معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي التابع لجامعة تل أبيب؛ يقدم نفسه على موقعه الرسمي باعتباره نشأ في العام 1975 كرد فعل على حرب يوم الغفران 1973. فالجامعة الإسرائيلية الأشهر ومن داخل مجتمعها الأكاديمي، ارتأت حينها أن أحد الأسباب الرئيسية للمفاجأة الاستراتيجية الشاملة في السادس من أكتوبر 1973، هو أنه لم يكن هناك خارج مؤسسة الحكم الإسرائيلية، من يتولى مسؤولية تقييم المقدمات التي استندت إليها سياسات الحكومة، وهي المقدمات التي وجهت أيضا تخطيط وسلوك مؤسسة الدفاع الإسرائيلي بشقيها العسكري والاستخباراتي. لهذا يرى المعهد الإسرائيلي الشهير (INSS) لو كان مثل هذا المركز البحثي موجودا قبل حرب 1973، لكان من الممكن أن يشكك في الافتراضات والتقديرات التي أدت إلى التقييم الاستخباراتي، الكارثي من وجهة النظر الإسرائيلية، بأن “الحرب غير محتملة”.
وبالفعل منذ تاريخ انشاء المعهد الإسرائيلي، حرص على أن يضم في مجلس ادارته ومناصبه القيادية شخصيات مرموقة ممن لهم سجل وظيفي مميز، في الشؤون الخارجية والأمن والأعمال وممن لهم خلفية عسكرية وحكومية تجعلهم على اطلاع واسع، بعملية صناعة القرار على مختلف مستوياته كي يمكنهم تقديم المشورة الفعالة، والتقديرات الاستشرافية الدقيقة التي تحتاجها الدولة الإسرائيلية في دوائرها العليا. ويمكن من خلال الاطلاع على انتاج معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي طوال السنوات الماضية، أن نلحظ بسهولة أنه فعليا يحمل صوتا وتوجها أكثر رصانة من عديد المؤسسات الإسرائيلية، بالتأكيد بحثا عن مصالح واقعية للدولة الإسرائيلية لكن من خلال ترشيد لكثير من اندفاعات دوائر الحكم، التي تظل طوال الوقت أسيرة لمتطلبات السياسة الخاضعة بدورها للمزاج الانتخابي العام لمجتمع يعاني في الأساس، من حالة قلق مزمن تدفعه لأحضان المزايدات التي لا تتوقف، فدوائر الحكم الإسرائيلي تبدو لأي متابع لها وكأنها في سباق أزلي على مضمار التطرف والتشنج.
لهذا تبدو الدراسة الأخيرة المنشورة لمعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، وكأنها تغرد قليلا خارج سياق أجواء العدوان المحمومة، وتمارس بعض من التعقل المشار إليه ببحثها حول موضع بالغ الأهمية، وهو ما يتضح سريعا من عنوانها “إسرائيل ومصر في اليوم التالي من الحرب: كيف يمكن سد الفجوات؟ باعتبار أن هناك فجوات عميقة بين موقفي كلا من مصر وإسرائيل، من مجمل ما يجري في القطاع، بل والأهم فيما يخص تداعياته أيضا. الدراسة أعدها مجموعة متميزة من باحثي المعهد؛ لديهم اطلاع واسع على المواقف والمرتكزات المصرية فيما يخص قضايا الأمن الإقليمي، والعلاقات بين البلدين، هم أوفير وينتر وراط مورن وآدم شارون. ويقروا في البداية أن إسرائيل لم تعد بعد فكرة استراتيجية شاملة لليوم التالي للحرب على قطاع غزة، وبحسب ما جاء بالدراسة أنه في أي موقف سيكون مطلوبا من مصر أن تلعب دورا مركزيا. لذلك فمن الضروري زيادة التنسيق بين البلدين في الوقت الحاضر، وسيكون من الأفضل لو قامت تل أبيب والقاهرة بصياغة مخطط منسق بينهما، يخدم المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية لكليهما، ويسد الفجوات والخلافات المتوقعة في تصورهما لمستقبل قطاع غزة،كما يسمح أيضا بتسخير الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية الإضافية لتسوية النزاع.
