تتشابه مصر مع الصين والهند فى جانب معين من تاريخها مع التنمية. منذ الخمسينيات طبقت البلاد الثلاثة نماذج للتنمية تعتمد على الدور المركزى للدولة والملكية العامة والعزلة عن السوق العالمية. تخلت الصين والهند عن هذه السياسة بنجاح، فكانت هذه هى بداية نهضتها الاقتصادية الحالية.تحاول مصر الإقلاع بعيدا عن هذا النموذج منذ طبقت سياسة الانفتاح الاقتصادى فى السبعينيات، لكنها مازالت تحاول جاهدة بحثا عن طريقها الخاص لنهضة اقتصادية تماثل ما جرى فى الصين والهند.
بدأت الصين والهند نهضتهما الاقتصادية متأخرتين. بدأت الصين فى 1979، فيما بدأت الهند بعد ذلك بأقل قليلا من 15 عاما فى عام 1992. وفر التوقيت فرصة ممتازة للبلدين، فقد كان العالم يتجه بسرعة نحو العولمة الاقتصادية والأسواق المفتوحة، فأزيلت حواجز كثيرة كان يمكن لها أن تعترض دخول الاستثمارات إلى البلدين وخروج الصادرات منهما.
فى هذا الوقت كان الغرب المتقدم الغنى قد وصل إلى مرحلة من الثراء والرفاهية شديدة التقدم، ودخل مرحلة تميزت بالطلب المرتفع على سلع الاستهلاك. كان الغرب أيضا قد تقدم تكنولوجيا إلى مستويات فائقة، وبسبب ارتفاع الأجور وتكلفة العمل، كان من الأفضل للغربيين التركيز على إنتاج السلع عالية المكون التكنولوجى وعالية القيمة التى تناسب قوة العمل المكلفة والمؤهلة بشكل عال جدا الموجودة فى بلادهم، فيما يتم نقل إنتاج السلع ذات المكون التكنولوجى المنخفض إلى بلاد فيها وفرة من القوة العاملة الرخيصة. استفادت الصين بشكل خاص من هذه الفرصة النادرة، ورافقها فى ذلك عدد من الدول التى بدأت مسيرة النهضة الاقتصادية فى هذه الفترة، خاصة فيتنام. أما بالنسبة لنا فى مصر فقد ضيعنا هذه الفرصة لأن شروط الاستثمار عندنا لم تكن جذابة بشكل كاف للمستثمر الأجنبى، فالتعقيدات البيروقراطية كثيرة، والمدفوعات غير القانونية ثقيلة، واليد العاملة المصرية ليست الأفضل تأهيلا، ولا الأكثر انضباطا، ولا هى حتى الأقل تكلفة، بسبب وفرة الأنشطة الطفيلية والخدمية ذات العائد المرتفع، من تشغيل سيارات الأجرة والنقل بأنواعها، لتركين السيارات فى الشوارع، للعمل فى الخليج بأجوره المرتفعة، الأمر الذى جعل العمل فى الصناعة صفقة خاسرة بالنسبة للكثيرين فى مصر.
بدأت الهند نهضتها الاقتصادية فى النصف الأول من التسعينيات، فسهلت الإجراءات للاستثمار الأجنبى وفتحت الأسواق وخففت القيود على التجارة. فى ذلك الوقت كانت الإنترنت تغزو العالم بسرعة فائقة، وظهرت لأول مرة إمكانية التعهيد فى تنفيذ خدمات الحوسبة والمحاسبة وخدمة العملاء عبر الحدود. كان القرن يقترب من نهايته، وكان العالم يقترب من عام 2000 بسرعة شديدة، وكان هناك تخوف من تأثر عمل أنظمة وبرامج الحاسب بسبب ظهور 00 بدلا من 99 فى خانة التاريخ. كانت هناك حاجة لمراجعة دقيقة لمئات الآلاف من التطبيقات والبرامج، وهى عملية مكلفة لو تم تنفيذها اعتمادا على العمالة الفنية باهظة الكلفة فى بلاد الغرب. هنا ظهرت الهند، فلديها عشرات الألوف من الخريجين من أقسام الحاسب والرياضيات والمحاسبة والاتصالات المستعدين لتنفيذ المهمة بتكلفة مناسبة، فكانت بداية ظهور الهند كلاعب رئيسى فى عالم الحوسبة والبرامج والشبكات والتعهيد. هذه فرصة أخرى أهدرناها لأن نظم الاتصالات لدينا كانت ضعيفة، فلم يكن من السهل الحصول على خدمة الإنترنت رغم قلة كفاءتها، وكان القانون يلزمك بالحصول على تصريح خاص لو أردت السفر ومعك اسطوانة تحمل بيانات رقمية. لقد أفقنا بعد ذلك بعشر سنوات، فبدءا من عام 2004 بدأنا فى تسهيل الحصول على خدمة الإنترنت وسهلنا شروط تقديم خدمات التعهيد. لكننا كنا متأخرين جدا فى سوق كانت العمالقة قد رسخوا أقدامهم فيها، فاكتفينا بالفتات.
فهم الصين والهند طبيعة التطورات الجارية فى اقتصادات الدول المتقدمة التى مثلت مركز النظام الاقتصادى الدولى، وبحثتا عن مساحات شاغرة يمكنهما التقدم لشغلها، عبر القيام بوظائف يحتاجها الاقتصاد الغربى، فسدت الصين حاجة الغرب للصناعات الاستهلاكية قليلة التكلفة، واستفادت الهند من حاجة قطاع خدمات تكنولوجيا المعلومات الصاعد إلى أخصائيين لديهم معارف متقدمة، وإلى عشرات الآلاف من الوظائف قليلة التكلفة، وكان نظام التعليم الهندى قادرا على سد هذا الاحتياج بمهندسين أكفاء، بالإضافة إلى آلاف الخريجين الذين يمكنهم العمل فى مراكز خدمة العملاء لخدمة زبائن يعيشون عبر المحيطات فى بلاد بعيدة. ملايين الصينيين والهنود العاملين فى الخارج كان لهم مكان مهم فى استراتيجية التنمية هذه، ليس فقط عبر التحويلات المالية، ولكن الأهم من ذلك عبر ما أتوا به من استثمارات وأفكار، وعبر تشبيك السوقين الهندية والصينية بما فيهما من شركات ومهنيين ومؤسسات مالية بالسوق العالمية. لقد وفر هؤلاء المغتربون قنوات مهمة لجذب رأس المال الأجنبى، ونقل التكنولوجيا، والوصول إلى الزبائن فى الأسواق الغربية الغنية، فضاعفوا من سرعة النمو فى البلدين.
ركز الصينيون والهنود على الاستفادة من الفرص التى أتاحها الاقتصاد الغربى، فيما ركزت مصر على الاستفادة من الفرص التى أتاحتها اقتصادات الخليج. غير أن الخليج الغنى ليس بحاجة إلى مصنوعات مصرية قليلة التكلفة، فهم يدفعون ثمن أرقى الماركات، ولا يوجد فى الخليج قطاع تكنولوجيا يوفر فرصة للتقنيين المصريين، لكن هناك أموالا تبحث عن ملاذات عقارية فاخرة للادخار والاستثمار.. ركزت مصر على الاستفادة من الفرصة العقارية التى أتاحها للخليج، فتكونت لديها ثورة وثروة عقارية ونهضة عمرانية هائلة، لكن الصناعة والتكنولوجيا مازالت تبحث عن فرصتها.