جاء خطاب الاتحاد الثالث للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في الخامس من فبراير الجاري أمام جلسة مشتركة للكونجرس (مجلسي النواب والشيوخ) ليكشف بوضوح عن حالة الانقسام الحزبي المحتدم الذي تشهده الولايات المتحدة منذ توليه الحكم في العشرين من يناير ٢٠١٧. وقد استغل “ترامب” الخطاب الذي يأتي قبل تسعة أشهر من الانتخابات الرئاسية التي ستجري في الثالث من نوفمبر القادم، للترويج لإنجازات إدارته على الصعيد الداخلي خلال السنوات الثلاث الماضية، الأمر الذي جعله أقرب إلى خطاب انتخابي، ويبتعد عن الهدف الرئيسي الذي من أجله يُلقي الرئيسُ خطابَ حالة الاتحاد.
يُلقي الرؤساء الأمريكيون خطاب حالة الاتحاد، الذي يعد أشهر خطاباتهم وأكثرها مشاهدة بعد خطاب التنصيب، استنادًا إلى الفقرة الأولى من القسم الثالث من المادة الثانية من الدستور الأمريكي التي تنص على “أن يقوم الرئيس من حين لآخر بتقديم معلومات عن حالة الاتحاد إلى الكونجرس، وأن يوصي بالنظر في تلك التدابير التي يحكم بضرورتها وسرعة تنفيذها”.
توقيت مفصلي
ألقى الرئيس “ترامب” خطاب حالة الاتحاد هذا العام عشية تبرئةٍ متوقعةٍ له بمجلس الشيوخ ذي الأغلبية الجمهورية، من تهمتين وجههما مجلس النواب -ذو الأغلبية الديمقراطية- بإساءة استخدام السلطة لطلبه من أوكرانيا فتح تحقيق مع منافسه المتوقع نائب الرئيس الأمريكي السابق “جون بايدن” الساعي لنيل ترشيح الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة، وعرقلة عمل الكونجرس من خلال منع شهود وحجب وثائق سعى مجلس النواب للحصول عليها.
وقد جاءت تبرئة “ترامب” بعد رفض الأعضاء الجمهوريين بمجلس الشيوخ -باستثناء عضوين فقط هما “ميت رومني” و”سوزان كولينز”- طلب الديمقراطيين استدعاء شهود جدد وفي مقدمتهم مستشار الأمن القومي السابق “جون بولتون” الذي كانت شهادته ستغير مجرى أحداث محاكمة الرئيس بالمجلس، أو طلب أدلة جديدة في المحاكمة.
وبالفعل، صوّت مجلس الشيوخ في اليوم التالي لخطاب حالة الاتحاد على تبرئة “ترامب” من تهمة إساءة استخدام السلطة بتأييد 52 سيناتورًا جمهوريًّا مقابل رفض 48 سيناتورًا ديمقراطيًّا، وسيناتور جمهوري (ميت رومني)، ومن تهمة عرقلة عمل الكونجرس بتأييد جميع الأعضاء الجمهوريين بالمجلس (53 سيناتورًا) مقابل اعتراض كل الأعضاء الديمقراطيين بالمجلس (47 سيناتورًا).
وجاء الخطاب في وقت ترتفع فيه نسبة التأييد للرئيس الأمريكي، حيث أظهرت نتائج استطلاع للرأي أعده معهد “جالوب”، ونُشرت نتائجه قبل ساعات من إلقاء “ترامب” خطاب حالة الاتحاد، أن نسبة تأييد “ترامب” تصل إلى 49%، وهو أعلى مستوى تصل إليه شعبية “ترامب” منذ أدائه اليمين الدستورية في العشرين من يناير 2017.
وجاء الخطاب أيضًا في وقت يحتدم فيه الانقسام الحزبي غير المعهود بالصورة التي تشهدها الولايات المتحدة في المرحلة الراهنة، حيث أظهرت نتائج استطلاع “جالوب” -السابق الإشارة إليه- أن هناك فجوة كبيرة بين تأييد الجمهوريين والديمقراطيين للرئيس “ترامب” تصل إلى ٨٧٪، حيث ارتفعت نسبة التأييد للرئيس بين الجمهوريين لتصل إلى ٩٤٪، بينما انخفضت بين الديمقراطيين لتصل إلى ٧٪.
وقد تجلّت مظاهر هذا الانقسام الحزبي في أربع صور رئيسية خلال إلقاء “ترامب خطابه” لحالة الاتحاد. يتمثل أولها في عدم استخدام رئيسة مجلس النواب “نانسي بيلوسي” -التي قادت إجراءات عزل الرئيس بالمجلس- العبارات المعتادة مثل “من دواعي سروري” أو “من دواعي الفخر البالغ” التي يستخدمها رئيس المجلس عادة لدى تقديم رئيس البلاد لإلقاء كلمة أمام أعضاء الكونجرس. ولكنها قالت عند تقديم “ترامب” لإلقاء خطاب حالة الاتحاد “أعضاء الكونجرس.. إليكم رئيس الولايات المتحدة”. ويتعلق ثانيها بامتناع الرئيس عن مصافحة رئيسة مجلس النواب “بيلوسي”. أما ثالثها فتمثّل في تمزيق “بيلوسي” خطاب الرئيس لحالة الاتحاد بمجرد انتهائه من إلقائه، وقد بررت ذلك بكونه “مانيفستو الأكاذيب”. وينصرف آخر ملامح الانقسام السياسي داخل الولايات المتحدة راهنًا إلى أن معظم الأعضاء الديمقراطيين خلال إلقاء “ترامب” خطابه ظلوا جالسين في وجوم وازدراء أثناء موجات التصفيق المحيطة بهم من جانب الأعضاء الجمهوريين الذين رددوا هتاف “أربع سنوات أخرى”.
التمهيد لفترة رئاسية ثانية
كان خطاب الرئيس “ترامب” الثالث لحالة الاتحاد موجّهًا بصورة أساسية إلى كل من قاعدته السياسية، التي صوتت له في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في نوفمبر ٢٠١٦، والناخبين المتشككين في الضواحي في إطار سعيه لتأمين فوزه بفترة رئاسية ثانية بعدما تجاوز مهمة الحفاظ على فترة ولايته الأولى، بعد تبرئة مجلس الشيوخ له من التهمتين التي وجههما إليه مجلس النواب.
ولذلك، استخدم الرئيس “ترامب” خطاب حالة الاتحاد للتفاخر بالإنجازات التي حققها خلال السنوات الثلاث الأولى له في البيت الأبيض. وقد نسب الفضل لنفسه في أي شيء إيجابي حدث خلال تلك الفترة، بينما ألقى باللوم على الإدارة السابقة (إدارة الرئيس “باراك أوباما”) في أي شيء سلبي.
ولكون قضايا الداخل، ولا سيما الاقتصادية، هي التي على أساسها يصوت الناخب الأمريكي في الانتخابات الرئاسية، لم يتضمن خطاب حالة الاتحاد الذي استمر لمدة 78 دقيقة، مناقشة كثير من قضايا السياسة الخارجية الأمريكية إلا باختصار شديد؛ فلم يذكر “ترامب” أوكرانيا على الإطلاق، رغم أنها سيطرت على عناوين الأخبار الرئيسية خلال الأشهر القليلة الماضية. ولم يُشر أيضًا إلى كوريا الشمالية، ولم يتحدث كذلك عن روسيا أو تغير المناخ. لكنه تحدث بشكل موجز عن سياساته تجاه الصين وإيران والحرب في أفغانستان. وفي المقابل، كان معظم الخطاب -إلى حد كبير- عن أداء الاقتصاد الأمريكي، والبطالة، والرعاية الصحية، والتعليم، والبنى التحتية، وأسعار الدواء، من منطلق تركيزه على حملة إعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية.
