تترك الحروب بصماتها على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، كونها تسبب دمارًا للأصول والبنى التحتية والأرواح البشرية، وتؤثر سلبًا في الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي؛ نتيجة تعطل الحياة اليومية وتغير أوجه الأنشطة الاقتصادية التي تأخذ منحى بعيدًا عن وضعها الطبيعي خلال فترات الحروب والصراعات المسلحة، نتيجة لدخول البلاد في مرحلة “اقتصاد الحرب” الذي يتعين عليها فيها تحقيق التوازن بين اقتصاد التنمية واقتصاد الحرب (أي المواءمة بين الأهداف التنموية ونظيرتها العسكرية). ففي وقت الحروب، تتجه الدول إلى تعبئة مواردها الاقتصادية كالعمالة ورؤوس الأموال والمواد الخام والطاقة لتلبية إنفاقها الدفاعي والعسكري، وهو ما يخلف ارتدادات سلبية من الناحية الاجتماعية نتيجة معضلة “ندرة الموارد” الناتجة عن عدم كفاية الموارد المتاحة لتلبية الاحتياجات المتزايدة باضطراد؛ مما يدفع الدول للتخلي عن مستهدفاتها التنموية والاجتماعية الخاصة بالتعليم والصحة والبنية التحتية من أجل تمويل إنتاج المُعدات والأسلحة والذخيرة وتمويل احتياجات جيشها الوطني.
وقد شهد العالم على مدار التاريخ العديد من الحالات التي لجأت فيها الدول لتطبيق أدوات اقتصاد الحرب؛ مثل: الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحرب فتنام، والحرب الكورية، والحرب الروسية-الأوكرانية، إلا أن الدراسة الآتية ستركز على حرب أكتوبر 1973 كنموذج لاقتصاد الحرب، حيث شهد الاقتصاد المصري حينذاك إجراءات تقشفية تتمثل في خفض الإنفاق الاستهلاكي وتأجيل تنفيذ المشروعات الاستثمارية طويلة الأجل، وحشد الدعم الشعبي من خلال طرح أوراق الدين في الأسواق المالية أو زيادة الضرائب. ولهذا، يُعتبر السلاح الاقتصادي أحد الأسلحة التي مكنت الدولة المصرية من الصمود عقب هزيمة 1967 وحتى نصر أكتوبر 1973.
أولًا: التأطير النظري لمفهوم “اقتصاد الحرب”
تشير الأدبيات إلى أن مفهوم “اقتصاد الحرب” (War Economy) يعود إلى الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) حين اضطرت الحكومة إلى اللجوء للاقتراض وطباعة المزيد من النقود لتلبية الالتزامات المالية للحرب وتمويل الإنفاق الدفاعي، إلا أن المفهوم قد ظهر بشكل مباشر ورسمي في الأوساط السياسية خلال الحرب العالمية الثانية في خطاب الرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت” حينما أشار إلى حتمية تحول الولايات المتحدة لقوة عسكرية دائمة مبنية على أسس اقتصاد الحرب. ومنذ ذلك الحين، حاول الاقتصاديون صياغة تعريف علمي لمفهوم اقتصاد الحرب حتى قدم العالم “فيليب لو بيلون” إسهامًا علميًا بطرح تعريف بات هو الأكثر استخدامًا في الأوساط الأكاديمية حتى الوقت الحالي، حيث عرف اقتصاد الحرب بأنه “وضع نظام لإنتاج الموارد وتعبئتها وتخصيصها لدعم المجهود الحربي”، أو “عملية تعبئة وحصر كل الموارد المحلية المادية والبشرية المتاحة، وإعادة توزيع استخدامها، بحيث يخصص الجانب الأكبر منها لخدمة المجهود الحربي للدولة”، أو “تنظيم القدرة الإنتاجية والتوزيعية للدولة خلال فترة الحرب والصراعات إلى جانب إجراء تعديلات جوهرية على هيكل الإنتاج لاستيعاب احتياجات الإنتاج الدفاعي”.
