تجري الانتخابات الرئاسية المصرية 2024 بينما يشهد الواقع الدولي والإقليمي عمليات إعادة تشكيل تنسحب تبعاتها على المصالح المصرية وتتداخل مع القضايا ذات الاتصال المباشر بالأمن القومي المصري، وتطرح فرصًا وتفرض تحديات على الدور والمكانة المصرية، وتُعيد ترتيب أولويات أجندة السياسة الخارجية. وتناقش هذه الورقة ملامح التحولات في النظامين الدولي والإقليمي وما تفرزه من تحديات وفرص لمصر وإمكانية التعاطي معها.
إعادة تشكيل النظام الدولي
تُجمع الدراسات السياسية على أن النظام الدولي المستقر منذ انتهاء الحرب الباردة يمر بمرحلة مراجعة وتحولات دقيقة مرتبطة بتغيير أنماط التحالفات وبعملية إعادة توزيع القدرات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والسياسية أدت لظهور أقطاب دولية جديدة تحاول إنهاء الانفراد الأمريكي بقمة النظام الدولي وخلق نظام يوازن بين مراكز القوى المتنافسة. وقد ارتبط ذلك بانسحاب الولايات المتحدة من انخراطها المباشر في بعض الأزمات العالمية كان آخرها أفغانستان والعراق لصالح مساحات أكبر لأطراف دولية أخرى مثل قيام الصين بأدوار وساطة ناجحة في الشرق الأوسط –وإن كانت محدودة– على غرار إنجاز التقارب السعودي الإيراني. ولعل فشل واشنطن في حماية الاستقرار العالمي ومنع اندلاع النزاعات الذي تجلى في عجزها عن معالجة المخاوف الروسية واحتواء الحرب الأوكرانية، كاشف لانفكاك القبضة الأمريكية عن الإمساك بخيوط المشهد الدولي، علاوةً على الفشل في قيادة جهود دولية ناجعة لقضايا الأمن غير التقليدي مثل الهجرة غير الشرعية والتغيرات المناخية، فضلًا عن تراجع دور المنظمات التقليدية في احتواء ومعالجة القضايا السياسية والاقتصادية الناشئة مقابل ظهور تكتلات ومنظمات وتحالفات جديدة.
واستنادًا إلى حقيقة مفادها أن المراحل الانتقالية من عمر النظام الدولي ولا سيما عند الانتقال من نظام أُحادي القطبية إلى نظام مُتعدد الأقطاب تسمح بمساحات حركة للقوى المتوسطة والصغيرة لإعادة تشكيل تحالفاتها وترسيخ موطئ قدم في ظل هيكل القوة الجديد، فإن الواقع الدولي الراهن يحمل بين طياته فرصًا وتحديات أمام الدور المصري. أما بخصوص الفرص فتتعلق بإمكانية ممارسة القاهرة دورًا أوسع وإتاحة مرونة حركة على الساحة العالمية، وهو ما يتطلب منها تعزيز العلاقات مع الأقطاب الدولية الصاعدة مثل الصين وروسيا والهند، وإيجاد صيغة توازنية مع الولايات المتحدة، والاشتباك مع القضايا العالمية ذات الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والتنموية التي تحتل أولوية على أجندة النظام الدولي، وطرح رؤى وبدائل متماسكة إزاء التعاطي معها انطلاقًا من الخبرات المصرية. وتوجيه انتقادات للسياسات العالمية الحالية والمبادئ الحاكمة للنظام الدولي الراهن، ومحاولة التأثير في السياسات العالمية والتعبير عن الرؤية المصرية للمبادئ المتصورة للنظام الدولي الجديد مثل: المساواة، وسياسات عدم التدخل السياسي والعسكري، والحلول السياسية للأزمات، والحوكمة الدولية، والالتزام بمبادئ القانون الدولي. علاوةً على التحرك ضمن دوائر غير تقليدية للسياسة الخارجية وطرق مناطق غابت كثيرًا عن التحركات المصرية، مثل دول آسيا الوسطى والقوقاز وأوروبا الشرقية ومجمعة فيشجراد، وهو السياق الذي يُمكننا قراءة زيارة الرئيس السيسي لدولتي أرمينيا وأذربيجان خلاله. إضافة إلى تعزيز الاندماج في شبكة التفاعلات الدولية التي تُعبر عن إرهاصات عالم ما بعد الأحادية القطبية عن طريق الانضمام للهياكل المؤسسية السياسية والاقتصادية الناشئة، وقد انضمت القاهرة بالفعل لمجموعة البريكس وذراعه الاقتصادي بنك التنمية الجديد، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، وكلاهما منظمتان تعكسان التحولات في هيكل النظام الاقتصادي العالمي.
