واجهت أوروبا أزمات عدة في السنوات الأخيرة، وتوالت تلك الأزمات من وباء كوفيد العالمي وحتى الحرب الروسية الأوكرانية، ومع تأثير هذه الأزمات المعرقلة لتطور واستقرار أوروبا، تلوح في الأفق أزمة كبيرة ستواجهها القارة ألا وهي أزمة المياه، والتي لا تمثل تهديدًا على صعيد الاستقرار السياسي والاقتصادي فحسب، بل تهديدًا للحياة واستمرارها.
فعلى مدار السنوات الماضية تزامنًا مع هذه الأزمات المذكورة أعلاه، أضحت كلمة “الجفاف” مصطلحًا كثير التردد على الألسنة والآذان الأوروبية بعد تحول القارة إلى كرة من اللهب مسجلةً درجات حرارة قياسية، والأسوأ منذ ما يزيد على 500 عامًا. وهذه الحالة غير المسبوقة من الجفاف أدت لتراجع منسوب المياه في الأنهار الكبرى في القارة، وتحويل المساحات الخضراء إلى أراضٍ جرداء. وتشتد خطورة الموقف حسب توقعات مركز الأبحاث المشترك التابع للمفوضية الأوروبية بإصابة حالة الجفاف حوالي 47% من القارة الأوروبية، كما أن ثلثي مساحة القارة بات مهددًا بالجفاف، علمًا أنه لحدود يوليو العام الماضي كانت 15% من مساحة أوروبا ضمن تصنيف “الجفاف الحاد”. وفي ظل هذه الأجواء المناخية الحادة، تباينت تفسيرات العلماء في تحديد الأسباب وراء هذه الأزمة. فجاءت الإجابة الأولى التي يقدمها العلماء لتنسب الأزمة إلى التغيرات المناخية المختلفة المؤدية إلى ارتفاع غير مسبوق في درجات حرارة الأرض ينعكس على تراجع سقوط الثلج خلال فصل الشتاء، ويتسبب في تراجع خصوبة الأرض، مؤديًا لتزايد استهلاك النباتات للماء. أما الإجابة الثانية فجاءت مركزة بشكل أكبر على القارة الأوروبية، وأسندت هذه الأزمة للتغير في التيارات الهوائية دافعةً الهواء الساخن من شمال أفريقيا نحو أوروبا، حسب دراسة نشرها موقع نيتشر.
وعلى الرغم من خطورة الموضوع إلا أن الوضع قد يزداد سوءًا مع التراجع الأوروبي الأخير عن هدف تقليص انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 55% بحلول عام 2030، ويعد هذا من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية، فبسبب هذه الحرب هناك أزمة الطاقة التي أجبرت الحكومات الأوروبية على إعادة اللجوء إلى الأساليب القديمة، بما فيها الاعتماد على الفحم والوقود الأحفوري. ومن عواقب أزمة الجفاف وندرة المياه أن الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا سيتراجع بنسبة 0.5% مقارنة بالعقد الماضي حسب دراسة لعدد من الخبراء الاقتصاديين الأوروبيين. وعلى إثره، شهدت السنتان الماضيتان بالتحديد تكثيف جهود مختلف السلطات الأوروبية في مختلف البلدان -أبرزها فرنسا- لاحتواء تداعيات أزمة الجفاف المستمرة.
الوضع في أوروبا
سنستعرض الوضع في أوروبا من خلال التركيز على أكثر البلاد التي طالتها أزمة المياه وندرتها، وهي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وهذا نظرًا لكون هذه البلاد تمتلك أكبر القوى الزراعية الأوروبية وتمد السوق الأوروبية بمختلف أنواع الخضروات والفواكه، والتي تأثرت بشكل انعكس على انخفاض كبير في احتياطاتها بسبب قلة الأمطار هذا الشتاء.
