ظلت الولايات المتحدة طيلة أشهر ترتب لإطلاق مشروع إقليمي، يجمع الهند والدول الخليجية (الإمارات والسعودية) بجانب الأردن، وإسرائيل، بالقارة الأوروبية. وعليه تقرر في اجتماع مجموعة دول العشرين مؤخرًا توقيع المشروع، واصفة الولايات المتحدة إياه بـ”التاريخي”، والمساهم في تعزيز السلام والازدهار في الشرق الأوسط.
تدور حول المشروع مجموعة ضخمة من الأسئلة التي تتعلق بطبيعته، والدوافع المحيطة به، والتحديات التي تدخل في حسابات جدوى تحققه، واستقراره.
أولًا: طبيعة المشروع
حسب البيانات الرسمية والتصريحات السياسية حتى الآن، يمكن التقدير بأنّ المشروع يشمل ثلاثة مسارات من المزمع إقامتها على ثلاث مراحل تباعًا.
* أما المسار الأول (المسار التجاري): وذلك أيضًا يشمل ثلاثة مسارات مجتمعة، (1) المسار البحري: يبدأ من غرب الهند حيث ميناء مومباي، وإقليم جوجارت، عبر بحر العرب، وخليج عمان لينتهي في ميناء جبل علي في دبي الإماراتية. (2) سكك حديدية تبدأ من الإمارات، وبالتحديد في “البطحاء” (أقصى نقطة في شمال غرب الإمارات)، ليتداخل في شبكة السكك الحديدية السعودية، وبالتحديد في مدينة “حرض”، ثم يقطع السعودية طوليًا ليصل إلى مدينة “الحديثة” على الحدود مع الأردن، ثم من الأردن إلى معبر الشيخ على الحدود مع إسرائيل، ثم إلى مستوطنة “بيت شان” الإسرائيلية، ثم إلى ميناء حيفا المطل على البحر المتوسط.
(3) مسار بحري إضافي: يبدأ من ميناء حيفا الإسرائيلي (المملوك لشركة أداني الهندية، والقريبة من النظام الحاكم) إلى الموانئ الأوروبية، وبالتحديد في إيطاليا.
* أما المسار الثاني (المسار التكنولوجي): من المزمع ربط الدول المذكورة في المشروع (الهند، والدول الخليجية الإمارات، والسعودية، بجانب الأردن، وإسرائيل بالقارة الأوروبية) بكابلات ألياف ضوئية لتعظيم الاقتصاد المعرفي-الرقمي. وهو ما قد يستتبعه في المستقبل تعاون رقمي مشترك بين دول المشروع في مراكز البيانات وإدارتها.
*أما المسار الثالث (المسار الطاقوي): يشمل المشروع ربط الدول المذكورة بأنابيب طاقة تعزز الاقتصاد الأخضر في قطاع الكهرباء والهيدروجين الأخضر.
ثانيًا: دوافع المشروع
يرتبط المشروع المقترح بين الدول المذكورة، ومعهم الولايات المتحدة بمجموعة من الدوافع، التي قد ترسم أبعاد المشروع، وهي كالتالي:
- إرباك التعاظم الصيني:
تسببت أزمة كوفيد-19، وأزمة الحرب الروسية الأوكرانية في ضرب استقرار سلاسل الإمداد والتوريد حول العالم، مما أثر بالسلب على الممرات الملاحية، لذلك تسابقت الصين والولايات المتحدة إلى إعادة هندسة سلاسل الإمداد والتوريد، عبر إقامة تحالفات وتكتلات إقليمية، سياسية، واقتصادية جديدة.
تستهدف الولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية، وكذلك الهند، من ذلك المشروع إقامة تكتل سياسي-اقتصادي بين الدول المعنية؛ لخلق مسار ملاحي جديد؛ كمحاولة لعرقلة مشروع طريق الحرير الصيني. وهو ما يفسر سبب غياب الصين عن اجتماع مجموعة العشرين.
علاوة على أنّ المشروع يتسق زمنيًا مع إعلان مجموعة البريكس (روسيا والصين) دعوة السعودية، وإيران، ومصر، للانضمام إلى التكتل؛ الذي طغت عليه الحسابات الجيوسياسية المتعلقة بسلاسل الإمداد والتوريد، ونقاط تمركز المراكز اللوجستية في مصر، والسعودية، مع الهند.