ويعني ذلك أن اقتصاد الحرب هو تنظيم القدرة الإنتاجية والتوزيعية للدولة في أثناء الحروب مع إعادة ترتيب أولوية تخصيص مواردها من أجل تحقيق النصر العسكري بالتوازي مع محاولة تلبية احتياجات المستهلكين المحليين؛ أي: أنه مجموعة التدابير التي تتخذها الدولة خلال الحروب أو عند اندلاع الأزمات والنزاعات الداخلية، والمتمثلة في اعتماد نظام إنتاجي يعمل على ترشيد استخدام الموارد الاقتصادية لضمان استدامتها مع إجراء تغيير بنيوي على هيكل الاقتصاد المحلي من خلال تخصيص جزء من الموارد لتلبية نفقات الحرب والتسلح ودعم القوات المسلحة مقابل خفض الإنفاق العام على الخدمات الاجتماعية والاقتصار على توفير الاحتياجات الضرورية والأساسية للمواطنين.
ويُنظر إلى التعريف المذكور أعلاه على أنه المفهوم التقليدي لاقتصاد الحرب والقائم على تحقيق التوازن بين الحاجة إلى تحقيق الأهداف العسكرية والتأثيرات الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على ذلك، إلا أن هذا التعريف قد تطور مع التقدم التكنولوجي الذي شهده العالم؛ إذ لم يعد مقصورًا على إعادة تخصيص الموارد الطبيعية والبشرية المُتاحة لصالح الإنتاج الدفاعي فحسب، بل أصبح يشمل استخدام التكنولوجيا والصناعات الإلكترونية والذكاء الاصطناعي وزيادة البحث والتطوير في مجالات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والفضاء لتحقيق الأهداف العسكرية. ومما سبق يتضح أن أدوات الدولة لإدارة اقتصاد الحرب تتمثل فيما يلي:
1- إعلاء الإنفاق الدفاعي على نظيره الاجتماعي:
تلجأ الحكومات عادة في أوقات الصراع إلى إعطاء الأولوية للإنفاق الموجه لإنتاج الأسلحة والذخيرة بدلًا من توجيه مواردها إلى الصحة والتعليم والإسكان والبنية الأساسية نظرًا لتزايد احتمالية تأثير الحرب في حجم الموارد المالية المُتاحة بضغط من تدمير وقصف المنشآت والبنية التحتية، وتوقف العملية الإنتاجية لبعض الصناعات، علاوة على اضطراب الأنشطة التصديرية أو الأنشطة المدرة للدخل بشكل عام؛ مما يدفع الحكومات لترشيد استهلاك الموارد وإعادة توجيهها للأنشطة التي تضمن لها تحقيق النصر العسكري. ويُمكن الاستدلال على ذلك بالسلوك الروسي خلال الحرب الروسية-الأوكرانية التي دفعت البلاد لرفع الإنفاق الدفاعي إلى 13.2 تريليون روبل (142 مليار دولار) في موازنة عام 2025 مقابل المستوى المسجل 10.4 تريليونات روبل عام 2024، وهو ما يمثل نحو 6.2% من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا، و40% من إجمالي نفقات الموازنة متجاوزًا بذلك المخصصات المالية الموجهة لقطاعي الصحة والتعليم.
2- السياسة المالية التشددية:
تذهب الدول وقت الحروب لتطبيق سياسة مالية انكماشية عبر رفع معدلات الضرائب المفروضة على الدخل أو أرباح الشركات لتمويل نفقاتها العسكرية وتلبية احتياجات الأمن القومي، وضمان ضخ مستوى مستدام من الأموال للمنظومة الدفاعية. من ناحية أخرى، قد تلجأ الحكومة إلى الاستدانة من شعبها من خلال إصدار المزيد من أوراق الدين (السندات – أذون الخزانة) بفائدة منخفضة نسبيًا يتم استردادها عقب انتهاء الحرب. وقد طبقت الولايات المتحدة هذه الأداة خلال عامي 1950 و1951 حينما رفع الكونجرس الضرائب بنحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي لسداد تكاليف الحرب الكورية، على الرغم من استمرار سريان معدل الضرائب المرتفعة التي تم فرضت خلال الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي شهدت تضاعف الإيرادات الفيدرالية ثلاث مرات تقريبًا كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بسبب زيادة عدد المواطنين الخاضعين لضريبة الدخل بنحو عشرة أضعاف، من 3% من إجمالي السكان عام 1939 إلى 30% عام 1943. وفي حربها على أوكرانيا، استخدمت روسيا الأداة نفسها لزيادة إيراداتها المالية حيث رفعت معدل الضرائب على الدخل بنسبة 14% وضريبة الأرباح على الشركات بنسبة 25% خلال عام 2023.