ففي فرنسا، شهدت البلاد أجفَّ شتاء منذ 60 عامًا، حيث لم تتساقط الأمطار لأكثر من 30 يومًا متتاليًا من يناير حتى فبراير. وبصفة عامة، ووفقًا لتقرير لجهاز المحاسبات انخفضت كمية المياه المتجددة المتاحة، تلك التي يمكن استخدامها لتلبية احتياجات الإنسان دون المساس بالوضع المستقبلي، بنسبة 14٪ بين الفترة 1990-2001 والفترة 2002-2018، من 229 مليار متر مكعب إلى 197 مليار / م 3 “. وتتمثل خطورة وضع فرنسا في الأضرار الواسعة التي لحقت بأراضيها الزراعية من ناحية، وفي اعتماد عشرات المفاعلات النووية الفرنسية على مياه النهر للتبريد من ناحية أخرى، مع وجود مشكلة نقص كميات مياه هذه الأنهار أو سخونتها الشديدة، ولا سيما حرارة مياه نهري “رون” و”غارون” لدرجة لا تسمح بتبريد المفاعلات.
طالت الأزمة أكثر من مائة بلدة في فرنسا التي لم يعد لديها ماء للشرب حسب ما أدلى به وزير النقل البيئي في فرنسا كريستوف بيشو، واصفًا الجفاف الذي تشهده البلاد على غرار دول أوروبية أُخرى بـ”التاريخي”. وأكد الوزير أنه في غالبية المناطق التي تشكو نقصًا في ماء الشرب “تتم عمليات التزود من خلال شاحنات نقل الماء. بما أنه لم يعد هناك مياه في القنوات تراهن الحكومة على تشديد القيود وضوابط استخدام المياه”. وانعكس ذلك في خضوع 93 منطقة من أصل 96 منطقة في فرنسا لقيود على استهلاك المياه بدرجات متفاوتة، كفرض تقليل استهلاك مياه الشرب حيث أعلنت الحكومة أن استهلاك الفرد 150 لترًا من مياه قابلة الشرب يوميًا أمر لا يمكنه الاستدامة (الرقم تم تقديره سنة ٢٠٢٠) وأنه يجب على المنازل والصناعة تقليل استهلاكها، بالإضافة لاعتماد نحو 100 بلدية على مياه الشرب التي يتم نقلها بالشاحنات. وثار جدل في فرنسا بسبب القوانين التي تحظر على المواطنين استخراج المياه الارتوازية في المناطق الجنوبية، رغم انقطاع مياه الدولة عن بعض الوحدات السكنية، وأعلنت وزارة الحربية عزمها تقليل استخدام المياه بنسبة ١٠٪ قبل نهاية العقد الحالي، وتخصيص ٤٢٩ مليون يورو في السنوات القادمة لهذا الغرض.
ويتساوى الوضع في السوء في إيطاليا، حيث سجلت الدولة تراجعًا في تساقط الثلوج بنسبة 64% حتى أبريل 2023، وانعكس ذلك على تراجع مستوى المياه في نهر بادي إلى مستويات صيفية، مع نفاد نحو نصف مخزون بحيرة غاردا (أكبر بحيرة في إيطاليا)، وأما نهر “بو” -أكبر نهر في البلاد- فقد شهد انخفاضًا كبيرًا بمنسوب المياه فيه لدرجة أضرت ضررًا بليغًا بري حقول الأرز، ولا ينفك هذا التراجع في المنسوب عن الازدياد، فقد أوضحت صحيفة الجورنال الإيطالية أن النهر يتدفق بمعدل أقل بنسبة 25% عن الحد الأدنى التاريخي الذي تم تسجيله في شهر أبريل عن الشهر الماضي. وعلى ذكر المستويات التاريخية، بلغت احتياطيات المياه 58.4% فقط من المتوسط التاريخي لها وأقل بمقدار 12.55 نقطة مئوية عن عام 2022، وجاء ذلك في منطقة لومبارديا الجنوبية. وأما بالنسبة لمياه الأمطار، فقد أشار إيتوري برانديني، رئيس الاتحاد الوطني للمزارعين المباشرين، إلى أنه “مع تغير المناخ، انخفض معدل هطول الأمطار بمقدار الثلث”، في حين أن 89.0% من المياه توفرها الأمطار التي أصبحت في شح متزايد، وهذا الوضع يعرض بقاء الأراضي وإنتاج الغذاء والقدرة التنافسية لقطاع الغذاء بأكمله للخطر”. ويأتي هذا الجفاف بتكلفة اقتصادية طائلة وصلت إلى حوالي 13 مليار يورو، فسعر الطماطم، على سبيل المثال، زاد بنسبة 30% مقارنة بالعام الماضي في إيطاليا.
