معذرة إذا كنت أكرر عنوانًا سبق أن وضعته «إجراءات بناء الثقة»، الذي بزغ إلى حياتى مع تخصصى الأكاديمى في «إدارة الأزمات الدولية»، ومن خلال متابعتى للمفاوضات العربية الإسرائيلية وما يدور في منطقتنا وعالمنا من نزاعات تستلزم هذه النوعية من الإجراءات حتى يمكن التوصل إلى وفاق. في ذات المقال أشرت أيضًا إلى زاوية جاء بها عالِم السياسة «فرانسيس فوكاياما»، الذي ذاع اسمه عندما كتب عن «نهاية التاريخ»، ولكن الواقع هو أن أهم كتبه على الإطلاق كان بعنوان «الثقة أو Trust»، الذي كان هو الرابطة الأساسية في تقدم العالم المعاصر، فالمجتمعات تتكون لأن بين أفرادها رواية مشتركة تسمى الهوية، ولكنها لا تستمر دون مصالح تجمعها، ودون تحديات تواجهها، وربما تهديدات تخاف منها، فيكون ذلك بذرة ما نسميه «القومية».ولكن أعظم ما يجعل المجتمع مجتمعًا بحق وفقًا لـ«فوكوياما» هو «الثقة» الواقعة بين الأفراد والأسر والجماعات الفرعية. صحيح أن المجتمعات تحكمها عادات وتقاليد، وقوانين ودساتير، وسلطات لها أسنان من القوة والمحاكم والسجون؛ ولكن كل ذلك لا يقيم مجتمعًا اجتمع أفراده على الشك والتوجس وعدم الثقة في الآخر. تذكرت هذا المقال وعدت إليه عندما وجدت فجوة من انعدام الثقة بيننا وبين مشروعنا الوطنى والعالم الخارجى، وفجوة أخرى بين الدولة والقطاع الخاص، وفجوة ثالثة بين الحكومة والرأى العام، وخاصة مع نخبتها التي تتشارك خلال المرحلة الراهنة في «الحوار الوطنى». وفى هذه الأخيرة توجد «تساؤلات» معبرة عن شكوك في مدى الحكمة التي أخذت بها مصر خلال السنوات الماضية في مشروعاتها وخططها التنموية.
أصبح ذائعًا خلال الأسابيع الأخيرة تجاوز النجاح الذي حققته مصر في درجة عالية من التقدم ظهر في معدلات النمو الإيجابية التي استمرت حتى في سنوات «الجائحة».
.. وفى زيادة مساحة المعمور المصرى؛ وظهر في التقارير المالية الدولية التي أعطت لمصر تقديرات إيجابية. خرجت مصر من الاحتجاز حول نهر النيل في اتجاه بحارها وخلجانها، وتماسك ذلك كله بشبكة بنية تحتية قوية ربطت بين الوادى والصحراء، والوادى وشبه جزيرة سيناء. لكن مع نشوب الحرب الأوكرانية وتفاعل مضاعفاتها مع نتائج أزمة الكورونا وإنتاجها لأزمة اقتصادية عالمية، ظهرت معالم ضغوط كبيرة على الاقتصاد المصرى حتى بات يواجه صعوبات كبيرة في التعامل مع التضخم المتزايد، الذي بلغ حوالى ٣٠٪ خلال الفترة الأخيرة، وما ظهر من صعوبات للوفاء بالتزامات مصر إزاء قروضها وديونها الداخلية والخارجية.
والأخطر أن الصورة الإيجابية لمصر في التقارير الدولية للمؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولى، والتقارير الخاصة بالمؤسسات الاقتصادية الدولية الخاصة مثل «موديز» و«فيتش» و«استاندرد آند بورز»، تحولت إلى تقديرات سلبية عن الحالة المصرية واقتصادها. ولحسن الحظ ونتيجة الإنجازات التي تحققت خلال الأعوام الماضية، لم تؤدِّ الأزمة بعد النجاح إلى قلق واضطراب سياسى كما هو شائع في العلوم السياسية، ورغم استخدام جماعات معارضة ومعادية للأزمة، فإن الشعب المصرى في عمومه، ومع سخطه وغضبه، فإن قراره هو التمسك بالاستقرار السياسى وعدم السماح بالعودة إلى التجربة القاسية السابقة قبل عقد من الزمان.