3- التدخل الحكومي في الأنشطة الاقتصادية:
تشمل خطة التعبئة الاقتصادية للحكومات وقت الحروب إحكام قبضة الدولة على النشاط الاقتصادي والسيطرة على الموارد المُتاحة وإلزام الشركات والمصانع بإدخال تغييرات رئيسية على الهياكل الإنتاجية بما يتناسب مع خطتها لإدارة الحرب، فمن الممكن إعادة توجيه أهداف القطاع الزراعي لتأمين إمداد المواطنين والقوات المسلحة بالاحتياجات الغذائية اللازمة مع الاستغناء عن السلع الغذائية الكمالية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، والحفاظ على هامش تصديري للمنتجات الزراعية، كما يُمكن اتخاذ قرار بتحويل الصناعات المدنية إلى الصناعات العسكرية اللازمة لدعم القوات المسلحة. وخلال الحرب العالمية الأولى، وسعت الولايات المتحدة من صلاحياتها الحكومية من خلال توجيه المزارعين بزيادة إنتاج الحبوب والمحاصيل الزراعية الاستراتيجية، وإنشاء مجلس الصناعات الحربية (The War Industries Board- WIB) لزيادة الإنتاج الدفاعي وتخصيص الموارد للمجهود الحربي، بما في ذلك النحاس والمطاط والنفط، ومنح عقود الدفاع لصالح الشركات المدنية، وتحفيز الإنتاج العسكري بين أصحاب الأعمال المدنيين. فيما توسعت ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية في بناء المصانع الجديدة لتلبية متطلبات التوسع العسكري، حيث تمكنت من ربط مفهومي الدفاع والموارد الاقتصادية باعتبارها عنصرًا حاسمًا لتعزيز الأمن الوطني خلال سنوات ما بين الحربين العالميتين.
4- التمويل التضخمي:
تتجه الحكومات إلى خيار طباعة النقود لتمويل الإنفاق الدفاعي كبديل أيسر من فرض المزيد من الضرائب، وهو ما يُعرف بالتمويل التضخمي حيث تضطر الدول إلى إصدار المزيد من العملات الورقية دون غطاء لتمويل الزيادة في الإنفاق الحكومي بدون الأخذ في الاعتبار انعكاسات تلك الخطوة على قيمة العملة المحلية ومعدلات التضخم التي ترتفع عادة في أوقات الحروب نتيجة لنقص المعروض من السلع. فعلى سبيل المثال، اضطرت الولايات المتحدة اللجوء لخيار طباعة النقود خلال الحرب الأهلية؛ مما أفضى إلى زيادة المعروض النقدي خلال الفترة 1861 إلى 1864 بنحو 10 أضعاف.
5- التجنيد الإجباري:
تستغل الدول خلال الحروب مواردها البشرية من خلال استدعاء العمالة المدنية للخدمة في القطاع العسكري؛ مما يؤثر سلبًا على عرض العمالة واستقرار سوق العمل، وقد تجلى هذا الاتجاه بوضوح خلال الحرب الروسية-الأوكرانية حين قررت أوكرانيا خفض سن التجنيد للرجال من 27 عامًا إلى 25 عامًا، وإلغاء بعض الإعفاءات من التجنيد؛ مما أضاف حوالي 50 ألف جندي جديد للجيش الأوكراني، ومن ناحية أخرى وقع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” مرسومًا في مارس 2024 باستدعاء 150 ألف مواطن للخدمة العسكرية القانونية وذلك بعدما استدعى 130 ألف شخص في سبتمبر 2023، كما صوّت مجلس النواب الروسي على رفع الحد الأقصى لسن تجنيد الرجال إلى 30 عامًا بدلًا من 27 عامًا، وقد دخل التشريع الجديد حيز التنفيذ في الأول من يناير 2024.