لذلك تضع الولايات المتحدة دمج الهند في الاقتصاد العالمي بديلًا عن الصين، عبر ضخ الاستثمارات في مجالات الطاقة، والغذاء، والتكنولوجيا مما يؤهل للاقتصاد الهندي بأن يتفوق على الاقتصاد الصيني في مرحلة ما، لا سيما وأنّ الصين قد تواجه تحديات اقتصادية جديدة في المستقبل المنظور، حسب بعض التقديرات الاقتصادية.
- تنظيم الصعود الهندي:
تهدف الولايات المتحدة لتنظيم الصعود الهندي، وفق مسارات محددة تخدم المصالح الأمريكية في منطقة الهندو-باسيفيك؛ يرجع ذلك إلى الرصد الأمريكي للتقارب الهندي الروسي مؤخرًا لا سيما بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
انعكس التقارب الهندي الروسي على سبيل المثال في مجال النفط باستخدام العملة المحلية، والتجارة، خاصّة ذلك المجال الأخير الذي وافقت عليه الهند عبر خلق ممر ملاحي “ممر الشمال-الجنوب” عبر إيران ودول آسيا الوسطى، يسمح بتصدير البضائع الهندية إلى روسيا، ومنه إلى السوق الأوروبية.
لذلك عملت الولايات المتحدة على جذب الهند إلى شبكة حلفائها وأبعادها، عن الخريطة الروسية والإيرانية كذلك، من خلال ممرات ملاحية جديدة تصب في صالح الاقتصاد الهندي. إذ أنه من المتوقع أن تصل الصادرات الهندية إلى الإمارات فقط بمعدل 50 مليار دولار في السنوات المقبلة، وفي حال نجاح المشروع فقد تصل الصادرات الهندية إلى سوق الخليج، وإسرائيل، والسوق الأوروبية بما يزيد عن 250 مليار دولار.
بالنظر إلى الصورة السابقة، يتبين أنّ المشروع يسهم في تعظيم الصادرات الهندية إلى السوق الخليجية، وإسرائيل، كذلك تركيا (المستبعدة من المشروع)، والسوق الأوروبية على رأس تلك القائمة.
- تطويق إيران:
ترتبط تلك النقطة بالنقطة السابقة، إذ وجدت الولايات المتحدة أنّ الهند لا ترغب في وضع نهاية لعلاقتها القوية بالأساس مع إيران، وهو ما لا يخدم مصالح أمن إسرائيل في المنطقة، إذ تستفيد إيران من المشاريع الإقليمية المقترحة بين روسيا والهند، مثل ممرات ملاحية، ومشاريع طاقة، وبنية تحتية.
لذلك أنه في حال نجاح المشروع فمن المحتمل أن ترجئ الهند تطويرها لميناء تشابهار الإيراني، وتعزز من صادراتها إلى ميناء جبل علي في دبي، وميناء “صحار” العماني الذي تستثمر فيه الهند بالفعل مؤخرًا.
- دمج إسرائيل في خريطة المنطقة الاقتصادية:
تدرك الولايات المتحدة أنّ سياسة التطبيع بين إسرائيل، ودول المنطقة قد يستتبعها شروط سياسية باهظة الثمن على حساب الأمن القومي الإسرائيلي، والأمن القومي الأمريكي، على حد سواء، وهو ما ظهر في شروط السعودية للقبول بالتطبيع مع إسرائيل.
لذلك بحثت الولايات المتحدة دمج إسرائيل وسط حسابات تكاملية على الصعيد الاقتصادي، وعلى مستوى البنية التحتية في مجالات الطاقة، والتكنولوجيا، والتجارة، الذي ينعكس تمامًا في المشروع المقترح.
واقرا أيضاً : ورقة ضغط: مآلات تسارع العلاقات الاقتصادية بين أمريكا وتايوان على الصين
ثالثًا: ملامح واقعية لتحديات محتملة
تدرك الولايات المتحدة أنّ المشروع المقترح لا يسير على طريق ممهدة، خاصّة على أرض منطقة الشرق الأوسط الزاخرة بالصراعات، والتحديات الشاملة للمستوى السياسي، والاقتصادي، والأمني. يمكن تقدير أبرز التحديات المحتملة، التي تشمل ملامح ومؤشرات فعلية، على النحو التالي:
- الرفض الإيراني:
بعد نجاح الصين في تطبيع العلاقات رسميًا بين السعودية وإيران، إلا أن المرحلة الجديدة لم ترسم نهاية للمناوشات الإيرانية تجاه السعودية. إذ برز الحرس الثوري الإيراني كفاعل صريح في أزمة ترسيم حقل النفط، والغاز “درة” بين الكويت والسعودية.