الخطوط العريضة للدراسة توصي بأن الأفكار الأساسية للمستقبل، يجب أن تشمل تحييد السلطة العسكرية والحكومية لحماس، والعودة التدريجية والمشروطة لما يمكنتسميته بـ”السلطة الفلسطينية المتجددة” إلى قطاع غزة، لتمارس دورها كهيئة حكم مدنية ملتزمة بالسلام.كما تشمل تلك الخطوط الرئيسية؛ تطوير الإشراف المصري على محور فيلادلفيا والمعابر الحدودية بين غزة وسيناء، وبناء حزمة من الحوافز الاقتصادية لتوسيع التدخل المصري في قطاع غزة. لكن الفجوات التي عنيت الدراسة بالاشتباك معها؛ كانت وفق ما أوردته أن الجانب المصري “المتحد” في خطاب واحد يشمل القيادة ووسائل الإعلام والمؤسسات البحثية، يشير إلى أن مصر لا توافق على معظم الأفكار المطروحة في إسرائيل بشأن الحكم الإداري والأمني المستقبلي في القطاع، خاصة هذه الأفكار غير المرتبطة بتسوية شاملة للمشكلة الفلسطينية. بما في ذلك إدارة القطاع تحت حكم إسرائيل، أو تحت إشراف “قوات دولية” نيابة عن حلف شمال الأطلسي أو الأمم المتحدة. أو إدارة القطاع تحت رعاية قوى عربية؛ وتشكيل حكومة فلسطينية من التكنوقراط،بحيث تسيطر السلطة الفلسطينية على غزة دون شرط موافقة كافة الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس.
من النقاط الهامة في تلك الدراسة أنها بدت مدركة بوضوح، أن مصر غير مستعدة في ظل الظروف الحالية، لتولي مهمة حفظ الأمن داخل القطاع بعد الحرب، أو مراقبته أمنيا، أو المشاركة في القوات المتعددة الجنسيات التي وفق الافتراض الإسرائيلي ستعمل هناك. كما استطردت بذات الوضوح؛ أن مصر واقعيا لا تؤيد بقاء إسرائيل في نهاية الحرب في متناول اليد. حيث أن هزيمة حماس، والإعفاء من مسؤولية إدارة قطاع غزة، وفرض القوى الإقليمية والدولية الفاعلة على السلطة لفترة زمنية غير محدودة. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أن مصر تعارض استخدام قطاع غزة كقاعدة مسلحة مستديمة، إلا أنها تنفي استمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في المنطقة بعد الحرب، بأي شكل يتراوح من احتلالها الكامل، إلى إنشاء شريط أمني، أو في مناطق عازلة داخل حدودها.
فالدراسة ترى وهي هنا تعبر عن إلمام عميق بالهواجس المصرية: أنه خلف المعارضة المصرية للأفكار الإسرائيلية، تقف الشكوك حول رغبة إسرائيل وقدرتها على إلحاق هزيمة حاسمة بحماس، لن تتمكن من التعافي منها، حتى يتم خلق واقع مستقر وآمن في قطاع غزة، وعلى طول قطاع غزة مع حدود مصر. والخوف من بقاء القوات الإسرائيلية أو الأجنبية المتمركزة في غزة هناك لفترة غير محددة من الزمن، بحيث تصبح واقعا دائما. والتقييم بأن التمييز بين حل غزة وحل المشكلة الفلسطينية ككل؛ لن يتم أخذه بعين الاعتبار في نظر الفلسطينيين فقط، وبالتالي لن يحظى بدعم فلسطيني واسع، أو استقرار طويل الأمد. كما سيظل القلق حاضرا من أن تعمل حماس، على تقويض شرعية أي حكومة فلسطينية بديلة، بعد أن يتم طردها منها بالكامل وفق التصور الإسرائيلي الرسمي.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية