اشترطت السعودية في مقابل موافقتها على التطبيع مع إسرائيل مجموعة من الشروط، كان من بينها أهم شرطين، الأول: هو إنشاء برنامج نووي مدني سعودي مكتمل الدورة (أي التحكم في دورة الوقود النووي بأكملها داخل السعودية بما في ذلك إنتاج الكعكة الصفراء)، أما الشرط الثاني هو امتلاك أسلحة نوعية متقدمة أمريكية الصنع.
يدور في إسرائيل حاليًا جدالًا واسعًا حول مسألة رغبة المملكة بامتلاك النووي، كبار المسئولين في الموساد يعتقدون أنّ فائدة الاتفاق مع السعودية أعلى من المخاطرة، في حين يميل الجيش الإسرائيلي إلى التأكيد على الأضرار الأمنية المتوقعة من الاتفاق، كونه قد يُفقد إسرائيل في مرحلة ما تفردها العسكري النوعي في المنطقة.
وبين ما يمكن تسميته بـ “صراع الحسابات” بين القبول والرفض لتلك المسألة في ذهن نتنياهو في الوقت الحالي، يمكن تقدير تلك الحسابات على النحو التالي:
أولا: حسابات الرفض
هناك مجموعة من الاعتبارات السياسية والأمنية التي تخلق نوعًا من الرفض يقترب من اعتباره “خطًا أحمر” لدى الجانب الإسرائيلي من أجل الموافقة على امتلاك السعودية للنووي، وهي:
- عقيدة بيجين
ظهرت هذه العقيدة في ثمانينات القرن الماضي في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق “مناحيم” بيجين” أثناء شن إسرائيل لعملية عسكرية لضرب المفاعل النووي العراقي. ومن حينها تعتبر إسرائيل إنشاء دولة معادية لمفاعل نووي غير سلمي هو “خط أحمر” لا يمكن التنازل عنه، أو الصمت حياله.
- المعارضة الداخلية الحادة
رغم عدم مبالاة حكومة نتنياهو حاليًا بموجة الاعتراضات إزاء مشروع الإصلاح القضائي، لكون تلك الاحتجاجات لم تصل بعد إلى حد “الكتلة الحرجة“، إلا أنّ نتنياهو لا يرغب في الظهور بمظهر المتخاذل حيال أمن إسرائيل. لا سيما وأنّ زعماء المعارضة وخاصّة “يائير لابيد” أعلن بوضوح معارضته على امتلاك السعودية للنووي لما فيه تهديد لأمن إسرائيل النوعي.
يتسق مع ذلك حرص نتنياهو في الآونة الأخيرة كتابة سطر جديد في تاريخ إسرائيل، وهو صياغته لعقيدة أمنية جديدة “عقيدة نتنياهو”، التي تعمّد تسريب تفاصيلها إلى الإعلام الإسرائيلي؛ لزيادة رصيده الشعبي.
- تفلت منظومة الردع من يد إسرائيل
لطالما كانت إسرائيل حريصة على تحويل صراعها مع إيران لمفتاح إقليمي تتحكم من خلاله في معادلات الأمن الإقليمي في المنطقة؛ بهدف توجيه نظر الخليج إليها، والسباق للتحالف معها ضد إيران، وهو ما نجحت فيه إسرائيل لفترة ما.
ولكن يبدو أنّ القيادة السعودية في الآونة الأخيرة تسعى لضبط الأمن الإقليمي عبر حساباتها الخاصة، بعيدًا عن إسرائيل. بدأت في ذلك عبر استئناف التطبيع مع إيران عبر وساطة صينية، ثم في وجه آخر يُصرّح ولي العهد السعودي مؤخرًا أنّ “للسعودية الحق في امتلاك قنبلة نووية في حال حصلت إيران عليها”.
وعليه، ستكون أدوات الردع وضبط معادلات الأمن في يد السعودية كذلك، وليس إسرائيل وحدها، وهو ما يُفقدها وظيفية الصراع مع إيران، التي جعلت الخليج يتطلع للتطبيع معها.
- سباق نووي في المنطقة
تُظهر تصريحات المسئولين الإسرائيليين الرافضين فكرة “سعودية نووية” أنّ اتجاه الرياض لإنشاء مشروع نووي، قد يدفع بدول مصر والإمارات وتركيا لإحياء الفكرة مجددًا، والرغبة في امتلاك برنامج نووي كامل على أراضيها. وهو ما يُدخل المنطقة في منافسة نووية تجعل إسرائيل محاطة بقوى نووية غير تقليدية، وبالتالي ينهار مفهوم التوازن الاستراتيجي في المنطقة.
لا سيما وأنّ السعودية لم تُخفِ رغبتها في تطوير سلاح نووي، يتسق ذلك مع المقاومة السعودية المستمرة لشروط حظر الانتشار النووي الأمريكية، رغم انضمامها إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية في 1988.