ثانيًا: اقتصاد الحرب في مصر.. حرب أكتوبر 1973 نموذجًا
واجه الاقتصاد المصري خسائر فادحة نتيجة لهزيمة 1967، بلغت حوالي 11 مليار جنيه مصري (أي ما يُعادل 25 مليار دولار بسعر الصرف المسجل في هذه الفترة عند 2.3 دولار)، وفقًا لتقديرات رئيس الوزراء الأسبق “عزيز صدقي”، كما خسرت الدولة نحو 80% من معداتها العسكرية؛ مما ضاعف احتياجاتها المادية لشراء معدات بديلة، إلى جانب الخسائر المسجلة في إيرادات قناة السويس عند حوالي 95.3 مليون جنيه، وخسارة آبار البترول في سيناء، فيما بلغت الخسائر الناجمة عن قصف إسرائيل لمنشآت قناة السويس ما يقرب من مليار جنيه (أي 2.3 مليار دولار). كما فقد الاقتصاد المصري جزءًا مهمًا من الإيرادات السياحية تُقدر قيمته بحوالي 37 مليار جنيه سنويًا، بالإضافة إلى تدمير 17 منشأة صناعية كبرى بخسائر 169.3 مليون جنيه (389.4 مليون دولار). وكنتيجة لتلك الخسائر، كان لا بد وأن تدخل الدولة المصرية مرحلة اقتصاد الحرب خلال الفترة من 1967 حتى 1973، وذلك من خلال تطبيق الأدوات الآتية:
1- زيادة الإنفاق العسكري:
اعتمدت الدولة المصرية موازنة عام 1973 تحت مسمى “موازنة الحرب” أو “موازنة المعركة”، والتي أعلنها رئيس الوزراء المصري آنذاك “عزيز صدقي” في فبراير من العام نفسه لتستهدف توفير التمويل اللازم لاحتياجات القوات المسلحة من الأدوات الطبية والمواد الغذائية حال قيام الحرب، وتأجيل تنفيذ المشاريع التنموية طويلة المدى، وإجراء تخفيض جديد في أنواع الإنفاق في الدوائر الحكومية والقطاع العام، بما في ذلك تخفيض اعتمادات السفر والمواصلات، ونفقات الأعياد والمواسم. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، ففي مارس من العام نسه، اتخذت الحكومة إجراءات جديدة استعدادًا للحرب عبر خفض مخصصات المياه والإنارة والنقل سواء بالسكك الحديدية أو وسائل النقل الأخرى بنسبة 10%، وخفض الاعتمادات المخصصة للأعياد والمواسم بنسبة 75%، ومراجعة مخصصات الصيانة لمرافق وزارات الري والإسكان والبترول وهيئة البريد، وإعادة النظر في مختلف المشروعات الاستثمارية الواردة في موازنة 1973، مع تأجيل أي مشروعات لا تخدم أهداف المعركة. ويُبين الشكل الآتي تطور الإنفاق العسكري في مصر منذ عام 1966 حتى 1975:
الشكل (1): الإنفاق العسكري المصري (1966-1975)
Source: Stockholm International Peace Research Institute, SIPRI Military Expenditure Database
يُبين الشكل أعلاه أن السياسة الاقتصادية المصرية خلال فترة ما بين الحربين (1967-1973) تميزت بإعطاء أولوية للاستثمارات الدفاعية والإنفاق الدفاعي مقارنة بكل أنواع الإنفاق الأخرى. فمنذ عام 1966 حتى عام 1973، ارتفع الإنفاق العسكري المصري من 481.8 مليون دولار إلى 1.243 مليار دولار بنسبة زيادة تبلغ حوالي 158.4%، كما ارتفعت نسبة الإنفاق العسكري من الناتج المحلي الإجمالي من 6.68% إلى 13.51%.
