العدوان الغاشم الذي تشنه قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 8 أكتوبر 2023، على خلفية اتهام عناصر من فصائل المقاومة الفلسطينية بمهاجمة مستوطنات وبلدات تابعة لإسرائيل في منطقة ما يعرف بغلاف غزة، كشف عن ازدواجية فاضحة في تطبيق معايير حقوق الإنسان من جانب الحكومات الغربية والمنظمات الحقوقية الكبرى ذات الشهرة العالمية.
فعلى الرغم من أن هذه الحكومات والمنظمات تسارع إلى تبني مواقف حقوقية بالغة الحدة وتقود حملات دعائية سلبية ضد الكثير من الدول العربية بدعوى وجود انتهاكات لحقوق الإنسان، إلا أن مواقفها المعلنة من الممارسات الإسرائيلية الأخيرة التي تتضمن جرائم حرب واضحة وانتهاكات أكثر قسوة لحقوق الإنسان والشعب الفلسطيني كانت مواقف متخاذلة، بل وداعمة أو مبررة للجرائم الإسرائيلية، وتخطت بعض الدول الأوروبية مربع تبرير ودعم الجرائم الإسرائيلية إلى مربع الاعتداء على حق مواطني هذه الدول والمقيمين على أرضها بصورة شرعية في التعبير عن الرأي والتجمع السلمي.
نرصد في هذه الورقة أهم ردود الفعل الغربية الصادرة عن حكومات ومنظمات حقوقية غير حكومية على مدار الفترة من 9 إلى 12 أكتوبر 2023، ونقدم تحليلًا لهذه المواقف من منظور معايير حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، ونسلط الضوء على ما يمكن اعتباره مشاركة من هذه الدول والمنظمات في تشجيع إسرائيل على ارتكاب المزيد من الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان، وتواطؤًا في فرض عقاب جماعي على مواطني قطاع غزة المحاصر منذ نحو 16 عامًا، كما نستشرف في هذه الورقة التأثيرات المحتملة للمواقف الغربية الأخيرة على مستقبل فاعلية وتأثير دورها في دعم والمطالبة بتنفيذ التزامات حقوق الإنسان بدول الجوار العربي.
ردود الفعل الغربية.. دعم إسرائيل على حساب معايير حقوق الإنسان
شهدت الأيام الماضية تصاعدًا كبيرًا في ردود الفعل وإعلان المواقف السياسية من جانب الدول الغربية فيما يتعلق بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وما سبقها من هجوم مسلحين فلسطينيين على مستوطنات إسرائيلية، وقد جاءت ردود الفعل السياسية في معظمها مناقضة لمعايير حقوق الإنسان ومبررة للعدوان الإسرائيلي ومشجعة لارتكاب مزيد من الانتهاكات. ويمكن أن نرصد ذلك في النقاط التالية:
أولًا- اجتزاء الحقائق والقفز على المقدمات لتبرير الانتهاكات الإسرائيلية:
اتسمت المواقف الحكومية المعلنة للدول الغربية وكذلك معالجة منظمات حقوقية كبرى مثل هيومان رايتس ووتش بقدر كبير من المغالطة والقفز على الحقائق وإغفال المقدمات والسياقات الأساسية التي قادت إلى الوضع الراهن الذي يعيشه الشعب الفلسطيني في غزة، ويمكن إبراز أهم ملامح هذه المعالجات وردود الفعل في النقاط التالية:
- التجاوز عن أصل الأزمة الحالية وجذورها التاريخية المتمثلة في استمرار الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني للأراضي الفلسطينية وتقويضه المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
- إغفال المعاناة التاريخية للشعب الفلسطيني المحاصر في غزة، والذي يعيش في أكبر سجن مفتوح في العالم منذ ما يقرب من 16 عامًا متصلة، حيث تحاصر إسرائيل قطاع غزة بكل الوسائل وتحد من حرية حركة مواطنيه، وتفرض معاناة يومية على دخول السلع والبضائع، مما يجعل أهالي غزة يعيشون في أزمة مستمرة في الإمداد بالخدمات والوصول لفرص العمل وتأمين احتياجاتهم المعيشية.
- عدم التطرق لاستمرار عدوان إسرائيل على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة وبناء المستوطنات غير القانونية والمبالغة في استخدام وسائل الفصل العنصري.
- التغافل عن الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على المقدسات العربية في القدس الشرقية، والتي تبرز في شكل اقتحامات متكررة من قوات إسرائيلية مسلحة ومن شخصيات سياسية وحكومية للحرم القدسي الشريف.
- عدم انطلاق المعالجات -التي يفترض أنها تحترم الشرعة الدولية- من حقيقة انتهاك إسرائيل لمجموعة كبيرة من قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن منذ عام 1948 حتى الآن، وأهمها قرارات مجلس الأمن أرقام: 194 لسنة 1948 المتعلق بحق عودة اللاجئين، وقرار 248 لسنة 1968 القاضي بانسحاب إسرائيل من المناطق التي احتلتها بالقوة عام 1967، وقرار 271 لسنة 1969 القاضي بإلغاء أي إجراءات لتغيير وضع القدس، وقرار 2334 لعام 2016 الذي يحث على وضع نهاية للمستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
- عدم التعرض للمأساة المستمرة للأسرى الفلسطينيين القابعين في سجون إسرائيل، والذين بلغ عددهم عام 2023 نحو 5200 أسير من بينهم نساء وأطفال ومحتجزون بقرارات اعتقال إداري دون الخضوع لأي محاكمة.
وبإسقاط الحكومات الغربية والمنظمات الحقوقية لهذه النقاط الجوهرية من معالجاتها، وردود أفعالها على الحرب الأخيرة، فإنها بالتبعية تفرغ هذه المعالجة من مصداقيتها، حيث إن التقييم الحقوقي والحكم على مدى التزام أطراف الحرب الأخيرة بالقيم الإنسانية والشرعية الدولية يتطلب بالأساس النظر إلى السياق التاريخي للقضية، ويستلزم توسيع دائرة الرؤية لترصد الصورة الكلية للمشهد، وليس تثبيت الكاميرا فقط عند لحظة واحدة يقوم فيها الطرف الفلسطيني المقهور، مهدر الحقوق، باستهداف سلطة الاحتلال التي تنتهك وتقوض حقوقه على مدار 75 عامًا متصلة.
ثانيًا- قيام الحكومات الأوروبية بممارسة العقاب الجماعي على مواطني غزة:
حتى مع التسليم بأن بعض ما قام به مسلحون فلسطينيون بحق بعض المدنيين الإسرائيليين قد يُعد انتهاكًا لقوانين الحرب، فإن رد الفعل الإسرائيلي الذي تمثل في شن حرب شاملة أكثر ضحاياها حتى الآن من المدنيين والأطفال والأعيان المدنية، ومن بعده رد فعل عدد من الحكومات الغربية، كان تجسيدًا لممارسة “العقاب الجماعي” على شعب بأكمله، وتتمثل أبرز الشواهد على تواطؤ الحكومات الغربية في ممارسة العقاب الجماعي لمواطني غزة فيما يلي:
- مسارعة الولايات المتحدة الأمريكية بتحريك حاملة طائرات عملاقة لترسو بالقرب من السواحل الفلسطينية والإسرائيلية، في إشارة واضحة لدعم استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بالكامل.
- الصمت الأوروبي والأمريكي التام على قيام إسرائيل بقصف وتدمير البنى التحتية وقطع كافة خطوط الإمداد بالخدمات الإغاثية واستهداف المنشآت الطبية ومرافق مياه الشرب وإحكام الحصار على قطاع غزة ورفض دخول أي مساعدات غذائية وطبية للقطاع.
- قيام دول أوروبية كبرى بتعليق برامج مساعداتها التنموية للسلطة الفلسطينية والمجتمع المدني الفلسطيني وهيئات الأمم المتحدة الإغاثية الموجهة للأراضي الفلسطينية المحتلة وقطاع غزة، حيث علّقت كل من الدنمارك (13 مليون دولار)، والسويد (5 ملايين دولار)، وألمانيا (131 مليون دولار)، والنمسا (20 مليون دولار)، كما شرعت المملكة المتحدة في مراجعة برامجها التنمويّة دون تعليق مدفوعاتها، كما أشار الاتحاد الأوروبي إلى أنّ مساعداته التنمويّة المستمرّة ستخضع لمراجعة لتجنّب أي دعم حتى غير مباشر لحماس. وما يجب ذكره هنا أن كافة برامج المساعدات لا تمر عن طريق حماس التي ليست لها صفة قانونية في القطاع، ومن ثم فإن الخاسر الوحيد من هذه الإجراءات هو الشعب الفلسطيني في غزة.
ثالثًا- تقويض حقّ التعبير عن الرأي والتجمع السلمي للمواطنين الأوروبيين والمقيمين:
من أكثر ردود الفعل الصادمة للحكومات الأوروبية خلال الحرب الأخيرة، قيامها بتقويض ومنع ممارسة مواطنيها والمقيمين بشكل شرعي على أراضيها من ممارسة حقهم القانوني في التعبير عن الرأي والتجمع السلمي.
فقد قامت وزارة الداخلية الفرنسية بحظر المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، واستخدمت القوة المفرطة في تفريق مظاهرات منددة بالجرائم الإسرائيلية. كما صرح رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، بأن بلاده لن تسمح بأي مسيرات تؤيد ما أسماه بالمنظمات الإرهابية، وهو نفس التوجه الذي تبناه المستشار الألماني أولاف شولتز الذي أكد أنه سيتم حظر جماعة “صامدون” المؤيدة للفلسطينيين، كما وجّهت وزيرة الداخلية البريطانية رسالة إلى كبار قادة الشرطة في إنجلترا وويلز، تحذرهم من أي مظاهر لدعم حركة “حماس” في الشوارع، وطالبت الشرطة باستخدام القوة الكاملة لمنع ظهور ما وصفته بـ”رموز أو شعارات معادية لإسرائيل في شوارع البلاد”.
الملفت للنظر أن اتّخاذ مواقف متشددة ضد حق التظاهر واستخدام القوة والاعتقال لمنع متظاهرين سلميين من التعبير عن رأيهم تصرف خارج سياق الصورة المترسخة عن الحكومات الأوروبية بوصفها حكومات متسامحة إلى درجة التطرف أحيانًا في فتح المجال العام وإتاحة الحق في التعبير عن الرأي وممارسة الاحتجاج، وليس موقف السويد الأخير التي سمحت لبعض متطرفيها بحرق نسخ من القرآن الكريم ببعيد.
رابعًا- المنظمات الحقوقية الكبرى.. من الانحياز لإسرائيل إلى المواقف الهلامية:
يكشف تحليل خطاب المنظمات الحقوقية الكبرى التي تعمل على المستوى الدولي عن تباين في مواقفها ما بين ردود فعل منحازة لإسرائيل ومبررة لعدوانها، وفي أفضل المعالجات ردود فعل هلامية تساوي بين الضحية والجلاد. وقد رصدنا خلال هذا التقرير مواقف ثلاث منظمات حقوقية أوروبية وأمريكية شهيرة على مدار الأيام الخمسة الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وهي منظمات هيومان رايتس ووتش، والعفو الدولية، والمؤسسة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان. ويمكن تلخيص مواقفها فيما يلي:
- هيومان رايتس ووتش: أصدرت المنظمة 6 بيانات صحفية وتقارير خلال الفترة من 9 إلى 12 أكتوبر 2023 بشأن الأحداث في فلسطين، وقد اتسمت تغطية المنظمة في كافة بياناتها بإبراز قيام الجانب الفلسطيني بالاعتداء على مدنيين إسرائيليين في مستوطنات غلاف غزة، وأفردت مساحات كبيرة بكل بيان لمحاولة التدليل على ما وصفته “بانتهاكات لحقوق الإنسان”، وكانت المنظمة حريصة على الإيحاء بأن التحركات العسكرية الإسرائيلية جاءت “ردًا” على ما قام به مسلحون فلسطينيون، وعلى الرغم من أن المنظمة أشارت في بعض بياناتها إلى انتهاكات كبيرة من الجانب الإسرائيلي كاستخدام الفوسفور الأبيض واستهداف المدنيين، إلا أن العبارات التي تم استخدامها لم تكن قوية أو بارزة بما يتوازى مع حجم وطبيعة الجرائم الإسرائيلية. وبشكل عام، فإن معالجات المنظمة خلال الأيام المنقضية من الحرب الغاشمة يمكن وصفها بالمعالجات “التبريرية” للعدوان الإسرائيلي، والإدانات الشديدة للجانب الفلسطيني، في مقابل التعامل بدرجة من “النعومة” مع الممارسات الإسرائيلية الإجرامية.
- العفو الدولية: الحقيقة أن معالجات المنظمة كانت أكثر مهنية من معالجات هيومان رايتس ووتش وإن كانت تشبهها في تبني “نمط تبريري نوعًا ما لجرائم إسرائيل”، حيث أصدرت بيانين خلال الفترة الماضية، الأول ركز على أن المدنيين في الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني يدفعون ثمن الحرب، والثاني ركز على مطالبة إسرائيل برفع حصارها عن قطاع غزة، كما تبنت المنظمة لغة أكثر حدة في مواجهة عمليات العقاب الجماعي التي تمارسها إسرائيل، حيث جاء على لسان أمينتها العامة أنياس كالامار: “يجب على السلطات الإسرائيلية أن تُعيد فورًا إمدادات الكهرباء في غزة، وأن تزيل القيود الإضافية المفروضة، وأن ترفع الحصار غير القانوني الذي تفرضه على قطاع غزة منذ 16 عامًا. فالعقاب الجماعي للسكان المدنيين في غزة يرقى إلى مستوى جريمة حرب، وهو أمر قاسٍ وغير إنساني..”.
- المؤسسة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان: اكتفت المنظمة بإصدار بيان واحد باللغة الإنجليزية ولم يترجم إلى اللغة العربية، وركز البيان على مطالبة الجانب الأوروبي بتبني نهج شامل للتعامل مع القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني الإسرائيلي وإزالة الأسباب الجذرية للصراع، إلا أن موقف المؤسسة لم يكن قويًا ولم يكن منصفًا أو أمينًا في توصيف حجم وطبيعة الانتهاكات التي قام بها كل طرف.
بعد دعمها للانتهاكات الإسرائيلية.. هل لا يزال الغرب قادرًا على الضغط من أجل حقوق الإنسان في المنطقة العربية؟
للإجابة على هذا السؤال، يجب أولًا أن نشير إلى أن الغرب (حكوماته وبرلماناته ومنظماته الحقوقية) كان دائمًا يتبنى خطابًا سلبيًا تجاه أوضاع حقوق الإنسان في عدد كبير من الدول العربية، وكان يستخدم ورقة المساعدات والتبادل التجاري والعسكري للضغط على بعض الدول من أجل المطالبة والدفع باتجاه اتخاذ مواقف يراها الغرب متوافقة مع معايير حقوق الإنسان، ووصلت هذه الضغوط والخطابات والقرارات الصادرة عن بعض الهيئات الغربية إلى مرحلة تجاوز الحد الفاصل بين الالتزام بمبدأ عالمية حقوق الإنسان من جانب، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شئونها الداخلية من جانب آخر.
الطرف الغربي كان يستند في مواقفه إلى الصورة التي رسخها لنفسه -عبر عقود- كمجتمعات وحكومات تعلي من قيمة الحقوق والحريات العامة، لكن بالقطع فإن المواقف الغربية الأخيرة من العدوان الإسرائيلي على شعب غزة قد شوهت هذه الصورة، وأظهرت انحياز الطرف الأوروبي والأمريكي الأعمى لإسرائيل، وكشفت عن تناقض فج وفاضح بين خطابها المتعلق بإسرائيل وخطابها الموجه للدول العربية، ويمكن القول إن كثيرًا من مبررات المصداقية الغربية قد سقطت ولن تعود كما كانت.
هذا التحليل يقودنا إلى الاستنتاج بأن الغرب لن يكون قادرًا –على الأقل في المستقبل القريب– على لعب دور فاعل ومؤثر في دفع الدول العربية لإحداث إصلاحات في ملف الحقوق والحريات العامة، ولن يكون لمواقفه وبياناته وخطاباته ذات الصدى الذي اعتمدت عليه في تسويق هذه المواقف. وبشكل عام فَقَدَ الغرب عمومًا، وأوروبا تحديدًا، جزءًا كبيرًا من مقومات قدرتها على التأثير في هذا الملف.
إن التعامل البراجماتي للغرب مع قضايا حقوق الإنسان أصبح مفضوحًا ومكشوفًا أكثر من أي وقت مضى، لذا فإن التعويل عليه سيكون نوعًا من العبث، وربما يكون ذلك فرصة سانحة للمنظومة الأممية التي اتسمت بقدر أكبر من المصداقية في الأزمة الأخيرة لتستعيد دورها وحيويتها، وتراهن على آلياتها في قيادة حركة إصلاح عالمية لأوضاع حقوق الإنسان قائمة على احترام سيادة الدول ومتجاوزة للضغوط السياسية غير المنزهة عن الهوى.