أما عن إسبانيا، فتدق ناقوس خطر آتيًا في معاناتها من عواقب الجفاف للعام الثاني على التوالي، حيث تتأثر حوالي 60% من الحقول الإسبانية بالظروف الجافة، مع ارتفاع تكلفة الغذاء حوالي 46% بسبب انخفاض الإنتاج والجفاف. علاوة على ذلك، فهي تشهد أيضًا خسائر لا يمكن تعويضها في 3.5 ملايين هكتار (أكثر من ٨ ملايين وستمائة ألف فدان) مخصصة لمحاصيل الحبوب وتأثرت سلبًا بشدة، وفقًا لمنظمات المزارعين المحلية، خاصة في مناطق مثل الأندلس وكاستيلا لامانشا وإكستريمادورا ومورسيا، وإلى جانب هذا تأثرت أيضًا بساتين الجوز وكروم العنب.
مياه جبال الألب وراء النزاعات الأوروبية
أزمة المياه حاليًا تسببت في معركة جارية على مياه الألب في أوروبا. إذ بلغت كمية الثلج في جبال الألب أدنى مستوى لها في الفترة الأخيرة، بالإضافة لتقلص القمم الجليدية والغطاء الجليدي الأوروبي، الذي يعد المغذي الرئيسي لاحتياطيات وطبقات المياه الجوفية الفرنسية والإيطالية والنمساوية والسويسرية والسلوفينية، بجانب كونه مصدرًا من مصادر الإمدادات لمياه أنهار الراين، والدانوب، والرون، وأخيرًا نهر بو.
وعلى إثره، ظهرت أزمة المياه في النقل النهري بالنسبة لأوروبا، فمع مستويات الجفاف التي تسجلها مختلف الأنهار الهامة للنقل مثل نهري الراين والبو اللذين لم يعودا صالحين للملاحة، تتكبد أوروبا خسائر بالغة تجاوزت عشرات المليارات من اليورو بسبب شلل حركة النقل النهري الأوروبي الذي كان يساهم بنحو 80 مليار دولار في اقتصاد المنطقة، بحسب بيانات هيئة “يوروستات”. والمثير للاهتمام أنها ليست المرة الأولى التي تواجه فيها حركة النقل أزمة كبيرة، فهذه الأزمة الحديثة للمياه تحدث بعد 4 سنوات فقط من تعرقل مشابه لحركة النقل في نهر الراين في 2018، وأيامها تزايدت الضغوط على الاتحاد الأوروبي لتقديم الدعم لقطاعات النقل، والآن أيضًا تمارس الدول ضغوطًا تزداد حدتها مع تصاعد الأزمة.
وتشتد المعركة احتدامًا بين الدول المذكورة أعلاه، وبشكل خاص فرنسا وإيطاليا وسويسرا، بسبب إعلان مركز CCR التابع للاتحاد الأوروبي، وهو مركز مشترك للبحث العلمي، “أن حالة احتياطيات المياه وطبقات المياه الجوفية في شمال إيطاليا وفرنسا وإسبانيا “تثير مخاوف بشأن إمدادات المياه للاستخدام البشري والزراعة وإنتاج الطاقة”. ففرنسا وإيطاليا بحاجة ماسة للمياه لري المحاصيل، أما بالنسبة لسويسرا فحاجتها للمياه تتصل بإنتاجها الكهربائي، وتمثل مياه جبال الألب مصدر ثلثي إجمالي هذا الإنتاج.
وجاء رئيس اللجنة الدولية لحماية جبال الألب، كاسبار شولر، مشددًا على خطورة الوضع الحالي قائلًا إن “الوضع الحالي مثير للقلق، حيث إن جبال الألب وفّرت المياه لعدة قرون لعشرات الملايين من الأشخاص، ولكن هناك مستقبلًا غامضًا بعد حالة الجفاف وتنازع الدول الأوروبية حول المياه”.
