الانتخابات الرئاسية المصرية التي تجري في الفترة من 10 إلى 12 ديسمبر ستدخل تاريخ الانتخابات المصرية باعتبارها الانتخابات الأولى في تاريخ مصر التي تجري في ظل ظروف داخلية وإقليمية ودولية شديدة التعقيد تلقي بظلال كثيفة على تلك الانتخابات، وتفرز الكثير من التحديات أمام الدولة المصرية. فالأوضاع العالمية، وما أفرزته من أزمة اقتصادية غير مسبوقة على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، ألقت بثقلها على الاقتصاد المصري بما انعكس في مظاهر كثيرة لعل أهمها من وجهة نظر الرأي العام المصري ارتفاع الأسعار، وهو الملف الذي استخدمته القوى المعادية للدولة المصرية للنيل منها ومن سياساتها بل والإنجازات التي تحققت منذ ثورة 30 يونيو. وبينما تسعى الدولة للخروج من تلك الأزمة الاقتصادية والتعافي من آثارها اندلع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بكل ما يحمله من مخاطر تتعلق بالأمن القومي المصري نتيجة المخطط الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية عبر تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، وما أدى إليه ذلك العدوان من تداعيات سلبية على الأوضاع الاقتصادية على الأقل من زاوية تأثيره على السياحة وما أثاره من مخاوف وعدم الاستقرار يمثل العدو الأول للاقتصاد والاستثمار.
وانطلاقًا من أن الرأي العام المصري يَعتبر القضية الفلسطينية إحدى قضاياه الداخلية على نحو ما أظهرت استطلاعات الرأي العام قبل سنوات عديدة، فقد حازت تطورات الأوضاع في القطاع أولوية اهتمام المصريين والمرشحين للانتخابات الرئاسية. إذ فرض ملف التطورات في غزة نفسه على ما عداه من ملفات على أجندة الرأي العام والدولة والمرشحين للرئاسة، وكذلك على وسائل الإعلام المنوط بها دور كبير أثناء الانتخابات في توعية المواطنين وتمكين المرشحين من الوصول إلى الناخبين لعرض رؤاهم وبرامجهم. ومع بدء الانتخابات الرئاسية بتصويت المصريين في الخارج يطرح موضوع المشاركة المتوقعة في الانتخابات نفسه على أجندة النقاش العام في مصر، خاصة في ظل محاولات جماعة الإخوان ومن يدور في فلكهم لدفع المصريين نحو عدم المشاركة في الانتخابات، تمهيدًا لاستغلال نسبة المشاركة وتصويرها باعتبارها دليلًا على تراجع شرعية الرئيس عبد الفتاح السيسي ومشروعه التنموي غير المسبوق لتغيير نمط حياة المصريين.
أولًا: المشاركة السياسية والانتخابات.. تصورات خاطئة
دائمًا ما يتم النظر إلى المشاركة في الانتخابات على أنها مقياس لدرجة المشاركة السياسية في أي مجتمع، أو أنها المظهر الوحيد للمشاركة السياسية. ومع عدم إغفال أهمية المشاركة في الانتخابات، إلا أنه لا يمكن اعتبارها المؤشر الوحيد والحقيقي للمشاركة السياسية في المجتمع. وفي الحقيقة فإن ذلك التصور لم يكن تصور الجماهير فقط، بل ساد الانطباع الخاطئ ذاته حتى بين علماء السياسة كون المشاركة في الانتخابات هي الطريقة التي تعبر بها أغلبية المواطنين عن مواقفهم على قدم المساواة. وإذا كانت المشاركة في الانتخابات بالتصويت تعتبر المظهر الأكثر وضوحًا وتعبيرًا عن المشاركة السياسية، فإن المشاركة السياسية أوسع بكثير من مجرد التصويت في الانتخابات، وذلك نظرًا للاعتبارات التالية:
– أن الانتخابات في كل حالاتها قد لا تمارس إلا كل عدة سنوات حسب نوعية المجالس أو المناصب المنتخبة في كل نظام سياسي، وبالتالي فقد يتصور البعض أن كل مما تقدمه النظم السياسية الليبرالية الموصوفة بالديمقراطية لمواطنيها من فرص للتأثير على صنع السياسة العامة تتمثل في هذه المناسبة (الانتخابات).