كما تستمر إيران في إرباك الأمن الإقليمي لمنطقة الخليج العربي، وخاصّة من جهة بحر العرب، وخليج عمان، ومضيق هرمز، الأمر الذي تسبب في إعلان انسحاب الإمارات من تحالف الولايات المتحدة مؤخرًا؛ كونه لم يعد ضمانة نهائية لفرض الاستقرار في المنطقة.
لذلك، من المحتمل أن يستمر الحرس الثوري الإيراني في إرباك حسابات أمن الممرات الملاحية في مضيق هرمز، خاصّة في حال أضيفت إليها مسارات العلاقة بين إيران والولايات المتحدة في الملف النووي. ربما يفسر ذلك تنازل الولايات المتحدة بعقد اتفاق ضمني مع إيران مؤخرًا، في تبادل السجناء، ورفع جزء من العقوبات الاقتصادية.
- التوتر السعودي – الأمريكي:
تلوح في الأفق ملامح توتر بين المملكة السعودية والولايات المتحدة، إذ تهدف الأخيرة لتقييد علاقة السعودية بالصين بالتحديد. كان قد صرّح وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان: أنّ السعودية تسعى للتعاون مع الصين وليس لمنافستها، قائلًا إنه لا يلتفت لانتقادات الغرب بشأن تنامي العلاقات الصينية السعودية. وفي موضع آخر كانت السعودية أعلنت عن رغبتها في تعظيم الاستفادة من طريق الحرير الصيني، وطريق التوابل الهندي، وهو ما يعني أن السعودية تحيد نفسها عن تحالفات استقطابية تصب في صالح طرف على حساب آخر.
وهو ما يعني أنّ السعودية لن تحقق الدافع الأساسي للولايات المتحدة بمحاولة تضييق هوامش اتساع الاقتصاد الصيني في العالم، وهو ما قد يُنذر بمزيد من التوتر في العلاقات السعودية الأمريكية مستقبلًا.
- الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي:
تسعى إسرائيل لإقامة مشروع ربط سكة حديدية مع الأردن تبدأ من مستوطنة “بيت شان” (شمال الضفة الغربية) إلى معبر الشيخ حسين الأردنية، وإقامة منطقة صناعية مشتركة مع الأردن تحت اسم “بوابة الأردن”. يفسر ذلك السباق الإسرائيلي لتحييد تنظيمات المقاومة الفلسطينية المسلحة في “جنين” و”طولكرم”، بل يفسر أيضًا سبب دراسة الحكومة الإسرائيلية لإعادة استيطان منطقة شمال الضفة الغربية؛ بهدف تأمين الحيز الجغرافي للمشروع الاقتصادي الإسرائيلي الأردني من المقاومة الفلسطينية.
ولكن في المقابل، أعلن حزب الله اللبناني تكثيف تموضعه العسكري في جنوب لبنان، وجنوب سوريا في مواجهة إسرائيل؛ في إشارة إيرانية مؤداها تطويق إسرائيل، ومشاريعها المستقبلية في الحدود الأردنية الإسرائيلية الشمالية.
يُفسر ذلك، الاستياء الأمريكي الصريح تجاه الحكومة الإسرائيلية بتسويف التسوية المالية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في ملف المقاصات الضريبية وتمويل السلطة؛ لتعزيز مكانته في الضفة الغربية، وبالتحديد في شمال الضفة. ولكن يبدو أنّ حسابات الوزراء الإسرائيليين المحسوبين على التيار المتطرف يضغطون على “نتانياهو” لرفض التسوية المالية.
- التوتر الأردني تجاه إسرائيل:
يتسبب التطرف الإسرائيلي المتمثل في زيادة وتيرة اقتحامات المستوطنين للمقدسات الإسلامية التابعة للوقف الأردني الهاشمي، في زيادة التوتر الحاصل بين المملكة الأردنية وإسرائيل؛ مما يدفع الرأي العام الأردني للضغط على الملك الأردني، بوقف أي تعامل سياسي أو اقتصادي مع اسرائيل.
