توالت الأزمات العالمية على الاقتصاد المصري منذ عام 2020 وحتى نهاية عام 2023، بدءًا بانتشار جائحة كورونا وما نتج عنها من إغلاق حدود الدول وتوقف حركة الطيران والسياحة والتجارة العالمية، مرورًا باندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية أوائل عام 2022 والتي ألقت بظلالها على سلاسل الإمداد والتوريد للسلع الأساسية خاصة الطاقة والغذاء، انتهاءً عند حرب غزة في أكتوبر 2023. وقد أضرت كل هذه العوامل سالفة الذكر بالنشاط الاقتصادي العالمي وأبطأت معدلات نموه، وزادت من ضبابية الآفاق المستقبلية.
وبطبيعة الحال، تأثرت مصر جراء توالي الأزمات العالمية بسبب العولمة الاقتصادية والانفتاح التجاري على العالم، وذلك بعدما حقق الاقتصاد المصري أعلى معدلات نموه خلال العام المالي 2021/2022، وحصد إشادة دولية من المؤسسات العالمية بشأن التصدي للأزمات.
أزمات عالمية
من الممكن إبراز التحديات الاقتصادية الناتجة عن الأزمات العالمية المتتالية على النحو الآتي:
• تباطؤ نمو الاحتياطي النقدي: شهد الاحتياطي النقدي المصري نموًا متباطئًا خلال عام 2023 بعدما سجل تراجعًا ملحوظًا خلال عام 2022 ليسجل نحو 35.1 مليار دولار، وذلك بالمقارنة مع أعلى مستوياته المسجلة على الإطلاق قبل أزمة جائحة كورونا عند 45 مليار دولار، كما يُبين الشكل أدناه:
الشكل 1: تطور الاحتياطي النقدي المصري خلال 2023
المصدر- البنك المركزي المصري، النشرة الإحصائية الشهرية.
وفي هذا الشأن، أكد رئيس مجلس الوزراء المصري “مصطفى مدبولي” أن الأزمة التي تشهدها مصر اليوم تمثل أزمة عابرة سوف تنتهي في فترة قريبة، مستندًا إلى عدد من المؤشرات الرئيسية، والمرتبطة بتحركات الدولة المصرية في هذا الملف، وهي التحركات الهادفة لتوفير الدولار.
• ارتفاع معدلات التضخم: أظهرت بيانات صادرة عن البنك المركزي المصري أن التضخم الأساسي وصل إلى 38.1% في أكتوبر مقارنة مع 39.7% في سبتمبر، وهو ما حفز البنك المركزي لتثبيت أسعار الفائدة الرئيسية دون تغيير في اجتماعه الأخير، كما كان متوقعًا على نطاق واسع، مؤكدًا أن النمو الاقتصادي في الربع الثالث من يوليو إلى سبتمبر. ويوضح الشكل التالي تطور مؤشر أسعار المستهلكين خلال العام الجاري:
الشكل 2: مؤشر أسعار المستهلكين (نقطة)
المصدر- الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
يتبين من الرسم السابق ارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين بوتيرة مستمرة منذ بداية عام 2023، وذلك بسبب ما يُعرف بالتضخم المستورد حيث يعتمد الاقتصاد المصري على الخارج في تأمين احتياجاته من السلع الغذائية. كما يُمكن تفسير معدلات التضخم الحالية باتجاه كبرى الشركات والمؤسسات العاملة بالسوق المصرية بتسعير منتجاتها بسعر صرف جنيه مقابل الدولار أعلى من السعر المتداول في السوق الرسمية والمعلن من جانب البنك المركزي المصري والبنوك العاملة بالسوق المصرية، فعادة ما يميل التجار إلى اتخاذ قرارات تسعير منتجاتهم بناء على توقعاتهم تجاه سعر الصرف وليس سعر الصرف الحالي.
