تستمر احتجاجات الشارع الإسرائيلي للأسبوع السابع والثلاثين على التوالي، ضد مشروع الإصلاح القضائي الذي قدمته حكومة نتنياهو، ورغم ذلك لا تأبه الحكومة كثيرًا باستمرار الاحتجاج، وبالمطالب السياسية الداعية لوقف المشروع، بل على النقيض تمامًا؛ إذ تستمر التلميحات السياسية من الوزراء المحسوبين على التيار اليميني المتطرف باستمرار المشروع رغم كل معارضة.
يُثار السؤال حول أسباب لا مبالاة حكومة نتنياهو، وشعوره بالأمان حيال استقرار حكومته رغم استمرار الاحتجاجات.
أولًا: الكتلة الحرجة وتأثيرها على الاستقرار السياسي
لا يَخلو أي مجتمع من الكتل الحرجة، وهي فئات محددة من المجتمع تتبنى أيديولوجية وموقف سياسي، أو اقتصادي تجاه الدولة والنظام الحاكم. تختلف الكتلة الحرجة عن أي فئة مجتمعية أخرى بأنها تستطيع التأثير على صناعة القرار وتوجيه موجات التغيير (سواء كانت سياسية، أو اقتصادية، أو مجتمعية) داخل الدولة، كما أنّ لها وزنًا وحجمًا تراكميًا مطلوبًا حتى تصل إلى درجة الكتلة الحرجة. كما تختلف الكتلة الحرجة عن “اللوبي” حيث يدفعها مذهب وطني لا يتحدد بالمال، عكس “اللوبي” الذي يُدير التغيير داخل مؤسسات الدولة في مقابل المال.
الكتلة الحرجة في علم الاجتماع وحركة المجتمعات لا تتكون مرة واحدة، إنما لها دلائل ومقدمات تراكمية حتى تصل إلى الوزن والحجم الحرج المطلوب، إما (1) للتغيير، أو (2) إدارة الدولة، أو (3) تأمين استمرار الحكم.
(*) لا يختلف الحال داخل المجتمع الإسرائيلي، إذ على طول التاريخ سيطرت مجموعات محددة على قائمة الكتل الحرجة الإسرائيلية.
يمكن قياس الكتلة الحرجة في إسرائيل عبر رصد التأثير السياسي لها، أي الموقف الذي تبنته، وعلى إثر ذلك قاد إلى نتيجة تحقيق مطلبه.
يمكن رصد تاريخ الاحتجاجات في إسرائيل، وتقدير تأثيرات الكتل الحرجة المشاركة في تلك الأحداث المهمة، وبيان الموقف النهائي جراء مشاركاتهم (عبر الجدول الموضح أدناه).
إعداد: الباحث
(*) يمكن استخلاص مجموعة من الملاحظات الأساسية، وهي:
1- أنّ الاحتجاجات التي سبقت حرب أكتوبر 1973 انتهت جميعها بالفشل، وتم إخماد الاحتجاج رغم أهمية الأسباب التي قادت إلى الاحتجاج، ورغم تواتر الاحتجاجات الواحدة تلو الأخرى في مدة زمنية قصيرة نسبيًا.
2- تسببت الهزيمة في حرب أكتوبر “صدمة اجتماعية وسياسية” في إسرائيل؛ على إثرها أصيبت المؤسسات الإسرائيلية بالهشاشة تجاه الاحتجاجات الإسرائيلية، خاصّة تلك التي تضمنت ضباطًا من الجيش الإسرائيلي، أو اليهود الأرثوذكس والمتطرفين القوميين.
3- بالنظر إلى تاريخ الاحتجاجات يتبين أنّ مشاركة ضباط الجيش الإسرائيلي كانت لها التأثير الأكبر في النتائج اللاحقة، إذ تسببت مشاركة الجيش في احتجاجات ما بعد الهزيمة في حرب أكتوبر إلى استقالة حكومة “جولدا مئير”، وتعيين “إسحاق رابين” بديلًا حتى الانتخابات.
كذلك الاحتجاج في 1990، الذي قاد إلى سن قانون جديد “قانون الانتخاب المباشر” في 1992. علاوة على احتجاج 2006 الذي اضطر الحكومة لتشكيل لجنتي فحص وتفتيش داخل الحكومة ذاتها، وداخل الجيش الإسرائيلي. ويتضح الأمر كذلك في احتجاجات المخيمات في 2011 التي شارك فيها كل فئات المجتمع الإسرائيلي، بما فيهم أفراد الجيش الإسرائيلي.
** وهو ما يدفع إلى القول إنّ مشاركة الجيش الإسرائيلي في أي احتجاج يكون له التأثير السياسي الأكبر، مقارنة بمشاركة أي فصيل مجتمعي آخر، وهو ما أكسب الجيش الإسرائيلي صفة “الكتلة الحرجة”.
4- يتبين أنّ مشاركة المجتمع الحريدي الأرثوذكسي واليميني القومي في الاحتجاجات الإسرائيلية على طوال التاريخ، كان لها التأثير السياسي الملحوظ، لا سيما بعد هزيمة إسرائيل في حرب أكتوبر 1973، وتأسيس ما يعرف بـ”حركة جوش إيمونيم” الحركة الاستيطانية الأولى في تاريخ إسرائيل.
5- يمكن القول إنّ خريطة الكتل الحرجة في المجتمع الإسرائيلي -خاصّة في العقد الأخير- هي أنّ الجيش الإسرائيلي يحتل المرتبة الأولى، بينما يحتل المجتمع الاستيطاني الحريدي والقومي المرتبة الثانية. وهو ما يفسر أمرين: (الأول) ميل نتنياهو زعيم حزب “الليكود” لتبني المذهب اليميني المتطرف. (الثاني) اندفاع المجتمع الإسرائيلي لرفض إقالة وزير الدفاع “جالانت”، والضغط لإعادته إلى الوزارة مرة أخرى.
ثانيًا: احتجاجات 2023.. هل تُشكل خطرًا؟
منذ يناير 2023، ويخرج 200 ألف إسرائيلي أسبوعيًا إلى الشارع تحت اسم “قوة كابلان” (نسبة إلى ميدان كابلان في تل أبيب) احتجاجًا على تحويل نتنياهو إسرائيل إلى ديكتاتورية عبر تمرير مشروع الإصلاح القضائي، الذي يهدف إلى تحويل إسرائيل لدولة يهودية قومية، وليست ديموقراطية (حسب روايتهم).
(*) في المرحلة الأولى، كانت الأغلبية المشاركة في الاحتجاجات من تيار اليسار الوسط، وتيار اليسار المتشدد، وخاصّة العلماني. وهو ما دفع الحكومة لوصمها باعتبارها حركات تهدف منح الفلسطينيين دولة مستقلة على حدود إسرائيل، ولم تكتسب الاحتجاجات آنذاك زخمًا كبيرًا.
(*) في المرحلة الثانية، استشعرت القيادات العسكرية الإسرائيلية وعلى رأسهم وزير الدفاع “يؤاف جالانت” ورئيس الأركان “هرتسي هاليفي” الخطر من مشروع الإصلاح القضائي، الذي قدمته الحكومة الإسرائيلية في يناير 2023. وذلك لسببين: (الأول) هو أنّ المشروع يستهدف تمكين “المستوطن” في المرتبة الأولى في قائمة الكتل الحرجة على حساب الجيش الإسرائيلي؛ مما يحول وجه المجتمع الإسرائيلي من مجتمع متعدد إلى مجتمع إقصائي. (الثاني) هو اتجاه الحكومة الإسرائيلية لتسليح المستوطنين، مما يحولهم إلى حركة شبه منظمة ومسلحة. لذلك مال تقدير الجيش الإسرائيلي بنذر حرب أهلية قد تلوح في المستقبل.
(*) في المرحلة الثالثة، بدأت جموع من جنود الاحتياط داخل الجيش الإسرائيلي تشترك في الاحتجاج عبر تقديم عرائض رافضة، أو عدم الذهاب إلى التدريبات، مثل: ضباط سلاح الجو، ضباط الوحدات الاستخباراتية السيبرانية. حينها استشعر نتنياهو الخطر على استمرار حكومته؛ لذلك وجّه بسرعة إدارة أزمة تمرد الاحتياط لعدم اتساع موجة الأزمة.
نجح نتنياهو في احتواء مؤقت لموقف الجيش الإسرائيلي عبر المساومة، بطرح قانون التجنيد الإلزامي في مقابل انسحاب الجيش من المشهد السياسي. وعليه؛ بدأت أزمة تمرد الاحتياط تخفت تدريجيًا، بعد أن حصل الجيش الإسرائيلي على ضمانةٍ، مؤداها هو تجنيد “الحريديم” في الجيش الإسرائيلي.
(*) يعود سبب موافقة الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من المشهد السياسي الاحتجاجي؛ هو تفضيله الهدوء المؤقت حاليًا لحين تمرير مشروع قانون التجنيد الإلزامي، ودمج “الحريديم” في الجيش. إذ يدرك الجيش الإسرائيلي سرعة اكتساب “الحريديم” والمستوطن “القومي” صفة الكتلة الحرجة في المجتمع الإسرائيلي. ولذلك يريد الجيش الإسرائيلي أن يضمن أن يكون ذلك التأثير المتنامي ضمن مؤسسته، وليس ضمن مؤسسات مدنية بعيدة عن تأثيره.
وهو ما يفسر سبب رفض الجيش الإسرائيلي لتشكيل ما يسمى بـ “الحرس الوطني”، وهي منظمة مدنية من المستوطنين ومسلحة، ولا تتبع الجيش الإسرائيلي هيكليًا أو إداريًا، بل تتبع إدارة وزارة الأمن العام التي يترأسها المتطرف “إيتامار بن جفير”.
ثالثًا: مؤشرات قياس المستقبل في إسرائيل
يمكن التقدير بأنّ قانون التجنيد الإلزامي في إسرائيل، وقضية تجنيد الحريديم يقع ضمن أهم مؤشرات قياس احتمالات استقرار حكومة “نتنياهو” من عدمها. كما يتقيد بقاء الحكومة الإسرائيلية الحالية في الحكم على شكل صياغة القانون، الذي سيُقدم إلى الكنيست في المستقبل المنظور.
جدير بالذكر أنّ الأحزاب الحريدية اليمينية القومية ترفض الامتثال لموقف الجيش الإسرائيلي بالتجنيد الإلزامي للحريديم ودمجهم في الجيش. وهو ما يمكن تفسيره من خلال اقتراب “الكتلة الحرجة”، وهو أنّ الحريديم يرغبون في استكمال مشروع تمكينهم في المرتبة الأولى في قائمة الكتل الحرجة في إسرائيل.
يمكن تقدير المؤشرات الحاكمة لقياس مستقبل الحكومة الإسرائيلية فيما بعد، بالشكل التالي:
- صياغة مشروع قانون التجنيد: إذ يُشترط أنّ يحقق المساواة في عبء التجنيد على كل الإسرائيليين؛ لضمان سيطرة الجيش على المجتمع الإسرائيلي.
- موقف الأحزاب الدينية والقومية في الائتلاف الحكومي: إذ يُشترط أن تقدم تلك الأحزاب موقفًا مرنًا تجاه مسألة التجنيد لضمان استمرار الحكومة، واستكمال المشروع الصهيوني القومي.
- موقف الجيش الإسرائيلي من القانون: إذ يعلن الجيش الإسرائيلي موقفًا صارمًا تجاه ضرورة دمج الحريديم في الجيش، لضمان الحفاظ على هيكل الجيش، والسلامة المجتمعية في إسرائيل.
بالنظر إلى تلك المؤشرات، يمكن القول إنّ تمرير قانون رشيد للتجنيد في إسرائيل يشكل مصلحة حيوية للجيش الإسرائيلي من أجل: (1) عدم سقوط حكومة نتنياهو، والدخول في متاهة الانتخابات العامة، وتشكيل الائتلافات. (2) الحفاظ على الجهوزية العسكرية للجيش الإسرائيلي في مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة من كل الجبهات (سوريا، ولبنان، وغزة، والضفة).
كما أنّ تقديم موقف مرن من قبل الأحزاب الدينية في الحكومة تجاه مسألة التجنيد يمثل مصلحة حيوية لضمان استمرار الحكومة، والمشروع الصهيوني الديني القومي المتمثل في الاستيطان.
لكن في واقع الأمر، يبدو أنّ هناك ضغطًا إقليميًا ودوليًا، خاصّة من الجانب السعودي الذي ألمح إلى فشل مسار التطبيع، بسبب تطرف الحكومة الإسرائيلية، وعدم نيتها تقديم تسوية سلمية. كذلك من الجانب الأمريكي الذي يرصد تطور مشروع الإصلاح القضائي، وسياسات الحكومة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين.
ختامًا يمكن القول، إنّ مفهوم “الكتلة الحرجة” هو مفهوم سياسي يمكن استخدامه في قياس مدى استقرار النظام السياسي أمام الثورات والاحتجاجات. أما ما يجري في إسرائيل حاليًا فهو صراع سياسي على تصدر قائمة الكتل الحرجة، خاصّة بين الجيش الإسرائيلي والمستوطنين. وألقى ذلك الصراع بظلاله على قضية التجنيد في إسرائيل، كما قد تلوح نُذره على مستقبل الحكومة الإسرائيلية الحالية.