أما التحديات فتفزرها المواجهات بين الأقطاب الدولية وسياسات الاستقطاب التي تُسهم في ظهور أزمات دولية تنصرف تبعاتها إلى العديد من دول العالم وبالأخص النامية منها، مثل أزمة الغذاء التي أفرزتها الحرب الأوكرانية. كذلك، فإنها قد تنتج عن تبني سياسات تدخلية أو عسكرية تُفضي إلى تأجيج الاضطرابات السياسية والأمنية.
واقع إقليمي جديد
تُعد مصر جزءًا لا يتجزأ من النظامين العربي والشرق أوسطي اللذين يشهدان تحولات لا تنفصل عن تحولات النظام الدولي بل تعتبر انعكاسًا لها، فالنظامان العربي والإقليمي نشأا في ظل الهيمنة الأمريكية، وأي تغيرات تطرأ على الأخير سيعكس بلا شك على هيكل توزيع القوة بالشرق الأوسط، وأنماط التفاعلات بين دوله، وتوجهاتها إزاء قضايا المنطقة، وإدراكاتها وتصوراتها إزاء الفرص والتحديات الناشئة، واختياراتها لأدواتها الصراعية أو التعاونية، وهي جميعها عوامل حاكمة لآليات التفاعلات الإقليمية وبالتالي الاستقرار الإقليمي.
وقد انعكست إرهاصات التحول في النظام الدولي نحو التعددية القطبية على التوجهات الإقليمية في الشرق الأوسط، حيث دفعت بعض دولها نحو إعادة صياغة المعادلات الإقليمية وتشكيل أُطر تعاونية وتكاملية إقليمية جديدة انطلاقًا من إدراكها لانحصار الغطاء الدولي المحفز لبعض السياسات العدائية وفشل محاولات إعادة هندسة المنطقة من خلال الربيع العربي، والسعي لإرساء مكانة داخل النظام الدولي خلال مرحلة إعادة التشكيل استغلالًا للموارد الاقتصادية والبشرية الوفيرة المتوفرة لدى المنطقة. كما أن تراجع الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط لصالح التركيز على التهديد الصيني الناشئ أسهم في تهدئة بعض القضايا نتيجة تبني نهج يُعطي الأولوية للدبلوماسية والتعددية باعتبارها الوسيلة الأكثر فاعلية لتعزيز الاستقرار مقابل تقليل التدخلات العسكرية. وبالفعل، شهدت الفترة الأخيرة بعض التطورات الإيجابية المتعلقة بعودة سوريا للجامعة العربية، والتقارب السعودي الإيراني، والمصالحات التركية الخليجية، وعقد اجتماعات متعددة الأطراف لمناقشة قضايا المنطقة مثل “قمة بغداد”.
علاوةً على أن تعدد اللاعبين الدوليين الفاعلين في المنطقة يتيح هامش مناورة أمام الأطراف الإقليمية، ويساهم في تبني سياسات تعاونية مع دول الشرق الأوسط، وبالتالي تعزيز السياسات التوافقية والسعي لتكامل اقتصادي بين اقتصاديات المنطقة وبعضها وبين الاقتصاديات المتقدمة والنامية (مبادرة الحزام والطريق مثال)، وتبني سياسات لتحقيق السلام الإقليمي ومكافحة الإرهاب، بعكس التدخلات الأحادية التي ربما تتسبب في تأجيج سياسات عدائية وتدفع المنطقة إلى مستويات تصعيدية غير مسبوقة.