2- السياسات الاقتصادية الانكماشية:
اتبعت الدولة سياسة اقتصادية انكماشية خلال الأعوام التالية لهزيمة 1967 وحتى نصر أكتوبر 1973، وذلك عبر تطبيق ثلاث أدوات رئيسية، تمثلت الأولى: في رفع أسعار السلع الكمالية وفرض الضرائب غير المباشرة، والثانية: في خفض الدخول بزيادة أو فرص ضرائب مباشرة جديدة إلى جانب الحد من الترقيات في القطاع الحكومي، والثالثة: في خفض الاستثمار المحلي الإجمالي عدا الموارد الادخارية المتاحة. ونتيجة لذلك، ارتفعت الإيرادات الضريبية من الضرائب غير المباشرة والتعريفات الجمركية من 442.5 مليون جنيه عام 1970 إلى 574.7 مليون جنيه عام 1973، لترتفع نسبتها بذلك من إجمالي الإيرادات الضريبية من 63.4% إلى 69.1%، مقابل تسجيل الضرائب المباشرة مستوى يبلغ حوالي 257.5 مليون جنيه عام 1973، أي ما يعادل 30.9% من الإيرادات الضريبية في ذلك العام. إلى جانب ذلك، حافظ الشعب المصري على ودائعه في المصارف التجارية خلال فترة ما بين الحربين؛ مما أسهم ذلك في دعم واستقرار القطاع المصرفي. لذا، ارتفع إجمالي الودائع بالبنوك إلى 400 مليون جنيه، بينها 27 مليون جنيه شهادات استثمار عائلي.
3- الاعتماد على الدعم الشعبي:
طرح القطاع المصرفي المصري العديد من الأوعية الادخارية الاستثمارية خلال الفترة بين 1967 و1973، حيث ارتفعت قيمة سندات الخزانة من 164 مليون جنيه خلال العام المالي 1959/1960 إلى ما يقرب من 375 مليون جنيه في 1969/1970، ليصل إلى 459 مليون جنيه عام 1972، كما طُرح ما يُعرف باسم “سندات الجهاد“، تحت شعار “شارك في ملحمة النضال الوطني”، بفائدة تبلغ 4.5% سنويًا معفاة من الضرائب لمدة عشر سنوات، وتضمنت فئاتها المالية: 50 قرشًا، جنيهًا واحدًا، 5 جنيهات، 10 جنيهات، 100 جنيه. فيما بلغت حصيلتها نحو 7 ملايين جنيه مصري خصصت لاحتياجات القوات المسلحة والأمن القومي ولتلبية الإنفاق الدفاعي المتزايد بوتيرة مستمرة.
4- زيادة المعروض النقدي:
اضطرت الدولة المصرية إلى تمويل جزء من إنفاقها العسكري -إلى جانب فرض الضرائب وطرح سندات في الأسواق المالية- من خلال طباعة المزيد من النقود، وهو الأمر الذي أسهم في رفع معدلات التضخم من 0.7% خلال عام 1967 إلى 5.11% خلال عام 1973. وفي هذا الشأن، حاولت الحكومة مجابهة الموجة التضخمية من خلال تطبيق سياسات التسعير الإجباري للسلع الأساسية حتى عام 1973، حيث أدارت الدولة الأسعار بجميع القطاعات الاقتصادية الرئيسة مثل المنتجات الزراعية والصناعية والسكنية، إلا إنها بدأت بعد انتهاء الحرب في التخلي عنها تدريجيًا ليرتفع معدل التضخم إلى 10.02% خلال 1974، و9.67% خلال 1975، كما يُبين الشكل أدناه:
الشكل (2): معدل التضخم المصري (1966-1975)
Source :World Bank, Inflation, consumer prices (annual %)
5- تطبيق سياسة الإحلال محل الواردات:
اتخذت الدولة المصرية مجموعة من التدابير والإجراءات الطارئة بغرض الحفاظ على رصيد الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية خلال الفترة من 1967 إلى 1973، وذلك من خلال إعادة النظر في خطط الاستيراد والتصدير لمعالجة العجز في الميزان التجاري، وزيادة الاعتماد على المنتج المحلي، وتطبيق ما يُعرف بـاسم “سياسة الإحلال محل الواردات” الرامية لإقامة قاعدة صناعية متكاملة، والوفاء باحتياجات السوق المحلية في فترات الحروب والكساد، وخفض مستويات العجز في الميزان التجاري وتقليل فاتورة الاستيراد نتيجة لإحلال السلع الصناعية المحلية محل مثيلتها المستوردة، وخلق فرص عمل جديدة . عطفًا على ذلك، أوقفت الحكومة استيراد السلع الكمالية أوائل عام 1972، بما في ذلك الملابس والأقمشة الفاخرة، وأجهزة التليفزيون والراديو والسجائر والأجهزة المنزلية والسجاد الفاخر، ورفعت الرسوم الجمركية على السلع الكمالية المستوردة للاستخدام الشخصي بنسبة 50%، واقتصرت تجارة الجملة للسلع الأساسية على القطاع العام بهدف منع التلاعب في أسعارها وضمان وصولها إلى المواطن المصري بأسعار مقبولة.
