تشهد الساحة الاقتصادية العديد من الاضطرابات التي تؤثر بدورها على استقرار الأسواق، والمستوى العام للأسعار. ويمثل الذهب أحد أهم السلع التي تتأثر بالأوضاع الاقتصادية خاصة في ظل كونه مؤشر موجّه leading indicator للأسواق الأخرى. وقد شهدت أسعار الذهب في السوق المحلية ارتفاعات متتالية دفعت بدورها نحو مزيد من الطلب على المعدن النفيث كملاذ آمن لحفظ القيمة الحقيقية للأموال، الأمر الذي ساهم في مزيد من الارتفاع لأسعار الذهب، وانعكس ذلك على مختلف الأسواق، والقنوات الادخارية المختلفة. فما هي محركات سوق الذهب وإلى أين يتجه خلال الفترة القادمة؟
محددات العرض والطلب العالمي على الذهب
يحتل الذهب أهمية خاصة بين السلع المختلفة نتيجة ندرته، وفي الأجل الطويل تتجه أسعاره إلى الارتفاع بشكل مستمر متضمنه العديد من الحركات التصحيحية، وتتعدد دوافع الطلب على الذهب من قبل الأفراد والبنوك المركزية وصناديق الاستثمار؛ فهناك طلب على المشغولات الذهبية، أو السبائك والعملات المعدنية، أو طلب استثماري، أو طلب بأهداف التصنيع كصناعات التكنولوجية وطب الأسنان وغيرهم .
شكل (1): الطلب العالمي على الذهب من الربع الأول عام 2022 حتى الربع الأول عام 2023
أما بالنسبة للعرض فإما أن يكون انتاج جديد من المناجم أو إعادة التدوير أو تحوط من قبل منتجي الذهب.
شكل (2): العرض العالمي من الذهب من الربع الأول عام 2022 حتى الربع الأول عام 2023
ويوضح الشكل التالي الاتجاه العام لأسعار الذهب عالميا منذ عام 2010 وحتى عام 2022، والذي يؤكد الاتجاه التصاعدي في الأجل الطويل.
شكل (3): أسعار الذهب عالميا منذ عام 2010 حتى عام 2022
وفي ظل الاندماج الاقتصادي يتم تقويم السلع الأولية – والتي من بينها الذهب- بالدولار الأمريكي، فعند ارتفاع قيمته تنخفض أسعار السلع، وخاصة الذهب الذي يتحرك مباشرة في عكس اتجاه تحرك الدولار فيعطي إشارة مسبقة لاتجاه حركة أسعار السلع الأخرى.
ويتأثر سعر الذهب أيضا بتحركات أسعار الفائدة؛ فعلى الرغم من كونه ملاذ آمن لحفظ القيمة الحقيقية للأموال، إلا إنه أصل لا يدر عائد، بل على العكس قد يتحمل الفرد تكلفة إضافية للاحتفاظ به، ولذا فعند ارتفاع أسعار الفائدة تتجه مدخرات الافراد للجهاز المصرفي وتنخفض أسعار الذهب والعكس في حالة انخفاض أسعار الفائدة، بشرط ارتفاع ثقة المتعاملين في البنوك المركزية وقيمة العملة المحلية وعدم وجود موجات تضخمية عنيفة تضرب الأسواق.
الأوضاع الاقتصادية العالمية وأسواق الذهب
مع اضطراب الأوضاع الاقتصادية العالمية منذ فبراير من العام الماضي، وزيادة حدة موجات التضخم العالمية، بدأ البنك الفيدرالي الأمريكي في رفع أسعار الفائدة، وتبعه في ذلك العديد من البنوك المركزية الأخرى، الأمر الذي أدى إلى جذب مدخرات الافراد للجهاز المصرفي وتراجع الطلب على الذهب فتراجعت أسعاره. إلا إنه مع استمرار الموجات التضخمية اهتزت ثقة المتعاملين في جهود السيطرة على معدلات التضخم واتجهت الأموال لشراء الذهب كمخزن للقيمة، وأداه للتحوط من موجات التضخم، فارتفعت أسعار الذهب واستمرت في ارتفاعها مع ظروف عدم اليقين، وتصاعد الاختلالات المصرفية في السوق الامريكية، وإن كانت تراجعت في فبراير مع تحسن مؤشرا الاقتصاد الأمريكي وارتفاع خسائر صناديق الذهب.