• تأثر قطاع السياحة: تراجع عدد السياح في مصر بنحو 5% عن المستهدف خلال أكتوبر، وهو أول شهر من التصعيد الإسرائيلي على قطاع غزة، حيث بلغ أعداد السائحين في شهر أكتوبر نحو 1.33 مليون سائح مقارنة بالتوقعات التي أشارت إلى وصول نحو 1.4 مليون سائح. ورغم ذلك، إلا أن الأعداد لا تزال تسجل مستويات قياسية على أساس سنوي؛ إذ ارتفعت بنحو 8% خلال أكتوبر على أساس سنوي، كما زاد عدد الليالي السياحية بنحو 9.5% خلال فترة المقارنة ذاتها، كما ارتفعت معدلات الإشغال والأسعار في الفنادق خصوصًا في القاهرة وشرم الشيخ والغردقة.
وكانت وكالة “استاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني قد توقعت تأثر اقتصاد مصر بتداعيات الحرب بين إسرائيل وغزة، ورجّحت الوكالة أن يؤدي النزاع الراهن إلى تراجع عدد السياح في مصر، مما قد يمارس ضغطًا إضافيًا على الاقتصاد المصري.
وعلى الرغم من التحديات التي فرضتها الأزمات العالمية على الاقتصاد المصري، إلا أنها ولدت عددًا من الفرص التي ساعدته على التصدي لتلك الأزمات والتخفيف من حدتها ووطأة تداعياتها، وهو ما يُمكن تفسيره على النحو الآتي:
• تعزيز دور مصر كمركز إقليمي للطاقة: برزت مصر خلال السنوات القليلة الماضية كشريك استراتيجي للقارة الأوروبية يُمكن الاعتماد عليه، ولا سيما في ظل المفاوضات المستمرة التي تجريها القاهرة مع الدول الأوروبية لبيع الفائض عن الاحتياطي الاستراتيجي من الكهرباء، وقد أعلن مجلس الوزراء المصري، منتصف نوفمبر 2023، أن الشركة المصرية لنقل الكهرباء وقعت مذكرة تفاهم مع شركة “جان دي نال” البلجيكية لبدء دراسات مشروع تصدير طاقة إلى أوروبا عبر خط بحري بقدرة لا تقل عن 2 جيجاوات بالاعتماد على الطاقة المتجددة.
كما استأنفت الدولة تصدير الغاز المسال إلى القارة الأوروبية بعد عودة الإمدادات من إسرائيل لمستويات ما قبل الحرب على غزة، مما يؤكد على المسئولية المصرية تجاه الشريك الأوروبي فيما يتعلق بإسالة الغاز الطبيعي لإعادة تصديره.
• ارتفاع إيرادات قناة السويس: ساهم ارتفاع أسعار النفط خلال فترات الأزمات العالمية في زيادة الميزة التنافسية لقناة السويس انطلاقًا من حقيقة مفادها أنه كلما ارتفعت أسعار النفط كلما زادت تكاليف الطرق البديلة والمنافسة للقناة خاصة “رأس الرجاء الصالح” مما يدفع السفن الى اختيار الطرق الأقصر مسافة والأقل تكلفة وأقل استهلاكًا للوقود وعلى رأسها قناة السويس، حيث إن موقعها الجغرافي يجعلها أقصر طريق بين الشرق والغرب بالمقارنة مع المسارات الأخرى، بما يحقق وفورات في المسافة بين موانئ الشمال والجنوب من القناة، مما يئول إلى تحقيق وفورات في الوقت واستهلاك الوقود وتكاليف تشغيل السفينة.
وبناء على ذلك، ارتفعت إيرادات القناة بنحو 34.7% على أساس سنوي إلى 9.4 مليارات دولار في عام 2022/2023 مقارنة بنحو 7 مليارات دولار في عام 2021/2022، كما شهدت حركة الملاحة بالقناة أيضًا زيادة في أعداد السفن العابرة لقناة السويس بنسبة 55.1% لتصل إلى 25.9 ألف سفينة عام 2022/2023، وهو الأعلى في تاريخ القناة، مقابل 16.7 ألف سفينة عام 2013/2014.
جهود مستمرة
أدركت القيادة السياسية منذ اللحظة الأولى التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري، وانعكاساتها على المواطن، ولهذا لم تدخر جهدًا في اتخاذ جملة من القرارات التي تخفف من وطأة الأزمات، حيث أصدر الرئيس “عبد الفتاح السيسي” مجموعة من التوجيهات والقرارات الهامة منتصف سبتمبر 2023، وذلك خلال كلمته التي ألقاها في زيارة محافظة بني سويف، ووجه الحكومة بسرعة التنفيذ الفوري لهذه القرارات، والتي تمثلت في الآتي:
• زيادة علاوة غلاء المعيشة الاستثنائية، لتصبح 600 جنيه، بدلًا من 300 جنيه، لكافة العاملين بالجهاز الإداري للدولة، والهيئات الاقتصادية، وشركات قطاع الأعمال والقطاع العام.
• زيادة الحد الأدنى للأجور ليصبح 4 آلاف جنيهات بدلًا من 3500 جنيه لكافة العاملين بالجهاز الإداري للدولة والهيئات الاقتصادية.
• رفع حد الإعفاء الضريبي بنسبة 25% من 36 ألف جنيه إلى 45 ألف جنيه لكافة العاملين بالجهاز الإداري للدولة، والهيئات الاقتصادية، وشركات قطاع الأعمال والقطاع العام.
• زيادة الفئات المالية الممنوحة، للمستفيدين من “تكافل وكرامة”، بنسبة 15% لأصحاب المعاشات، وبإجمالي 5 ملايين أسرة.
• سرعة تطبيق زيادة بدل التكنولوجيا، للصحفيين المقيدين بالنقابة، ووفقًا للمخصصات بذات الشأن بالموازنة العامة.
• قيام البنك الزراعي المصري، بإطلاق مبادرة للتخفيف عن كاهل صغار الفلاحين والمزارعين، من الأفراد الطبيعيين المتعثرين مع البنك، قبل أول يناير 2022.
• إعفاء المتعثرين من سداد فوائد وغرامات تأخير سداد الأقساط المستحقة، للهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية، بحد أقصى نهاية 2024.
وفي 15 أكتوبر 2023، وافق مجلس النواب على مشروع قانون مقدم من الحكومة بتقرير زيادة في علاوة غلاء المعيشة الاستثنائية للموظفين المخاطبين بقانون الخدمة المدنية والعاملين بالدولة غير المخاطبين به، وبتقرير زيادة في المنحة الاستثنائية للعاملين بشركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، المقررة بموجب القانون رقم 166 لسنة 2022 ومنح أصحاب المعاشات أو المستحقين عنهم منحة استثنائية.
كما أطلق مجلس الوزراء مبادرة خفض الأسعار حيث تم التوافق على خفض أسعار 7 سلع أساسية بنسب تتراوح من 15% إلى 25%، لتشمل القائمة: السكر – الزيت- العدس- الفول- الألبان – الجبن- المكرونة، بالإضافة إلى الدواجن والبيض بهدف تخفيف العبء المالي على المواطنين ودعم الاقتصاد الوطني، وذلك على الرغم من التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري.
أولويات مستقبلية
من المرجح أن تستكمل الإدارة المصرية جهودها الرامية لتعزيز أداء الاقتصاد الوطني وتعزيز قدرة المواطن الشرائية خلال الفترة الرئاسية المقبلة، وذلك من خلال استكمال جهود توطين الصناعة المصرية وتطوير البنية التحتية، وتنويع مصادر الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية، وإجراء اتفاقيات مبادلة الديون مع الدول الأخرى، وزيادة حجم التبادل التجاري مع الدول المجاورة.
إلى جانب زيادة مشاركة القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني وتخارج الدولة تدريجيًا من النشاط الاقتصادي بالاعتماد على وثيقة ملكية الدولة، والعمل على جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة مع أخذ مبادرات الحماية الاجتماعية في الحسبان.