بالإضافة إلى ذلك، ستتعرض واشنطن لضغوط شديدة لإجراء استثناء للطلب السعودي، لأنه سيسمح أيضًا للإمارات بإعادة فتح اتفاقها رقم 123 مع الولايات المتحدة، مما قد يؤدي إلى سباق لتطوير قدرات التخصيب في الشرق الأوسط وخارجها.
- تعرض المفاعل السعودي لخطر الحوثيين
بدأت السعودية في انتهاج سياسة خارجية جديدة “صفر مشاكل” من أجل تأمين المنطقة من خطر الصراعات، وبالفعل بدأت في جولة مفاوضات مع الحوثيين لحل الصراع في اليمن.
ولكن في المقابل كشفت جماعة الحوثيين عن صاروخ باليستي متطور نوعًا ما يغطي الأرجاء السعودية، كما تعرضت قوات التحالف العربي إلى عملية إطلاق نيران مكثفة على الحدود اليمنية-السعودية. وعليه، تخشى إسرائيل أن يتعرض المفاعل السعودي لخطر التهديد الحوثي الذي لا توقفه جولات تفاوضية، أو رغبة سعودية لحل الأزمة. وبما أنّ المفاعل الذي تعتزم السعودية إنشاءه سيكون في منطقة نيوم (أقصى شمال غرب السعودية، وأوفر المناطق حظًا على المستوى الأمني والفني) فستكون منطقة النقب في إسرائيل معرضة لتداعيات انفجاره الكارثي المحتمل.
ثانيًا: تكلفة الفرصة البديلة
رغم تكالب الاعتبارات السياسية والأمنية التي تدفع إسرائيل إلى الرفض، إلا أنّ ثمة اعتبارات أخرى تفرض على إسرائيل والولايات المتحدة إعادة النظر في المسألة برمتها، وهي:
- موجات التطبيع
تدرك إسرائيل أنّ نجاح التطبيع مع السعودية سيفتح أمامها بوابة كبيرة لدخول نادي الدول الإسلامية المطبعة معها، وخاصّة في أقصى شرق قارة آسيا مثل: إندونيسيا وماليزيا. وهو ما سيُمكّن إسرائيل من تحقيق معدلات تجارة ضخمة مع تلك الدول يمكن أن تتضاعف في حال نجاح مشروع الممر الهندي-الأوروبي المعلن عنه في مناقشات مجموعة العشرين الأخيرة في الهند.
من ناحية أخرى، تحرص الولايات المتحدة لربط مصالحها في الشرق الأوسط بمصالحها في الإقليم الصاعد في النظام الدولي، وهو “منطقة الهندو-باسيفيك”، لذلك يمكن اعتبار نجاح تطبيع إسرائيل مع دول الخليج والدول الإسلامية في منطقة الهندو-باسيفيك هي مصلحة أمريكية بامتياز.
- مناقصات عالمية لبناء المُفاعل في السعودية
تجري الشركة النووية الوطنية الصينية في الصين، وشركة كهرباء فرنسا، وروساتوم الروسية، وشركة كوريا الجنوبية للطاقة الكهربائية، مناقشات للحصول على عقد لبناء وحدتين للطاقة النووية في المملكة العربية السعودية. وكل الشركات السابق ذكرها تقدم خبرتها الفنية والهندسية دون التزامات سياسية مشروطة بمنع الانتشار النووي. وسبق للسعودية أنّ رفضت مناقصة من شركة ويستنجهاوس الأمريكية في 2022، لذلك سارعت الشركة لعقد شراكة مع شركة كوريا للطاقة الكهربية من أجل إعادة تقديم المناقصة على السعودية التي لا تزال الآن في محل دراسة.
بالفعل تعتزم السعودية فتح مباحثات مع الصين لإنشاء مفاعل نووي على الحدود مع قطر والإمارات على الخليج العربي، ولكن يبدو أنّ المسئولين السعوديين يضغطون على الولايات المتحدة لعدم فرض أي قيود سياسية على السعودية تتعلق بمنع الانتشار النووي، أو ملفات سياسية أخرى. كما أشار معهد واشنطن الأمريكي إلى مباحثات سرية بين السعودية وقائد الجيش الباكستاني لتبادل التكنولوجيا النووية والصاروخية في مستهل هذا العام.
وافقت السعودية على فرض الشفافية ووسائل الرقابة الدولية من قبل وكالة الطاقة الذرية على أنشطتها النووية. لذلك تعتقد الإدارة الأمريكية أنه في حال رفض الكونجرس المشروع النووي السعودي، فستلجأ الأخيرة إلى دول أخرى في آسيا وأوروبا.
- إنجاح مشروع إنتاج الهيدروجين
قدمت الولايات المتحدة مشروع الممر الهندي-الأوروبي الذي يمر بالأراضي السعودية والإسرائيلية ودول أخرى، ويرتبط بذلك الممر مشروعًا لإنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره إلى القارة الأوروبية المتعطشة للطاقة.
