رفعت وكالة “فيتش” التصنيف الائتماني لمصر للمرة الأولى منذ عام 2019 من “B-” إلى “B”، مع نظرة مستقبلية مستقرة في وقت يشهد فيه إقليم الشرق الأوسط اضطرابات واسعة النطاق مع انتقال الحرب الإسرائيلية على غزة إلى الساحة اللبنانية، مع استمرار التصعيد المنضبط بين إسرائيل وإيران. وتأتي تلك الخطوة لتمثل دفعة جديدة للاقتصاد المصري الذي يواجه عدة تحديات تتمثل في ارتفاع معدل التضخم، وخاصة السلع الغذائية، وتراجع القوة الشرائية للمواطنين، وخسارة جزء كبير من العائدات الدولارية وخاصة القادمة من قناة السويس، والسياحة.
مُحفزات رفع التصنيف الائتماني
يرجع اتخاذ “فيتش” لهذا القرار في الوقت الحالي إلى عدد من المؤشرات الإيجابية التي شهدها الاقتصاد المصري خلال الشهور الماضية، والتي يُمكن استعراضها تاليًا:
• انخفاض المخاطر الخارجية: تعزز الوضع الخارجي للاقتصاد المصري خلال الفترة الماضية بفضل صفقة الاستثمار الأجنبي في رأس الحكمة، وزيادة استثمارات الأجانب في أدوات الدين المحلية، والحصول على تمويل من المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي، وتأمين حزمة مساعدات من الاتحاد الأوروبي، وذلك بفضل تعديل مسار السياسات وتحقيق مرونة كبيرة في سعر الصرف، والتي ستصبح أكثر ديمومة عما كانت عليه من قبل، كما انخفضت المخاطر المالية من خلال التدابير الرامية إلى توسيع القاعدة الضريبية، وتقلص نسبة العجز الكلي في الميزانية، وتتوقع الوكالة في هذا الشأن حدوث انخفاض ملحوظ في عبء الفائدة على الديون المحلية المرتفعة للغاية في مصر.
• ارتفاع الاحتياطي النقدي: ارتفع الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية بمقدار 11.4 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى من عام 2024، حيث تمكَّن الاحتياطي النقدي من استعادة زخمه منذ فبراير 2024؛ إذ حقق ارتفاعات متتالية منذ ذلك الحين وحتى شهر سبتمبر 2024 محاولًا تجاوز تأثيرات الأزمات العالمية التي بدأت بجائحة كورونا عام 2020 حتى اندلاع الحرب الأوكرانية عام 2022 التي أثرت في كافة مصادر العملات الأجنبية، وانتهاءً بتخارج استثمارات الصناديق المالية الأجنبية من الأسواق الناشئة، وهو ما يتبين من الشكل الآتي:
الشكل 1- تطور الاحتياطي النقدي (مليار دولار)
المصدر- البنك المركزي المصري- النشرة الإحصائية الشهرية.
علاوة على ذلك، تعافى صافي الأصول الأجنبية للقطاع المصرفي إلى ما يقرب الوضع التوازني، من عجز بلغ 17.6 مليار دولار في يناير 2024. وجاء ذلك بدعم من صفقة رأس الحكمة، وزيادة تقدر بنحو 17 مليار دولار في حيازات غير المقيمين للديون المحلية منذ فبراير 2024.
• تدفقات رأس المال الجديدة: يشمل تمويل المؤسسات المالية الدولية توسيعَ قيمة قرض صندوق النقد الدولي إلى 8 مليارات دولار، والحزمة المالية من الاتحاد الأوروبي بقيمة 7.4 مليارات يورو لمدة ثلاث سنوات. وتشير توقعات “فيتش” إلى وصول متوسط الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 16.5 مليار دولار على مدار العام المالي المنتهي في يونيو 2025. وتساعد هذه الإجراءات في الحد من عجز الحساب الجاري، الذي اتسع إلى 5.4% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي الماضي، مع توقعات بأن يتقلص إلى 5.2% في العام المالي 2024/2025، و4% في العام المالي 2025/2026 مقيدًا بالتعافي الجزئي لإنتاج الغاز الطبيعي، وانخفاض إيرادات قناة السويس.
• مرونة سعر الصرف: يساعد برنامج صندوق النقد الدولي الاقتصاد المصري في الحفاظ على درجة أكبر من مرونة سعر الصرف، ولا يوجد دليل على تدخل البنك المركزي المصري في سياسة النقد الأجنبي منذ انخفاض سعر الصرف الرسمي بنسبة 38% في مارس 2024.
• تباطؤ معدل التضخم: تباطأ معدل التضخم السنوي إلى 26.4% في سبتمبر 2024 مقارنة بـ 35.7% في فبراير 2024، ومقابل المستوى المسجل في أغسطس 2024 عند 26.2%، كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية 2.6% على أساس شهري بعد زيادة 1.8% في أغسطس، فيما قفزت بنحو 27.7% على أساس سنوي، ويُبين الشكل الآتي تطور الرقم القياسي لأسعار المستهلكين:
الشكل 2- الرقم القياسي لأسعار المستهلكين (نقطة)
المصدر- الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، النشرة الشهرية للأرقام القياسية لأسعار المستهلكين 2024.
وتتوقع “فيتش” أن يتباطأ معدل التضخم إلى 12.5% في نهاية العام المالي 2024/2025، و10.6% خلال العام 2025/2026 بدعم من استقرار سعر الصرف على نطاق واسع. كما تتوقع الوكالة خفض سعر الفائدة الأساسي إلى مستويات متسقة مع معدل حقيقي يبلغ 4% بعد زيادات بلغت 800 نقطة أساس في الربع الأول من عام 2024.