– أن المشاركة في الانتخابات لا تشير بالضرورة في حالات كثيرة إلى ارتفاع درجة المشاركة السياسية ورقي الوعي السياسي، حيث تشهد الانتخابات عمليات لحشد الجماهير وتعبئتها وربما دفعها للتصويت في الانتخابات بصرف النظر عن اهتمامها بموضوع المشاركة السياسية من عدمه. فالناخب في كثير من الأحوال في تلك البلدان لا يذهب إلى الانتخابات إلا إذا كان المرشح من عائلته مثلًا أو صديقه، أو ينتظر من وراء ذهابه إلى الانتخابات مصلحة اقتصادية معينة. ولعل هذا الاعتبار الأخير هو الذي دفع المهتمين بدراسات المشاركة السياسية إلى عدم الاقتصار على دراسة التصويت باعتباره الصورة الأساسية للمشاركة السياسية، وإنما تدرس إلى جانبه صورًا أخرى قانونية، مثل: عضوية الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والعمالية، والجمعيات الفكرية، وجماعات المصالح بصفة عامة.
وفي هذا الإطار، خضع مفهوم المشاركة السياسية للتطور من خلال استخدام علماء الاجتماع السياسي له في واقع المجتمعات الغربية التي تبنت الفكر أو الأيديولوجيا الليبرالية الديمقراطية داخل إطار النظم السياسية التعددية، ثم في الولايات المتحدة الأمريكية بحيث تعددت مستوياتها أو درجاتها كما تعددت الوسائل التي يعتمد عليها في تطوير نماذجها واتساعها وتنظيم عملياتها، إذ يشير “صموئيل هانتنجتون” إلى أن هناك ثلاثة مستويات في الممارسة؛ أولها المستوى الأكثر انخفاضًا حيث تقتصر المشاركة على نخبة صغيرة من الأرستقراطيين التقليديين أو البيروقراطيين، وثانيها هو المستوى المتوسط حيث تكون الطبقة المتوسطة قد دخلت معترك السياسة، وثالثها المستوى المرتفع من المشاركة ويوجد حيث تشترك النخبة والطبقة المتوسطة والجماهير بصورة عامة في النشاط السياسي.
ومن ناحية ثانية، قدم علماء الاجتماع السياسي شكلًا هرميًا يغطي كل أشكال المشاركة السياسية، ويكون قابلًا في نفس الوقت للتطبيق في كل النظم السياسية بهدف الوقوف على درجاتها في ارتباطها بنماذج المشاركة السياسية المتعددة التي يضمها الهرم وتمثل الوجه الإيجابي للمشاركة السياسية بوجه عام، ثم انتهوا إلى أن تقلد المنصب السياسي أو الإداري يقع على رأس الهرم ويمثل أقصى درجات المشاركة، ثم تأخذ درجاتها في الهبوط والتناقص إلى أسفل القاعدة، وهو التصويت باعتباره أدنى مستوى من مستويات أشكال التعبير عن المشاركة السياسية على النحو التالي:
1ـ تقلد منصب سياسي أو إداري.
2ـ السعي نحو منصب سياسي أو إداري.
3ـ العضوية النشطة في التنظيم السياسي (الحزب مثلًا).
4ـ العضوية العادية في التنظيم السياسي.
5ـ العضوية النشطة في التنظيم شبه السياسي.
6ـ العضوية العادية في التنظيم شبه السياسي.
7ـ المشاركة في الاجتماعات السياسية العامة.
8ـ المشاركة في المناقشات السياسية غير الرسمية.
9ـ الاهتمام العام بالسياسة.
10ـ التصويت.
وهكذا يمكن القول إن المشاركة السياسية إلى جانب أنها تعني تلك الأنشطة الإرادية التي يقوم بها المواطنون بهدف التأثير بشكل مباشر أو غير مباشر في عملية اختيار الحكام أو التأثير في القرارات أو السياسات التي يتخذونها؛ فإنها تعني أيضًا العملية التي يلعب الفرد من خلالها دورًا في الحياة السياسية لمجتمعه، وتكون لديه الفرصة لأن يسهم في مناقشة الأهداف العامة لذلك المجتمع وتحديد أفضل الوسائل لإنجازها، وقد تتم هذه المشاركة من خلال أنشطة سياسية مباشرة أو غير مباشرة.
