تحتل شركة “فاجنر” الروسية صدارة الأخبار المتعلقة بدور الشركات العسكرية الخاصة PMCs في ساحة الحرب الروسية الأوكرانية، ومع ذلك فإن “فاجنر” ليست وحدها، إذ تكشف بعض المؤشرات عن أدوار لشركات عسكرية أمريكية خاصة داخل ساحة الحرب. فقد أفادت مصادر روسية بأنه على الرغم من التزام واشنطن بالصمت تجاه عمل الشركات العسكرية الأمريكية في أوكرانيا، وعدم الإعلان عن حقيقة أن متعاقدين من هذه الشركات يشاركون في العمليات القتالية الدائرة في أوكرانيا، إلا أن هناك دلائل على قيام بعض هذه الشركات بتقديم الدعم للقوات المسلحة الأوكرانية، ومنها: Academi (بلاك ووتر سابقًا) وCubic Corporation وForward Observations Group.
وفي السياق ذات، لفتت Sons of Liberty International، التي تصنف نفسها على أنها منظمة غير ربحية تقدم خدمات مجانية للفئات الضعيفة من الناس لحمايتهم من الجماعات الإرهابية والمتمردة، إلى وجود طاقمها في أوكرانيا منذ مارس 2022 لتقديم المشورة والتدريب والإمدادات للقوات المسلحة الأوكرانية التي تقاتل ضد روسيا، بما فيها قوات الدفاع البرية والحرس الوطني والقوات الخاصة. وتشمل الخدمات التي تقدمها هذه المؤسسة التدريب على إطلاق نيران المدفعية والقناصة، وتكتيكات الوحدات الصغيرة، والطب القتالي، والتدريب على القيادة. كما قدمت أيضًا تدريبًا شديد التخصص في العمليات القتالية الليلية وأنظمة الصواريخ المضادة للدبابات.
وعلى هذا النحو، تجدر الإشارة إلى أن اعتماد واشنطن على الشركات العسكرية الخاصة لمساعدة أوكرانيا في مواجهة روسيا لا يمثل استثناء ولا يعكس نمطًا جديدًا للتعاطي. إذ تقدم الولايات المتحدة نموذجًا للاعتماد الواسع على الشركات العسكرية الخاصة لتعزيز رؤيتها الاستراتيجية وتحقيق مصالحها ذات الصلة بأمنها القومي. ويمثل عام 1973، نقطة فارقة كونه شهد تمرير قانون (صلاحيات الحرب)، الذي يتطلب من الرئيس أن يقوم بالحصول على موافقة الكونجرس على أي نشر للقوات الأمريكية. وهي المسألة التي عززت من اعتماد السلطة التنفيذية على المتعاقدين من الخارج، بما يعني أن الاعتماد على الشركات العسكرية الخاصة قد سمح للرئيس بتجنب القيود التي فرضها هذا القانون.
واستنادًا إلى ذلك، فقد مهّد برنامج التعزيز المدني اللوجيستي (LOGCAP)، الذي أنشأه الجيش الأمريكي في عام 1985، الطريق للاستخدام المكثف للمتعاقدين المدنيين في أوقات الحرب وأثناء حالات الطوارئ الأخرى. ويغطي هذا البرنامج جميع العقود المخططة مسبقًا المتعلقة باللوجستيات والهندسة والبناء، ويتضمن كل شيء بدءًا من إصلاح الشاحنات وحتى بناء قواعد كاملة في الخارج. وهو الأمر الذي عزز من قوة ونفوذ وتأثير واشنطن في الساحات المختلفة بدون انخراط واسع النطاق لقواتها المسلحة. على سبيل المثال، في أوائل التسعينيات، استأجرت واشنطن شركة MPRI لتدريب وتقديم المشورة للجيش الكرواتي، مما مكن الكروات في النهاية من تحقيق الهدف الأمريكي المتمثل في إجبار الصرب على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. وخلال غزو أفغانستان والعراق، شارك عدد كبير من الشركات العسكرية الأمريكية في كلتا الساحتين، وفي بعض الفترات، تجاوز العدد الإجمالي لأفراد هذه الشركات عدد العسكريين الأمريكيين.
عطفًا على ما سبق، وجدت دراسة أجرتها جامعة براون عام 2021 أن ما يقرب من نصف مبلغ 14 تريليون دولار الذي أنفقته الولايات المتحدة على الحروب ذات الصلة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر ذهب صوب الشركات العسكرية الخاصة. هذا، وتسيطر الشركات الأمريكية حاليًا على حصة رائدة في صناعة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة على مستوى العالم بقيمة 224 مليار دولار. من المتوقع أن تزيد قيمة المبيعات السنوية للصناعة الأمريكية بأكثر من 80 مليار دولار خلال المستقبل القريب، ومن المتوقع أن تتوسع إلى ما قيمته 457 مليار دولار.
وترجع أسباب التوسع في الاعتماد الأمريكي على الشركات العسكرية الخاصة إلى عدد من الأسباب، أبرزها: التخلي عن التجنيد الإجباري لصالح التجنيد الطوعي وهو ما قلل من أعداد القوات المسلحة، وتواضع القدرات البشرية نتيجة القيود المفروضة على الرواتب المسموح بها داخل الجيش، بجانب تعزيز فرص أكبر للحفاظ على سرية المعلومات المتعلقة بالعمليات التي تجريها الشركات العسكرية الخاصة بعيدًا مساءلة الكونجرس وأنظار الشارع الأمريكي، بالإضافة إلى كون الاعتماد على هذه الشركات يمثل وسيلة مثلى للحفاظ على صورة وسمعة الولايات المتحدة بعيدًا عن التدخل في شؤون الدول الأخرى، فضلًا عن التقدم التكنولوجي الذي توفره هذه الشركات سيما في قطاع الطائرات بدون طيار، علاوة على رغبة واشنطن في موازنة الدور الذي تقوم به الشركات العسكرية الخاصة التابعة لخصميها (روسيا والصين) في الساحات المختلفة، والذي قد يطال نفوذ ومصالح واشنطن.
ومن ثمّ يساهم اعتماد واشنطن على الشركات العسكرية الخاصة في تحقيق عدد من المكاسب، ويأتي في مقدمتها: تجاوز محدودية القدرات والكفاءات البشرية في صفوف القوات المسلحة الأمريكية، بجانب غياب الرقابة والمساءلة بشأن العمليات التي تقوم بها هذه الشركات، حتى وإن طالت الإدانة أفراد هذه الشركات فهي تنتهي إما بأحكام لا تناسب ما تم اقترافه من تجاوزات (مثال: شركة CACI) أو بعفو رئاسي (مثال: شركة Black Water)، بالإضافة إلى مرونة الحركة التي يتمتع بها عمل هذه الشركات من حيث قدرتها على التكيف بسرعة مع المواقف المتغيرة على أرض الواقع بالاستناد إلى قدرتها على تجاوز الإجراءات القانونية والبيروقراطية، علاوة على تقليل التكاليف، سيما المرتبطة بعدم التزامها بمستحقات مماثلة لتلك الواجبة للمحاربين القدامى من جانب، والاعتماد على متعاقدين محليين بأجور أقل وامتيازات محدودة من جانب آخر.مجمل القول، إن هناك اعتمادًا كبيرًا من قبل الولايات المتحدة على الشركات العسكرية الخاصة وتوظيفها في الساحات المختلفة بطريقة جعلتها أشبه بـــــ”الجيش الموازي”. ولا توجد ثمة مؤشرات على اتجاه واشنطن لتحجيم اعتمادها على هذه الشركات خلال السنوات القادمة. ومن ثم، لا يعكس الحديث حول تدخل الشركات العسكرية الأمريكية الخاصة في ساحة الحرب الروسية الأوكرانية استجابة استثنائية، وإنما هي حلقة ضمن سلسلة متصلة لهذا التعاطي في الساحات المختلفة.
رئيس وحدة الدراسات الأمريكية