علاوة على أنّ منطقة إربد الحدودية مع إسرائيل التي ستشهد المشاريع المشتركة مستقبليًا مع إسرائيل، هي منطقة قبلية ترزح تحت سيطرة عوائل قبلية أردنية (يربطها بالتاج الهاشمي عقد اجتماعي مشروط يتجدد سنويًا)، وتجاهر تلك القبائل بالعداء تجاه إسرائيل.
لذلك، من المرجح أن تتعرقل المشروعات الإسرائيلية الأردنية المشتركة، مثل: وصلات السكك الحديدية بين الأردن وإسرائيل، ومشروع “المياه مقابل الكهرباء”، ومشروع “بوابة الأردن”.
- غموض الميزانية الإسرائيلية:
كما أُشير سابقًا فإنّ المحطة الأخيرة للمشروع المقترح ستكون عبارة عن خط سكك حديدية يقطع إسرائيل عرضًا من بيت شان إلى ميناء حيفا، كما تهدف إسرائيل لتمويل مشروع “إسرائيل الموحدة” وهو مشروع إنشاء شبكة سكك حديدية تشمل أرجاء إسرائيل من الشمال حتى الجنوب وعلى ضفاف البحر المتوسط شرقًا، وخصصت لتمويله 100 مليار شيكل (27 مليار دولار).
بالنظر إلى تطور الميزانية الإسرائيلية، وخاصّة بنود الأخيرة لعام 2023-2024؛ لا يمكن التقدير بأنها تُنبئ بنجاح إسرائيل في تخصيص التمويل؛ لا سيما مع إلحاح الجيش الإسرائيلي بزيادة مخصصاته الدفاعية، لتمويل مشروعات تصنيع قطع عسكرية غير مأهولة، وعقد التدريبات، والمناورات العسكرية المشار إليها في خطة “تنوفا” الخمسية.
كما يواجه نتانياهو ضغطًا سياسيًا بتخصيص المزيد من المال لصالح إنشاء المستوطنات، وتمويل مشروع “الحرس الوطني” التابع لوزير الأمن العام المتطرف “إيتامار بن جفير”.
كما تواجه الميزانية ضغطًا سياسيًا حادًا جراء هروب بعض الاستثمارات الأجنبية المباشرة في قطاعات التكنولوجيا الفائقة؛ بسبب مشروع الإصلاح القضائي الذي يستهدف وجه إسرائيل، وينذر باستقطاب مجتمعي حاد يؤثر على استقرارها الأمني.
لذلك تتقيد ميزانية إسرائيل بضرورة العمل على تعظيم الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خاصّة من الصناديق السيادية الخليجية (خاصّة الإماراتية) لتعويض الإنفاق الحكومي الضعيف نوعًا ما.
واقرا أيضاً : هل يصبح الاقتصاد الهندي نمراً آسيوياً صاعداً؟
- الموقف التركي:
ترفض السياسة الخارجية التركية الصمت حيال مشاريع إقليمية إقصائية، إذ انعكس ذلك في الموقف التركي من مشروع الايست ميد الذي هدف إلى ربط إسرائيل، وقبرص، واليونان بالغاز الطبيعي؛ مما دفعها سريعًا لتوثيق تحالف سياسي مع حكومة غرب ليبيا المنتهية ولايتها، وترسيم الحدود البحرية بينها وبين ليبيا في الشرق.
لذلك، من المحتمل ألا تؤثر تركيا الصمت حيال تنفيذ المشروع، وهو ما انعكس في تصريح الرئيس التركي “أردوغان” الذي رفض فيه المشروع، وذكر أنّ تركيا أكثر ملاءمةً له.
قد يتحدد رد الفعل التركي على بعض الجوانب السياسية والاقتصادية، وهي إعادة دراسة فرص مشروع “ممر التنمية” العراقي التركي الذي يشبه في كثير من مساراته المشروع الأمريكي، كما سيدفع تركيا لإيجاد موازنة استراتيجية بين روسيا والولايات المتحدة.
ختامًا، يمكن القول إن الاعتبارات السياسية تغلب المنطق الاقتصادي للمشروع المقدم من الولايات المتحدة. كذلك تبرز تحديات جادة في الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية للمشروع. يمكن الإشارة إلى أن مسئولية تأمين الممر الملاحي -وهو أحد مسارات المشروع- ستحتاج إلى جهود كبيرة لتأمينه، إما عن طريق تكثيف وجود البحرية الأمريكية (الذي يتعزز بالفعل)، أو عن طريق تنظيم تحالف أمني موسع في المنطقة، يعتمد على تكنولوجيات عسكرية جديدة.