• سياسات حكومية جادة: تباطأ تمويل مشاريع رأس المال الكبيرة في مصر، كما تم إصدار مرسوم يحدد سقف الاستثمار العام الإجمالي عند تريليون جنيه مصري، كما إن التدابير الرامية إلى تحسين إدارة الضرائب، وزيادة ضريبة القيمة المضافة، وخفض دعم الوقود من شأنها أن تساعد في احتواء العجز الحكومي العام، الذي تفوق على التوقعات في العام المالي 2024 بنحو 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي.
مخاطر قائمة
رغم النظرة الإيجابية لوكالة “فيتش” للاقتصاد المصري فإنها أشارت في تقريرها إلى عدد من المخاطر القائمة التي لا تزال تواجه مصر خلال الفترة الحالية والمقبلة، والتي من أبرزها:
• المخاطر الجيوسياسية: يمثل تصعيد الصراع الإقليمي خطرًا رئيسيًا على الاقتصاد المصري كونه يؤثر في انخفاض إيرادات قناة السويس والسياحة. وتتوقع “فيتش” أن تتعافى إيرادات قناة السويس تدريجيًا إلى حوالي نصف مستوى العام المالي 2023 بحلول نهاية العام المالي 2026. وتزداد مخاطر التصعيد الإقليمي مع استقبال الدولة المصرية المزيد من اللاجئين؛ مما سيضيف ضغوطًا على معدل التضخم والبطالة، ويقيد عملية الإصلاح الاقتصادي.
• نمو اقتصادي معتدل: تتوقع “فيتش” نمو الناتج المحلي الإجمالي من 2.4% في العام المالي 2024، إلى 4% في العام المالي 2025، و5.3% في العام المالي 2026، وما يهدد استدامة هذا النمو، هو اتساع دائرة الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط، كما تؤكد وكالة التصنيف الائتماني أن الإصلاح البنيوي، وتعزيز نشاط القطاع الخاص وقدرته التنافسية، هو المفتاح لرفع النمو المستدام وتجنب الاختلالات الخارجية المتجددة في الأمد المتوسط، كما ترى “فيتش” أن الحكومة المصرية الحالية، التي أصبحت أكثر تكنوقراطية إلى حد ما، لا تزال ملتزمة على نطاق واسع بشروط صندوق النقد الدولي، على الرغم من نيتها المعلنة حديثًا لإعادة التفاوض على بعض الأهداف وإطالة أمد الجدول الزمني لبعض الشروط.
• ارتفاع الدين العام: تتوقع “فيتش” ارتفاع الدين الحكومي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 78.9% بحلول العام المالي 2026، وهو ما لا يزال أعلى بكثير من متوسط الدول التي تتمتع بتصنيف ائتماني “B” البالغ 56.4%، وذلك نتيجة لارتفاع معدل الفائدة على الديون، وزيادة الإنفاق المالي خارج الموازنة، وارتفاع مديونية القطاع العام.
دلالات إيجابية
يأتي رفع التصنيف الائتماني للاقتصاد المصري رغم ارتفاع التوترات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط ليؤكد على نجاح السياسات الاقتصادية التي تتبناها الدولة المصرية، فضلًا عن التأثير الإيجابي لصفقات الاستثمار الأجنبي المباشر وعلى رأسها مشروع رأس الحكمة، ومن الممكن أن يُسهم القرار في زيادة الإقبال على شراء السندات الدولارية وأذون الخزانة المصرية؛ مما يحسن من الوضع الخارجي للاقتصاد المصري ويزيد من قيمة الاحتياطي النقدي، ويدعم استقرار العملة المحلية؛ إذ يعتبر رفع التصنيف الائتماني شهادة ثقة جديدة في مرونة الاقتصاد المصري وقدرته على التعامل مع الأزمات المختلفة.
وقد يُسهم رفع التصنيف الائتماني أيضًا في فتح آفاق جديدة للاستثمار الأجنبي المباشر؛ حيث ترسل مثل هذه التقارير إشارات إيجابية للمستثمرين الأجانب عن استقرار الأوضاع الاقتصادية في مصر؛ مما يسهم في خلق المزيد من فرص العمل وتحسين مستويات المعيشة للمواطنين، وكذلك فتح القرار آفاق جديدة للتعاون مع المؤسسات المالية الدولية، بالإضافة إلى تخفيف الأعباء المالية على الدولة من خلال تخفيض تكلفة الاقتراض الخارجي.
والجدير بالذكر أنه في أكتوبر الماضي، أكدت وكالة “إس آند بي” للتصنيف الائتماني نظرتها المستقبلية لمصر عند “إيجابية”، وأبقت على تصنيفها للديون عند “B-/B”. وأشارت في مراجعتها إلى أن التوقعات الإيجابية “تعكس إمكانية القيام بالمزيد من التحسينات في المواقف الخارجية والمالية لمصر.
ختامًا، يتزامن قرار رفع التصنيف الائتماني للاقتصاد المصري مع المراجعة الرابعة لصندوق النقد الدولي لبرنامج مصر للإصلاح الاقتصادي بصرف شريحة بقيمة 1.3 مليار دولار من قرض الصندوق؛ مما يعزز من الثقة في الاقتصاد المصري، خاصة في ظل تصريحات مديرة الصندوق “كريستالينا جورجييفا” الإيجابية عن مسيرة الإصلاح الاقتصادي التي اتبعتها الدولة منذ عام 2016.