فجوة الثقة هذه انعكست على ما يدور في الحوار الوطنى سواء كان ذلك داخل قاعات الحوار؛ أو خارجه في وسائل الإعلام الوطنية أو الخارجية أو حتى من خلال وسائل التواصل الاجتماعى. والشائع في الحديث ليس التعامل مع واقع الأزمة الراهنة بالبناء على ما تحقق، وإنما العودة إلى نقطة الصفر مرة أخرى وكفى، فلا يوجد مشروع وطنى بديل للبناء خارج الشعارات الكبرى عن الحرية والعدالة، ولا توجد مرجعية لوضع مصر في صفوف الدول المتقدمة تخرج عن مرجعيات «الربيع العربى» وما آلت أليه أحوال الدول التي سارت في صفوفه من مقاومة العمل الشاق والبناء والتعمير وبعث القدرة والطاقة في الإمكانيات والثروات الوطنية. وفى نفس الوقت الغياب الكامل لمواجهة العقبات التي وقفت في وجه المشروع الوطنى الحالى، ومنعت مرونته وقدراته على مواجهة الظروف العالمية والدولية الصعبة خلال السنوات السابقة.
وأولى هذه العقبات هي أن تكون مصر دولة طبيعية بمعنى أنها تسير وفق القوانين الأزلية للعرض والطلب التي تمنع وجود أسعار متعددة للعملة، وهى مقياس القيمة في المجتمع، ويصبح هناك سعر واحد للعملة سواء كان ذلك في السوق العامة أو البنوك أو الصيارفة. الأزمة الراهنة ليست جديدة بالمرة، فقد كان هناك مثلها عام ١٩٩١ في أولى المحاولات الجادة للإصلاح الاقتصادى، ومرة أخرى في عام ٢٠٠٥ مع المحاولة الثانية؛ وثالثة في عام ٢٠١٦، ورابعة الآن بين عامى ٢٠٢٢ و٢٠٢٣. في كل مرة بات تعبير «التعويم» أو «السعر المرن» تعبيرًا مصريًّا لا يوجد له مثيل في دول العالم الأخرى، خاصة البازغة منها؛ ورغم كل ذلك فإن المصداقية المصرية في احترام هذه القاعدة في التعامل مع المستثمرين والمؤسسات الدولية أصبحت موضع تساؤل مهما كانت السوابق.
هذه العقبة قادت إلى العقبة الثانية المهمة، وهى إعاقة عمليات التشغيل للتغيير الكبير في الهيكل المادى لمصر سواء كان ذلك في قطاعات إنتاجية للزراعة باستصلاح مساحات شاسعة، أو صناعية ببناء مجمعات صناعية، أو سياحية سواء كانت ثقافية في الوديان والمتاحف أو ترفيهية على البحار والبحيرات أو خدمية في محطات المرور المصرية أو لوجستياتها. هنا أُصيبت بالشلل القابلية للاستثمار المحلى والخارجى، ومعها إقامة التوازن في ميزان المدفوعات والميزان التجارى للدولة، والمصابان بالعجز المزمن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وبصراحة كاملة، ونأمل أن يكون ما سوف يلى أحد موضوعات الحوار الوطنى المهمة، وهو ما يشكله الجهاز الإدارى للدولة من عقبة ثالثة للسياحة والاستثمار وكفاءة استخدام أدوات الدولة ككل في التنمية. المدهش أن ذلك لم يحدث لغياب جهود للتعامل مع هذا الجهاز، فقد بات معروفًا أن الدولة لديها بالفعل قانون لإصلاح إدارتها، وجرى عرضه بالفعل على مجلس الشيوخ من قِبَل رئيس الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة، ولقى قبولًا واستحسانًا، ومع ذلك بقى الحال على حاله. بعث هذا القانون، وتطبيقه، ضرورة للإصلاح المصرى الشامل، الذي بدأت خطواته قبل ثمانى سنوات، وتوجب رؤيته أن تحقق مبتغاه خلال السنوات السبع المقبلة عندما يتم «تشغيل التغيير»، الذي حدث في مصر خلال الأعوام السابقة سواء كان ذلك المدن التي بُنيت، أو البحيرات التي أُعيد خلقها وتجهيزها، أو مشروع «حياة كريمة»، الذي يأتى بالريف المصرى إلى القرن الواحد والعشرين. في هذه المرحلة يمكن أولًا الانتهاء من إدخال ٣.٨ مليون فدان مصرى في الصحراء الغربية وسيناء إلى مرحلة التشغيل الكامل وكذلك التصدير. وثانيًا استكمال ١٧ منطقة صناعية إلى مرحلة التشغيل الكامل عن طريق القطاع الخاص المصرى والأجنبى. وثالثًا بدء التشغيل والتعمير الكامل لما تم الانتهاء منه في المدن الجديدة، وفى المقدمة منها العاصمة الإدارية الجديدة.