ثانيًا: المصريون والانتخابات
تعاني مصر منذ بدء تجربة التحول نحو التعددية السياسية والحزبية في نوفمبر عام 1976 من مشكلة الضعف الشديد في نسبة المشاركين في العملية الانتخابية، بل والمهتمين بها أصلا. حيث بدا الأمر وكأن الانتخابات لا تخص إلا القائمين عليها، بل بدت اللعبة السياسية كلها وكأنها تدور بين أقليات. ومن ناحية ثانية فإن ضعف معدلات المشاركة السياسية بمفهومها الواسع كان أحد الأسباب التي عرقلت التطور الديمقراطي في مصر، ومن ثم فإن تجربة التحول الديمقراطي في مصر بدت وكأنها تدور في حلقة مفرغة، فتعثر التطور الديمقراطي وغياب أساليب التنشئة السياسية في المجتمع المصري انعكس بالسلب على معدلات المشاركة السياسية، وانعكست الأخيرة بالسلب على التجربة الديمقراطية في مصر. علاقة المصريين بالانتخابات تغيرت إلى حد بعيد منذ عام 2011 وما أفرزته من تداعيات كادت تعصف بالدولة المصرية. فشهدت الانتخابات البرلمانية وكذلك الرئاسية نسبًا مرتفعة من المشاركة مقارنة بانتخابات ما قبل 2011. وفيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية فإن تعدد المرشحين في الانتخابات الرئاسية منذ انتخابات عام 2005 كان عاملًا مهمًا في تحريك نسب المشاركة في الانتخابات. ولكن منذ عام 2011 وحتى انتخابات عام 2018 يمكن القول إن نسب المشاركة ارتفعت في الانتخابات أولًا كلما كان التهديد الذي تتعرض له الدولة من الخطورة بما يهدد بقاء الدولة على نحو ما حدث في انتخابات الرئاسة عام 2014. وثانيًا درجة وطبيعة الاستقطاب السياسي والاجتماعي في المجتمع، فكلما زادت حدة ذلك الاستقطاب زادت المشاركة، على نحو ما حدث في انتخابات عام 2012. في انتخابات الرئاسة 2018 لم تكن الدولة المصرية تواجه أيًا من ذلك الموقفين، فتراجعت نسبة المشاركة في الانتخابات بنحو 15% مقارنة بانتخابات 2012 و2014.
في هذا السياق، يمكن القول إن نسبة المشاركة في انتخابات الرئاسة القادمة سترتبط بشكل أساسي
أولًا بمدى تقدير المصريين لخطورة التحدي الذي تواجهه الدولة المصرية.
وثانيًا بمدى تأثير حملات التشكيك في الانتخابات وجدوى المشاركة فيها.
إذ دارت آلة التشكيك في الانتخابات ومدى نزاهتها حتى من قبل أن تبدأ عملية الانتخابات، فهذه المرة ليست الأولى التي تدور فيها تلك الآلة، فقد سبق للإخوان أن حاولوا استغلال كل المشاهد الانتخابية السابقة (الاستفتاء على الدستور والانتخابات البرلمانية ثم الانتخابات الرئاسية) لتأكيد مزاعمهم المتعلقة بأن ثمة عدم رضاء من المصريين عن تنفيذ المشروع الذي تبنته القوى الوطنية في الثالث من يوليو 2013.
وثالثًا بمدى اعتقاد المصريين بأن الانتخابات المقبلة تمثل كما انتخابات 2014 و2018 جولة جديدة من جولات الحرب والمواجهة مع القوى والدول الساعية لإفشال الدولة المصرية وإرجاعها مرة أخرى إلى حالة عدم الاستقرار والفوضى.
ورابعًا مدى إيمان المصريين بأهمية المشاركة، باعتبارها ليست دعمًا للمرشح عبد الفتاح السيسي أو لغيره من المرشحين، ولكن من أجل مواجهة مخطط إحراج الدولة، ولترسيخ فكرة المشاركة كقيمة إيجابية في حد ذاتها.
وأخيرًا، فإن نسبة المشاركة سترتبط بمدى الإيمان بأن المشاركة في الانتخابات هي حق كفله الدستور للمواطنين ولكنها أيضًا واجب، إذ تنص المادة 87 من الدستور المصري على أن “مشاركة المواطن في الحياة العامة واجب وطني، ولكل مواطن حق الانتخاب والترشح وإبداء الرأي في الاستفتاء، وينظم القانون مباشرة هذه الحقوق، ويجوز الإعفاء من أداء هذا الواجب في حالات محددة يبينها القانون”. وأن أهمية المشاركة في الانتخابات المقبلة تنطلق من منظور الواجب بأكثر مما تنطلق من منظور الحق، بما يجعل من المشاركة في تلك الانتخابات في ظل الظروف السابق الإشارة إليها فرض عين، وليس فرض كفاية يسقط بقيام البعض بممارسته.
رئيس وحدة الرأي العام/ رئيس تحرير الموقع الالكتروني