ويتوقع استمرار ارتفاع أسعار الذهب عالميا لتتجاوز 3000 دولار للأوقية بنهاية العام الجاري نتيجة استمرار ضغوطات الطلب المرتفع على الذهب كملاذ آمن لحفظ القيمة الحقيقية للأموال، خاصة في ظل تراجع قيمة الدولار-الذي يعد هو الآخر قناة بديلة للاحتفاظ بالمدخرات- مع تأزم الاتفاق على رفع حد سقف الديون الامريكية، وتعدد الاثار السلبية المترتبة على عدم رفع حد سقف الدين.
شكل (4): أسعار الذهب عالميا خلال الفترة (يوليو 2021- مايو 2023)
سوق الذهب في مصر
مع تصاعد الاضطرابات الاقتصادية المصاحبة للصراع الروسي الاوكراني اتخذت أسعار الذهب في مصر اتجاها تصاعديا، وقد تم ارجاع ذلك، بصفة عامة، إلى زيادة الطلب على المعدن النفيث نتيجة تراجع الثقة في قيمة العملة المحلية، إذ ارتفع سعر صرف الجنية المصري مقابل الدولار من 15.7 في مارس عام 2022 إلى 30.9 خلال مايو 2023، وذلك في سوق الصرف الرسمية. وعلى الرغم من استقرار سعر الصرف الرسمي، منذ يناير من العام الجاري، إلا إن استمرار تراجع قيمة العملة الوطنية في السوق الموازية أدى إلى مواصلة أسعار الذهب ارتفاعها محليا دون الارتباط باتجاهات الأسعار عالميا، ويترتب على ذلك انخفاض حدة الزيادات المتوقعة مستقبلا في أسعار الذهب حينما يتم تحريك سعر الصرف الرسمي، إذ إنه تم بالفعل تضمين أثر القرارات المستقبلية.
ووفقا لبيانات مجلس الذهب العالمي، فقد بلغت قيمة مشتريات الذهب من قبل البنك المركزي المصري نحو 2.7 مليار دولار خلال الربع الأول من العام المالي الجاري 2022/2023، ووصل اجمالي ما يمتلكه البنك المركزي من الذهب 125.3 طن بنسبة 22% من الاحتياطي حتى سبتمبر 2022. أما بالنسبة لمشتريات الأفراد من السبائك والمشغولات الذهبية فقد بلغت قيمتها نحو 0.986 مليار دولار خلال الربع الأول من العام المالي الجاري.
شكل (5): أسعار الذهب في مصر خلال الفترة (يناير 2022-مايو 2023)
وقد بلغت مشتريات المصريين من المشغولات والسبائك الذهبية نحو 16.2 طن خلال الربع الثالث من العام المالي 2022/2023، بقيمة 0.986 مليار دولار، مقابل 12.2 طن خلال الربع المقابل من العام المالي السابق، وفقا لبيانات مجلس الذهب العالمي. وقد احتلت مصر المركز السابع عالميا، والثاني في الشرق الاوسط من حيث الاقبال على شراء الذهب خلال الربع الأول من العام الجاري، إذ بلغت حصتها 2% من اجمالي الشراء عالميا.
وقد ساهم في دفع معدلات الطلب على الذهب محليا ظروف عدم الاستقرار المالي التي شهدتها الولايات المتحدة الامريكية، والتي ساهمت في اجتذاب الذهب الحصة الأكبر من السيولة النقدية مقابل الدولار مع تزايد المخاوف بشأن العملة الامريكية.
نظرة مستقبلية: استقرار محتمل
على الرغم من تعدد العوامل الدافعة لعدم استقرار سوق الذهب محليا، إلا إنه يتوقع خلال الفترة القادمة أن تشهد سوق الذهب حالة من التوازن والاستقرار، ويمكن تفسير ذلك من خلال عدة عوامل؛ فمن جهة الطلب يتوقع أن يكون فائض السيولة الذي كان يتم توجيه لشراء الذهب أن يتراجع مقارنة بالفترة السابقة فتستقر قوة الطلب بشكل نسبي. كما يتوقع أن تدفع عمليات جني الأرباح المتوقعة بارتفاع مبيعات الذهب من قبل بعض الافراد خاصة حال تأثير الأوضاع الاقتصادية على حاجة الافراد للسيولة النقدية فيتم التعويض من خلال تسييل بعض المدخرات المملوكة في شكل مقتنيات ذهبية والتي تتمتع بكونها أصل مرتفع السيولة.
أما من جهة العرض، فإنه يتوقع مع اتخاذ قرار اعفاء واردات الذهب القادمة بصحبة الركاب القادمين من خارج البلاد من الضريبة الجمركية والرسوم الأخرى، فيما عدا الضريبة على القيمة المضافة لمدة 6 أشهر، أن يرتفع المعروض من الذهب وتتجه الأسعار إلى الاستقرار النسبي وإن كان من غير المتوقع انخفاض الأسعار بصورة كبيرة. وتأتي أهمية هذا القرار بعد أحداث الاضطرابات في السودان والتي من شأنها وقف تدفقات الذهب من السوق السودانية، وإن كانت بطرق غير رسمية.
ومن جهة أخرى، فإنه مع الإعلان عن انطلاق صندوق الاستثمار في الذهب يتوقع أن تتوافق أسعار الذهب المحلية مع الأسعار العالمية، ويزيد من فعالية تأثير آليات العرض والطلب، ويحفز على تنويع القنوات الاستثمارية للمستثمرين في الاجل الطويل، وينتهي تأثير حالة الاحتكار التي تؤثر بدورها على توجيه الأسعار المحلية بشكل مستمر.
وبصفة عامة فإنه تجدر الإشارة إلى إنه دائما ما تشهد فترة الأزمات الاقتصادية العديد من الاختلالات في أسواق الأصول وخاصة الذهب، وتتعدد العوامل التي تدفع بالأفراد نحو مزيد من الطلب؛ إذ انه يعد أداة ادخارية بالنسبة للأفراد تضمن الحفاظ على القيمة الحقيقية للأموال في الاجل الطويل، فضلا عن كونه أصل مرتفع السيولة يمكن تسيله بسرعة وبأقل قدر من الخسائر المحتملة حال تعرض حائزه لأزمات مالية في ظل الظروف الاقتصادية الحالية التي تؤثر على الوظائف والدخول. ولكن على مستوى الاقتصاد الكلي يجب الانتباه أن شراء الذهب لا يعد استثمارا وإن كان يتضمن تحقيق أرباح/ خسائر رأسمالية، ولكنه لا يدر دخل ولا ينطوي على توليد قيمة مضافة، كما إنه لا يضمن تحقيق مكاسب رأسمالية إلا في الاجل الطويل. ولا ينصح بشراء الأصول في ظل اتخاذ أسعارها منحني تصاعدي والذي يدفع أما لزيادة المضاربات وخلق فقاعات سعرية، أو يحفز عمليات جنى الأرباح فتتراجع الأسعار بشكل كبير.
وختاما،،، فانه يمكن القول أن الظروف الاقتصادية العالمية والمحلية الراهنة تحمل في طياتها عدد من العوامل التي أدت إلى اضطراب سوق الذهب وتباين حركة الأسعار العالمية والمحلية، حيث التغيرات في قيمة الدولار، واتجاهات أسعار الفائدة، وارتفاع معدل التضخم، وتصاعد التوترات الجيوسياسية في عدة انحاء، فكان الذهب هو الملاذ الآمن للحفاظ على أموال المدخرين، إلا إنه دائما ما تتضمن حالة عدم التوازن بين قوى العرض والطلب دوافع ومسببات الاتجاه إلى مستوى السعر التوازني في الأسواق، بالإضافة إلى تأثير ما اتخذته الحكومة من قرارات من شأنها دفع الأسواق إلى الاستقرار.