وقد ركز “ترامب” في خطابه لحالة الاتحاد الذي حمل عنوان “العودة الأمريكية العظيمة” على الإنجازات التي حققتها إدارته خلال السنوات الثلاث الماضية، وأنه وفّى بوعوده التي كان قد قطعها قبل انتخابه، حيث شدد على أن سنوات التراجع الاقتصادي وأيام استغلال الولايات المتحدة واحتقارها من جانب دول أخرى قد انتهت وأصبحت من الماضي.
وتحدث “ترامب” عن ارتفاع مؤشرات قطاع التصنيع، فقد ذكر أنه بعد إغلاق نحو 60 ألف مصنع خلال الإدارة السابقة، تمت إضافة 12 ألف مصنع جديد في ظل إدارته. وأضاف أنه خلال السنوات الثماني لإدارة الرئيس “باراك أوباما” خرج أكثر من 300 ألف شخص في سن العمل من صفوف العمالة، وفي عهده انضم أكثر من 3.5 ملايين في سن العمل إلى قوى العمل. وأشار “ترامب” خلال الخطاب إلى تراجع نسبة البطالة بين فئات عديدة من مكونات الشعب الأمريكي، بما فيها النساء وذوو الأصول الإفريقية والآسيوية واللاتينية. فقد انخفضت البطالة في عهده إلى 3.5٪، وهي أدنى مستوى لها في نصف قرن، وأنه بفضل سياساته أصبحت الولايات المتحدة المنتج الأول للنفط والغاز في العالم. وإن كانت تلك الطفرة في حقيقة الأمر بدأت منذ نحو 10 سنوات. وأضاف أن سوق الأوراق المالية زاد بنسبة 70٪ منذ دخوله البيت الأبيض.
وللحفاظ على قاعدته الانتخابية بين اليمينيين، تعهد الرئيس الأمريكي خلال خطابه لحالة الاتحاد بالدفاع عن حق حمل السلاح، ومحاربة حقوق الإجهاض من خلال فرض حظر وطني على عمليات الإجهاض، وإدانات متكررة للمهاجرين غير الشرعيين. وتعهد بعدم السماح للاشتراكية بتدمير منظومة الرعاية الصحية الأمريكية. كما كانت هناك ثماني إشارات إلى الله، وأمر بـتذكر أن أمريكا كانت دائمًا أمة مسيحية.
وفي إطار عمله على توسيع قاعدته الانتخابية خلال العام الانتخابي، تحدث “ترامب” عما قام به للحد من الفقر والبطالة للأمريكيين من أصول مختلفة والنساء. وبدا كأي ديمقراطي عندما قال: “سنحمي دائمًا ضمانكم الاجتماعي، وسنحمي دائمًا رعايتكم الطبية”. وتحدث عن زيادة التمويل لرعاية مرض الزهايمر. وقد سبقت إدانته للإجهاض مناشدة الكونجرس بتخصيص 50 مليار دولار للأبحاث الخاصة بحديثي الولادة.
في الختام، يمكن القول إن الرئيس “دونالد ترامب” ألقى خطابه عن حالة الاتحاد هذا العام وهو في وضع أفضل وأقوى وأكثر اتزانًا مقارنة بالمرتين السابقتين، لا سيما بعد تبرئته من التهمتين اللتين وجههما له مجلس النواب، وفي وقت يواجه فيه الحزب الديمقراطي جملة من الأزمات المتعددة. وتاريخيًّا كان الهدف من خطاب حالة الاتحاد هو تذكير الأمريكيين بأهمية وحدتهم بصرف النظر عن اختلاف انتماءاتهم الحزبية، لكن خطاب “ترامب” هذا العام رغم ذكره أن “حالة اتحادنا أقوى من ذي قبل” يكشف عن حالة الاستقطاب السياسي التي يعيشها المجتمع الأمريكي منذ أدائه اليمين الدستورية في العشرين من يناير ٢٠٢٠، والتي ستتصاعد طالما يعمل الرئيس الأمريكي على خدمة مصالح وأهداف قاعدته الانتخابية، التي يعول عليها للفوز بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في الثالث من نوفمبر القادم، في وقت تعتري الحزب الديمقراطي فيه حالة من الضعف غير المعهودة.