السينما الأمريكية فى هلع، الُكتاب ومحررو النصوص والسيناريوهات والممثلون والفنيون أضربوا عن العمل، يرون أنفسهم ضحية جشع المنتجين ومخاطر الذكاء الاصطناعى الغاصب.الاستوديوهات الكبيرة ومنتجو الأفلام والصور المتحركة والمسلسلات غاضبون ويرون الصناعة فى خطر.
نقابات الممثلين والكتاب يزيد أعضاؤها على 160 ألف عضو، يعانون ضعف الرواتب وظروف العمل السيئة، وضعف الضمانات الصحية، وغياب الإجازات والاستراحات، وعدم انتظام الرواتب والحقوق المالية التى يؤخرها المنتجون لأشهر عديدة.
وجاء الذكاء الاصطناعى التوليدى، القادر على ابتكار نصوص فنية بشكل أو بآخر، ويمكنه استنساخ أصوات الممثلين والمؤدين للأصوات لأفلام الكارتون، ليشكل عبئا وضغطا على هذه الفئة، التى يبدو التخلى عنها أمرا شبه حتمى لصالح التطبيقات الذكية. المنتجون أصحاب الاستوديوهات الكبيرة والاكثر شهرة فى العالم كله يعتبرون مطالب العاملين فى صناعة السينما والتليفزيون الأمريكية مُبالغا فيها، قدموا لهم فى مفاوضات شهدت أنواعا من الخداع وإلغاء الاجتماعات، أبسط العوائد، ونسبة تزيد قليلا على 10 فى المئة للرواتب وبعض تحسينات فى الضمانات الصحية، ووعودا بتحسين بيئة العمل.
لكنها رفضت من جانب ممثلى نقابات الكتاب والممثلين والفنيين، لانها وعود ليست مضمونة وأقل بكثير مما يستحقونه، خاصة أن منصات البث المباشر التى تمتلكها الاستوديوهات الكبرى باتت تحقق مكاسب ضخمة ولا يستفيد منها العاملون فى صناعة السينما شيئا، ما يعنى علاقة استغلال كبرى لا يمكن احتمالها. من الطبيعى أن تكون هناك مطالب ومواقف متضاربة بين المنتجين والقائمين بالعمل، وتلعب الإضرابات وفقا للنموذج الغربى بشكل عام، والأمريكى بشكل خاص وسيلة للضغط من أجل تحسين العوائد، وهى محمية بحكم القانون، وعادة ما تأتى فى ظل مفاوضات بين الطرفين، أو بعد فشل تلك المفاوضات، وهى فى النهاية ووفقا لسوابق الأمور، تمهد لمفاوضات جديدة قد تؤدى إلى تنازلات متبادلة وتفاهمات واتفاقات أفضل للطرفين، ومن ثم استعادة مسيرة الصناعة التى لا يمكن لأحد أن يتخلى فيها عن الطرف الآخر.
والمهم هنا ملاحظة أن الإضراب وكما يسبب خسائر للمنتجين، يسبب خسائر مماثلة للمضربين أنفسهم، ولكنهم يرون أن تلك الخسائر المؤقتة سوف تفضى قطعا إلى حلول أفضل، لا سيما أن خسائر المنتجين فى حالة هوليوود تكون بمئات الملايين وربما المليارات.
إضراب هوليوود حالة مثالية لبيان تأثير التطورات التكنولوجية المتسارعة على بيئة الأعمال حاليا وفى المستقبل. لاسيما ان التطبيقات الحديثة الموسومة بالذكية والقادرة على توليد المعانى والنصوص واستنساخ نماذج تبدو جديدة، باتت تهدد ملايين العاملين فى مجالات الكتابة والتأليف بشكل مباشر، وفى حالة استنساخ الوجوه والأصوات فهى تهدد مباشرة العاملين فى مجال السينما والتليفزيون، كما تهدد أيضا السياسيين وأعضاء البرلمانات ورجال القانون ومشاهير الرياضة وغيرهم كثير، ليس فقط فى الولايات المتحدة بل فى العالم كله، وإن بدرجات مختلفة.
إبداع وتوليد النصوص بواسطة التطبيقات الذكية لا يخلو من مخاطر أخرى تتعلق بالتزوير ونشر المغالطات التاريخية للأحداث التاريخية الموثوقة، وتشويه المعانى والقيم الأخلاقية والمقدسات الدينية المختلفة. وفى تجربة شخصية لأحد تطبيقات توليد النصوص، عبر جهازى كمبيوتر مختلفين، بدت الإجابات عن الأسئلة ذاتها مختلفة تماما، وغير متطابقة، مما يضع سقفا للموثوقية فى مثل تلك البرامج. وقد لاحظت أن اختلاف المادة الموجودة فى كل جهاز كانت وراء اختلاف الإجابات وتباين النص المتولد.
وفى إطار دعوة وصلتنى بالبريد الإلكترونى لمساعدتى فى كتابة نصوص وفقرات عبر الاشتراك المجانى فى أحد البرامج الذكية التى أعلنت عنها مؤخرا واحدة من كبريات شركات المعلومات، وفى استطلاع سريع لشروط الاشتراك، وجدت أن المطلوب يتضمن الإفصاح الكامل عن كل الجوانب الخاصة، وفتح المجال أمام التطبيق لنسخ الموجود فى حاسبى الشخصى من صور ومعلومات، وكذلك بريدى الإلكترونى وهاتفى النقال، وإعطاء الإذن للبرنامج لتعقب تحركاتى اليومية. باختصار يستهدف البرنامج كل ما يتعلق بخصوصيات الشخص، وفى الوقت ذاته يعطى ضمانات غامضة بشأن حماية هذه البيانات شديدة الخصوصية، مع التلميح بأنه يمكن لأطراف أخرى أن تطلع على هذه البيانات بزعم تطوير أداء البرنامج، دون العودة لصاحبها.
ولم يكن هناك مفر سوى تجاهل ذلك الاشتراك المجانى الخطير. كثير من المبهورين بتطبيقات توليد النصوص يشتركون فى تلك التطبيقات دون التمعن والتأمل فى شروطها، تبهرهم فكرة أن هناك جهازا يبدو مصمتا، ولكنه قادر على توفير إجابات سريعة لأسئلة تحتاج بعض الجهد للوصول إليها بوسائل المعرفة التقليدية، كالقراءة والبحث عن المعلومات فى المكتبات وفى الدراسات المختلفة ومراجعة المختصين والبيانات الرسمية وهكذا. باختصار الاعتماد البشرى المتتالى على تلك التطبيقات يؤدى حتما مع مرور الزمن إلى إلغاء القدرة على التفكير وربط الأحداث وإبداع الأفكار. فى حالة هوليوود رفع كتاب النصوص السينمائية شعارا جميلا ذا مغزى عميق، يقول «كتابة النصوص الإنسانية تحتاج إلى كتاب بشريين».
فالإنسانية هى التى تبدع فى المجال الإنسانى، أما ما هو توليدى من مصادر شتى بعضها القليل جدا موثوق، وغالبيتها غير موثوق ومشوه ومزور وعديم القيم الاخلاقية والدينية، فسوف ينتج حتما إبداعا مشوها مهما تكن درجة الإقناع فى السرد والحبكة فى النص.
الإنسانية هنا فى مواجهة اختبار كبير للحفاظ على فطرتها، وعلى قدرتها فى الإبداع النقى الصافى. ما يحدث فى هوليوود، يفصح عن حقيقة خطيرة، فالمسألة تجاوزت مخاطر المهنة إلى ترسيخ الجشع، جشع بعض المتنفذين الذين يستغلون جديد التكنولوجيا فى مزيد من السيطرة على قرنائهم البشر من أجل أرباح مليارية تزيد من هيمنتهم وجشعهم.