل في 19 محطة بمترو الأنفاق في العاصمة باريس.
- بلغت خسائر محلات اللحوم والأفران بين 60-70%.
- إغلاق برج إيفل الشهير ومحاولة اقتحام مطار نانت الفرنسي.
- نهب محال تجارية ومصارف عامة في المدن الفرنسية.
- مقتل اثنين وإصابة 780 شخصًا، بينهم 141 شرطيًّا.
- خسارة فنادق باريس 10 ملايين يورو بسبب إلغاء الحجوزات.