يأتي معظم إنتاج الهيدروجين في العالم من مصادر طاقة غير متجددة ذات انبعاثات كربونية، مما يُفقد الإنتاج ملامحه البيئية الخضراء، لذلك تدرس الدول دمج الطاقة النووية في تكسير المياه كهربيًا من أجل انتاج الهيدروجين لتقليل الانبعاثات الكربونية، وهو هدف أمريكي بامتياز في منطقة الشرق الأوسط؛ لذلك يجدر القول إنه من المرجح أن يروج البيت الأبيض أمام الكونجرس بالموافقة على المشروع النووي السعودي لمثل هذا الاعتبار الاقتصادي البيئي.
يوضح الرسم البياني السابق مصادر توليد الكهرباء لدى السعودية، ويتبين أنها لا تتمتع بمصادر متنوعة في توليد الكهرباء وهو ما لا يعكس تطلعها إلى تنويع المصادر حتى 2040، لذلك فإنّ السعودية في حاجة إلى بناء مشروع نووي يساعدها في ذلك التنويع.
ثالثا: متطلبات محتملة
من المحتمل أن تطلب الولايات المتحدة وإسرائيل ضمانات محددة لتحفيز موافقتهما على بناء مشروع نووي سعودي مكتمل الدورة.
- الولايات المتحدة:
لم تبرم المملكة السعودية حتى الآن بروتوكولًا إضافيًا لاتفاقية الضمانات الشاملة الخاص بها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ وذلك بسبب تحفظ الرياض على بعض الشروط الأمريكية فيما يتعلق بمعاهدة منع الانتشار النووي، رغم توقيعها على البروتوكول في 1988.
لذلك، قد يطلب الكونجرس الأمريكي وكذلك البيت الأبيض من المملكة التوقيع على اتفاق الضمان الشامل مع الوكالة، الذي سيكون من شأنه تحسين قدرة الوكالة على التحقيق في المنشئات والأنشطة النووية غير المعلنة، والحق في غلق المنشأة النووية السعودية في حال تضمنت انتشار التكنولوجيا النووية الحساسة، أو تكنولوجيا التخصيب.
بالفعل، أبدت المملكة السعودية على لسان وزيرها للطاقة “عبد العزيز بن سلمان” مؤخرًا على موافقتها تقديم أي ضمان شامل بالتعاون مع الوكالة الدولية لمراقبة النشاط النووي السعودي.
- إسرائيل:
أثبتت الدراسات الدولية في مجال أنظمة التحكم الخاصة بالمنشئات النووية منذ 2016، نجاح نظام “سكادا” SCADA في أن يكون أفضل أنظمة التحكم والمراقبة الخاصة بالمنشئات النووية.
أعلنت إسرائيل في 2023 نجاح تطوير منظومة القبة الحديدية السيبرانية الإسرائيلية CYBER DOME وهو الاسم التجاري للمنظومة، بينما الاسم الفني هو “قبة سكادا” أو SCADA DOME. وتقوم فكرة المنظومة على استخلاص كافة البيانات من المنشأة، ومراقبة تدفقها ومعالجتها من أجل تقديم الحماية السيبرانية لسد الثغرات التي قد تتعرض لها المنشأة، فيمكن استغلالها في تطوير هجمات واختراقات الكترونية.
لذلك من غير المستبعد أن تعرض إسرائيل على السعودية منظومة القبة السيبرانية من أجل مراقبة النشاط النووي في المفاعل السعودي.
صورة توضيحية لعمل المفاعل النووي على نظام التحكم “سكادا”
ختامًا، يمكن القول إنّ إسرائيل لم تصغ موقفًا نهائيًا بعد (حتى تاريخ كتابة المقال) حيال الموافقة، أو رفض المشروع النووي السعودي؛ وذلك بسبب اشتمال المسألة على مكاسب استراتيجية مهمة لإسرائيل وللولايات المتحدة كذلك، وأضرارًا أمنية حساسة أيضًا. لذلك من المحتمل أن تعرض إسرائيل والولايات المتحدة متطلبات أكبر في شكل ضمانات لتحفيز عملية الموافقة، لا سيما وأنه سيكون أمام إدارة بايدن جهد سياسي غير عادي مع الكونجرس لدفعه على الموافقة.
تجدر الإشارة إلى أنّ الموافقة الإسرائيلية الأمريكية حيال المشروع النووي السعودي لا تعني بالضرورة الدخول في مرحلة التطبيع النهائي بين السعودية وإسرائيل، بل من المحتمل أن تتبقى مسألة أخرى تتعلق بالموافقة على شراء طائرات إف-35 المتقدمة وغير منزوعة القدرة الكاملة، والذي قد يهدد في هذه الحالة التفوق النوعي لسلاح الطيران الإسرائيلي.
باحث بوحدة الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية