بمناسبة نتيجة الثانوية العامة، والشكاوى المعتادة من صعوبة الامتحانات، والمفاجآت الصادمة التى ظهرت فى نتائج طلاب الفرقة الأولى بكليات الطب فى بعض محافظات الصعيد؛ هذه دعوة للتفكر فى معانى النجاح والفشل وأبعادهما الاجتماعية.
الشهادة التى يحصل عليها خريجو المدارس والجامعات هى دليل على وجود مستوى معين من المعارف والمهارات؛ فهذا هو ما تشهد به الوزارة أو الجامعة مصدرة الشهادة. ليس المهم هو أن يكون الطالب قد قضى سنوات معينة فى الدراسة، أو اجتاز امتحانات معينة، فكل هذا لا يعنى المجتمع فى شيء، والمهم هو أن يسفر كل هذا عن امتلاك الخريج معارف ومهارات تجعل منه أهلا لتحمل مسئولية العمل.
عندما يجتاز الطالب الامتحانات رغم افتقاده حصيلة مناسبة من المعارف والمهارات، وعندما تصدر له شهادة لا تعكس بصدق مستوى المعارف والمهارات الموجود لديه بالفعل فإن هذا يعنى أن خداعا قد حدث، وأن تزييفا قد تم، وهو ما لا يختلف كثيرا لو أن الشهادة صدرت على يد مزورين محترفين، فالأثر الاجتماعى يكاد يكون واحدا.
عندما يحدث هذا يفقد المجتمع الثقة فى الشهادة والخريجين والجامعات والمدارس التى تمنح الشهادات. لهذا سعدت عندما قرأت أخبار نسب الرسوب المرتفعة بين طلاب السنة الأولى فى كليات الطب فى بعض جامعات الصعيد. لم أسعد لفشل الطلاب، ولكنى سعدت لأن جامعاتنا قادرة على الإمساك بالزيف والاحتيال، وأنها متمسكة بإنتاج خريج يتمتع بحد مناسب من المهارة والمعرفة، وبأن تكون الشهادة الصادرة عنها عنوانا للحقيقة وليست مجرد استيفاء شكلى للمسوغات.
لا يمكن للفشل أن يكون سببا للبهجة، لكنه بالتأكيد إحدى حقائق الحياة التى لن تختفى أبدا. الفارق بين مجتمع ناجح وآخر فاشل هو احترام هذه الحقيقة وتنظيم التعامل معها. لو ظهرت النتيجة وخرجت التقارير تقول إن الجميع قد نجحوا وأن أحدا لم يفشل، فاعلم أن المجتمع فى مجمله ينزلق نحو الفشل، رغم أن الشهادات تشير إلى نجاح كل الأفراد وكل الشركات وكل المؤسسات. اعتدنا التندر على نتيجة الامتحان عندما تكون النتيجة هى أنه لم ينجح أحد. الجانب المشرق فى هذه النتيجة هى أن مؤسسات التقييم تعمل بكفاءة، وأن المجتمع يحترم الحقيقة، ولديه الثقة والشجاعة للاعتراف بأن المدرسة والمدرسين فشلا فى مهمتهما، وأنه على من يهمه أمر الإصلاح البدء من هذه النقطة.
على الجانب الآخر، فإنه علينا تحسس عقولنا وضمائرنا عندما تخرج النتيجة لتعلن لم يفشل أحد. المجتمع الذى تشير التقارير الصادرة عن مؤسساته أن أحدا لم يفشل هو مجتمع أخفق فى تشغيل آليات التقييم، وسمح للفاشلين بالاحتفال بنجاحات مزورة لم يحققوها، هو مجتمع يساوى بين الناجحين فعلا والفاشلين الذين تم منحهم شهادة نجاح مزورة، لتضيع المعايير، ويضيع الفرق بين النجاح والفشل، ويشيع عدم الثقة فى المجتمع، ويفقد الناس الحماس للنجاح الحقيقى، مادام الجميع يحصلون على النتيجة والمكافأة نفسها فى النهاية؛ ولهذا يفشل المجتمع رغم أن الشهادات تشير إلى أن كل أفراده قد نجحوا.
لو أن هناك سببا واحدا لفشل الاشتراكية فى الاتحاد السوفيتى فهو إخفاق مؤسسات النظام فى رصد الفشل، وخجلها من الإعلان عنه، والاستثمار فى حملات تجميل الواقع، حتى أصبح التواطؤ على التغطية على الفشل هو الآلية الرئيسية لعمل النظام. تقول القصة الرمزية إن جواسيس أمريكا كانوا يقومون بدفع العناصر الفاشلة لصدارة المشهد فى الاتحاد السوفيتى كلما سنحت لهم الفرصة، ففقد الناس الثقة، وانهارت المعنويات، وسقط الحصن من الداخل.
تهتم المجتمعات الناجحة بالكشف عن الفشل، فتضع لذلك معايير دقيقة،تتشدد فى تنفيذها، ولا تنخدع فى الأبواب الخلفية من نوعية درجات الرأفة والحرص الكاذب على مستقبل التلاميذ والعاملين. عندما يتم رصد العناصر الفاشلة فى هذه المجتمعات يجرى فصلهم عن الناجحين بطريقة منظمة، دون أن ينطوى ذلك على إهانة أو مساس بالكرامة. المجتمع الناجح يدرك أن الفشل من طبائع الأمور، وأن الفرد الطبيعى يفشل عدة مرات فى حياته، وأن الفشل مرة ليس حكما نهائيا بالفشل. لذلك يوفر المجتمع طرق الخروج الآمن للمتعثرين، وطرقا لدخولهم من جديد سعيا وراء فرصة ثانية.
فى المجتمع الطبيعى هناك قلة صغيرة من العباقرة، وقلة صغيرة أخرى من الفاشلين المزمنين، أما أغلب الناس فيتوزعون على درجات مختلفة فى الفئات المتوسطة بين العبقرية والفشل المزمن. فى المجتمع الذى يخفق فى الكشف عن الفاشلين، ويساوى بين النجاح والفشل، تتقلص فئة العباقرة، ويتحول المجتمع كله إلى جمهرة كبيرة من متوسطى الذكاء والمعرفة والمهارة، أواسط الناس العاديين، الذين يتعاونون للتغطية على الفشل، ولا يرحبون بالمتميزين من الناس لأن تفوق هؤلاء الحقيقى غير المزيف يحرجهم ويكشف ادعاءاتهم.
يسود المتوسطون فيفرضون ثقافتهم، وهى ثقافة تكره الامتياز والتفوق. هل يرحب مجتمعنا بالمتميزين، أم يضع أمامهم العراقيل؟ هل يبقى نوابع العلم والرياضة والاقتصاد فى بلادنا، أم يتسربون منها إلى بلاد أخرى تقدر معارفهم ومهاراتهم؟ هل لهذا علاقة بتسيد العاديين والإخفاق فى الكشف عن الفاشلين؟
المجتمع الصحى يقدر النوابع والمتميزين، يبحث عنهم ويمنحهم ما يمكنهم من مزيد من التفوق. المجتمع الصحى لا يخجل من الفشل، فيرصد الفاشلين، وينظم خروجهم من المأزق، ويساعدهم فى النهوض من جديد دون تفريط فى المعايير، وهو فى كل الأحوال يحفظ كرامة الجميع ويعاملهم بالاحترام الكافى.