6- زيادة الاستهلاك الحكومي:
أدى الدور الأوسع للدولة في النشاط الاقتصادي بين حربي 1967 و1973 إلى زيادة الاستهلاك الحكومي ليسجل معدلات مرتفعة من 488 مليون جنيه عام 1967 ليبلغ نحو 1.077 مليار جنيه عام 1973، بنسبة نمو تبلغ 120.7% أو 20.1% سنويًا خلال تلك الفترة، وذلك مقارنة مع متوسط نمو الاستهلاك الحكومي خلال الفترة 1960-1966 البالغ نحو 18.7%، رغم ما شهدته تلك الفترة من زيادة في مشروعات القطاع العام وإقامة بعض مشروعات البنية الأساسية. وفي المقابل، بلغ متوسط معدل الاستهلاك الخاص بين الحربين نحو 7.6%، وهو مستوى أقل من نظيره المسجل خلال الفترة 1960-1966 عند 10.4% سنويًا، ويرجع ذلك إلى زيادة الأعباء الضريبية، وزيادة معدل التضخم وتراجع القوة الشرائية للجنيه المصري؛ مما ألقى بظلاله على النمط الاستهلاكي للشعب المصري.
7- المساعدات العربية:
كان المصدر الأساسي للمعونات المقدمة إلى مصر في السنوات التالية لحرب 1967 هو البلاد العربية، حيث استطاعت القاهرة أن تؤمن منح ومساعدات من السعودية والكويت وليبيا قدرت في المتوسط بنحو 286 مليون دولار سنويًا، وجاءت تلك المساعدات لتعويض النقص في المعونات الخارجية والغربية في ظل توقف المساعدات الأمريكية تمامًا في فبراير1967، ومواجهة الآثار الاقتصادية المترتبة على إغلاق قناة السويس، ونقص إيرادات السياحة، وتدمير المنشآت والمصانع، وتزايد نفقات توطين المهجرين من منطقة القناة، إلى جانب ارتفاع الإنفاق العسكري وتسديد دفعات الديون المستحقة على الاقتصاد المصري في السنوات التالية لحرب 1967.
وكنتيجة لزيادة الإنفاق الدفاعي، والحصيلة الضريبية، والاعتماد على المنتج المحلي بدعم من تعزيز القاعدة التصنيعية، استطاع الاقتصاد المصري أن ينتقل من منطقة الانكماش إلى النمو، حيث سجل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي نحو 3.5% خلال عام 1973 مقابل انكماشه بنسبة 1.6% عقب هزيمة 1967 بعامٍ واحدٍ.
ختامًا، تلعب الموارد الاقتصادية دورًا فعالًا في أوقات الحروب والنزاعات؛ إذ يُساعد استغلالها بالشكل الأمثل في منع انزلاق اقتصاد الدول المتحاربة إلى الانكماش والركود، كما أنها تُساعد في إعداد الدول وتأهيلها لخوض المعارك في حالة اقتصادية معقولة، وهي الحالة التي تنطبق على الاقتصاد المصري خلال حرب أكتوبر 1973، حيث تعتبر الإدارة الحكيمة للموارد المُتاحة ووجود حالة من المرونة الاقتصادية لتغيير أوجه الإنفاق الحكومي أحد العوامل التي مكنت الدولة المصرية من تحقيق نصر أكتوبر على الرغم من ارتفاع الخسائر الاقتصادية الناجمة عن هزيمة 1967 كفقدان عائدات آبار البترول وإيرادات قناة السويس والسياحة.