هذه البيئة تخلق فرصًا أوسع للقاهرة للاندماج في اُطر تعاونية إقليمية، والانخراط بشكل أكبر في عمليات التشاور والتنسيق من خلال طرح الرؤى والحلول بغرض تسوية أزمات المنطقة وفق صيغ تساهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي وإرساء المبادئ المصرية وفي مقدمتها رفض التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، والحفاظ على مؤسسات الدولة الوطنية كونها الوحدة الأساسية للنظام الإقليمي العربي، وإعطاء الأولوية للتنمية الاقتصادية، ومحاربة الإرهاب وتجفيف منابعه، واحترام الأعراف الدولية ومبادئ القانون الدولي، وتحقيق التكامل الإقليمي.
ومع ذلك، بقدر ما تخلق تحولات النظام الدولي فرصًا أمام الأطراف الإقليمية لتوسيع حركتها فإنها في الوقت ذاته تحمل تبعات سلبية تتعلق بخلق حالة من الفراغ الاستراتيجي تسعى أطراف دولية وإقليمية ربما متعارضة المصالح لملئه وطرح نفسها كطرف في أي ترتيبات مستقبلية بما يعزز الاضطراب الإقليمي والفوضى الأمنية، ويمنح القوى الإقليمية فرصة لإعادة التموضع وفقًا لمصالحها. ويُضاف إلى ذلك استمرار حالة السيولة الأمنية والاضطرابات السياسية داخل العديد من دول المنطقة في ظل غياب الحل السياسي واستمرار التدخلات الإقليمية والدولية في دول الأزمات، واستمرار التهديد الإرهابي رغم انحصاره الكبير خلال السنوات الأخيرة.
وقد جاءت حرب غزة لتُربك مساعي التهدئة الإقليمية، ولتشعل الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط التي لم تكن قد هدأت أصلًا، ولتُساهم في مراجعة الولايات المتحدة لأدوارها وحضورها المستقبلي بالمنطقة بما يحمله هذا من تبعات على الملفات الإقليمية الرئيسية مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإدارة التوترات مع إيران ولا سيما فيما يتعلق بالملف النووي، والتطبيع العربي الإسرائيلي، والوجود الأمريكي في العراق وسوريا. ويجدر بنا التوقف هنا عند الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024 التي تعتبر عاملًا مُحددًا لمستقبل السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط الذي يتوقف على النهج الذي ستتبعه الإدارة الجديدة فيما يتعلق باستراتيجيتها تجاه الدول العربية وإيران.
هذا المشهد يتطلب من القاهرة ترتيب أولويات القضايا الإقليمية والاشتباك معها على قاعدة المصالح المصرية وحماية الأمن القومي، والإبقاء على تواصل مع الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في قضايا المنطقة، والمبادرة بطرح رؤى لمعالجة الأزمات الرئيسية في فلسطين وليبيا وسوريا ولبنان والسودان على سبيل المثال، وطرح قضايا التنمية والتعاون الاقتصادي كمسار بديل للنزاعات، والتنسيق مع الأطراف الإقليمية لمعالجة التهديدات الأمنية المشتركة مثل الإرهاب ومشكلات التهريب الحدودية، وتوظيف الإمكانيات المادية والخبرات التاريخية ونجاح النموذج المصري كثلاثية قوة تمنح مصر أفضلية للقيام بأدوار إقليمية فاعلة ضمن جهود جماعية تكاملية.
ختامًا، تتطلب البيئة الدولية والإقليمية تنشيط التحركات المصرية الخارجية، وتوسيع دوائر الحركة لتضم دوائر غير تقليدية، وهي السياسات التي تحركت فيها القاهرة بالفعل خلال السنوات الماضية، والسعي دائمًا للتحرك في مسارات متوازية لحماية الأمن القومي المصري.