الاقتصاد الأوروبي في خطر
وتنعكس وتيرة حالة النزاع على التوقعات الاقتصادية غير المُبشرة، إذ لا تفترض استمرار الوضع الحالي السيئ فحسب، بل ترى أن احتمال زيادة هامة في التدهور كبير للغاية، شأنه شأن احتمال خسارة كبيرة تصل إلى 5 مليارات دولار سيكون سببها الرئيسي التدهور الحالي الذي تزيد حدته في حركة تجارة النقل النهري، هذا الوضع يدفع الدول الأوروبية إلى التوجه إلى بدائل أخرى ذات تكلفة أعلى، ويؤدي هذا إلى ارتفاع أسعار الشحن في اليوم الواحد بنحو 30% بحسب “سوارت”. وتفاقم الموقف من شأنه إفساد الاستراتيجية الأوروبية التي كانت تنوي الاعتماد على زيادة النقل عبر الممرات المائية بنحو 25 % بحلول 2030 كلبنة من لبنات جهودها في مكافحة التغير المناخي وتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة.
ومن جهة، جاءت ألمانيا على رأس المتضررين من حركة النقل النهري المعرقَلة، فصعوبة النقل النهري أعاقت حركة نقل الفحم الذي تعتمد عليه خطة الحكومة الألمانية بشكل كبير فيما يخص إعادة تشغيل محطات توليد الكهرباء. ومن جهة أخرى، تعاني فرنسا من هذه الأزمة إذ تعجز عن سد النقص الكهربائي المحتمل للدول الأوروبية بسبب توقف نصف مفاعلاتها النووية للأسباب السابق ذكرها بالإضافة لتأخر كبير في إجراء أعمال الصيانة الضرورية. وانعكس العجز الفرنسي على النرويج التي وضعت خطة لتقليل تصدير الكهرباء لتوفير استهلاك الغاز وتوفير احتياطها منه.
خاتمة
جدير بالذكر في ختام هذه الورقة، أنه مع تفاقم مشكلة ندرة المياه، لا تقتصر المخاطر على الاقتصاد فحسب، بل تؤثر على الشكل التوزيعي للموارد المائية بطريقة غير متجانسة في أنحاء أوروبا، وتفاقم بعض الأنشطة الممارسَة من قِبَل بعض دول جنوب أوروبا بسبب زيادة السياحة من حدة الأزمة لتسببها في زيادة ملحوظة للطلب على المياه، كل هذا أدى للتصحر وغزو المياه المالحة في طبقات المياه الجوفية في بعض مناطق المياه العذبة الساحلية. وعلى الرغم من أن ندرة المياه أكثر وضوحًا في بلدان جنوب أوروبا، إلا أنها طالت الآخرين في الاتحاد الأوروبي.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى نقطة هامة، فاتحة أفقًا جديدًا لمناقشة هذه الأزمة من وجهة نظر أوروبية أفريقية، وهي “التقاء الجفافين الأوروبي والإفريقي في ملف الهجرة”، فجاء أول تقرير عالمي عن تأثير الشح المائي على حركة الهجرة بعنوان “بين المد والجزر”، وقد استند إلى تحليل لأكبر مجموعة من البيانات، مستمدة من ١٨٩ تعدادًا سكانيًا في ٦٤ بلدًا، مغطيةً نحو نصف مليار شخص. وتناول هذا التقرير الأحوال في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يعيش 60% من السكان في مناطق تعاني من الشح المائي، وأشارت نتائج البحث إلى أن المياه هي بالفعل أحد مواطن الضعف الرئيسية التي يواجهها سكان المنطقة، ولا سيما النازحين بسبب الصراعات والمجتمعات المضيفة لهم. والصلة الوطيدة بين أزمة المياه والهجرة الأفريقية إلى أوروبا يجب تناولها في ورقة منفردة قادمة.
باحثة بوحدة الدراسات الأوروبية


