انتهت مرحلة التصويت فى الانتخابات الرئاسية، وبعد أيام قليلة سنعرف نتيجة سباق المرشحين. لسنا بحاجة للانتظار أياما إضافية لكى نحتفل بالفائز، فلدينا بالفعل أكثر من فائز يستحقون أن نحتفى بهم. هناك أحزاب سياسية لعبت دورا رئيسيا فى تعبئة الناخبين، فأثبتت أن لديها تنظيمات وشبكات تواصل وقيادات محلية فعالة، تؤهلها للقيام بمبادرات مستقلة وشغل مساحة أكبر فى حياتنا السياسية. هناك أحزاب سياسية أثبتت أنها حقيقية وقادرة، تستحق مجالا عاما أكثر اتساعا. وهناك شخصيات سياسية سمعها الناخبون ورأوها لأول مرة، فأضافت عمقا واتساعا لمجالنا السياسي.
الناخب المصرى هو الفائز الأول فى هذه الانتخابات. معدلات التصويت المرتفعة تقول الكثير عن الناخب المصري. القسم الأكبر من الناخبين لم يذهب لصندوق الاقتراع خضوعا لإغراء أو تجنبا لعقاب، وإنما لدعم نظامه السياسى وقيادته ضد ضغوط خارجية غير مسبوقة، وضد مؤامرات صريحة تريد استتباع مصر استغلالا لظروف الأزمة الاقتصادية، واقتطاع قطعة من أرضها وسط فرقعات القنابل وصراخ الضحايا. التصدى لضغوط ومؤامرات الخارج، ودعايات منشقين لا يكفون عن إطلاق دعاية مسمومة، تستهدف إعادة إنتاج مشهد فوضى يناير، الذى يدرك المصريون أنهم كانوا محظوظين بشدة لعبوره بسلام فى المرة الأولى، لكن الجرة لا تسلم فى كل مرة، ولهذا هم متمسكون بصندوق الانتخاب.
أثبت جمهور الناخبين المصريين أنهم أكثر نضجا مما يظن الكثيرون. هناك أزمات اقتصادية نعم، لكن الناخب المصرى برهن أن لديه نضجا لا يجعله يختزل تقييمه لأداء الدولة والرئيس والنظام والحكومة فى عامل واحد فقط هو الأسعار والاقتصاد، فهناك أشياء أخرى لا تقل أهمية تتعلق بالانتماء الوطنى والاستقرار والأمن والبدائل المتاحة والرؤية المستقبلية. أظهر خروج الناخبين للاقتراع أن نظرية «الإنسان حيوان اقتصادى» الرائجة بين كثير من السياسيين بعيدة عن الدقة، وأنه من الخطأ اختزال المزاج الشعبى فى بورصة الأسعار، فمشاعر الجماهير وتفضيلاتها أعمق كثيرا من أن يتم اختزالها بهذه الطريقة المبسطة.
خرجت الأحزاب السياسية الرئيسية فائزة فى الانتخابات الرئاسية، فعلى كل الجبهات كانت هناك أحزاب سياسية تقوم بأدوار أسهمت فى إخراج المشهد الانتخابى الرائع. هناك أولا الأحزاب المؤيدة للرئيس عبدالفتاح السيسى، والمعروفة بأحزاب الموالاة، وعلى رأسها حزب امستقبل وطن وحماة الوطن. لعبت هذه الأحزاب الدور الرئيس فى تعبئة وتنظيم وتوجيه ملايين الناخبين فى أيام الاقتراع، وأثبتت أنها تمتلك تنظيمات وشبكات اتصال وقيادات محلية فعالة وقادرة على الحشد. هذا تطور شديد الأهمية، فالقدرة على الحشد هى وثيقة التأمين الأكثر فعالية ضد دعاة الفوضى المتربصين، وقد مر علينا زمن كان فيه الإخوان يتباهون باحتكار القدرة على الحشد، فكانوا يردعون الحكومات، ويفرضون التبعية على المعارضين، وهو الوضع الذى وصل بنا إلى فوضى يناير وما بعدها.
لقد نجحت الكيانات التنظيمية والحزبية فى تعبئة الناخبين للخروج للتصويت، وهذا فعل سياسى بامتياز.فى خروج الناخبين بالملايين للتصويت تسييس لهم، والأرجح أن قسما منهم سيشرع فى إظهار اهتمام بالسياسة لم يكن عنده سابقا. هذا استحقاق مهم لابد من أخذه بجدية والاستعداد للتعامل معه، عبر توفير إجابات للأسئلة التى قد تظهر، وأطر مؤسسية وتنظيمية تستوعب الراغبين الجدد فى المشاركة.
التنظيم بالنسبة للحزب السياسى أكثر أهمية من البرنامج والأيديولوجيا. هذا هو أحد الدروس المهمة للانتخابات الأخيرة. لا أقول إن البرامج والأيديولوجيا غير مهمة، لكنى أقول إن أهميتها النسبية أقل بكثير مما يظنه المثقفون من جماعات النخبة عندما يقررون العمل بالسياسة، فيستنزفون جهدهم فى كتابة برامج وتحليلات لا تخرج من غلاف الكتاب الذى يضمها، بدلا من الاستثمار فى السياسة الحقيقية، أى فى التنظيم والتواصل مع الناخبين.
فى المشهد أيضا أحزاب سياسية قدمت مرشحيها للمنافسة فى الانتخابات الرئاسية. حزبا الشعب الجمهورى والديمقراطى الاجتماعى قدما رئيسيهما للمنافسة على منصب الرئيس، فيما ساند حزب العدل بنشاط مرشح الحزب الديمقراطى الاجتماعى فى حملته. المشاركة فى الانتخابات هى أفضل القرارات التى اتخذتها هذه الأحزاب. فقد صنعت هذه الأحزاب لنفسها فرصة لتقديم نفسها وقياداتها للناخبين، واختبار هياكلها التنظيمية وقدرتها على التواصل مع فئات الشعب المختلفة، وتدريب كوادرها على مهارات العمل السياسى الحقيقى خارج قاعات الاجتماع والغرف المغلقة. أتوقع مضاعفة عضوية هذه الأحزاب فى الفترة المقبلة، وأتوقع لها أداء جيدا فى الانتخابات البرلمانية المقبلة، وأتوقع أيضا نهضة وحركة إصلاحية فى حزب الوفد، تسعى لاستعادة المكانة التى كانت للوفد فى أوقات سابقة، وفى هذا إثراء للحياة السياسية التعددية، وخطوات إضافية نحو الحداثة السياسية والديمقراطية.
المكاسب المتوقعة للأحزاب المشاركة تدعو جماعة المقاطعين، ترشحا وتصويتا، لإعادة التفكير فى صحة ما اتخذوه من قرارات، وما إذا كانوا أفضل حالا الآن مما لو كانوا شاركوا فى الانتخابات. الفارق بين المشاركين والمقاطعين هو الفارق بين جماعات نخبة متمسكة بالبقاء فى المنطقة المريحة، بكل ما فى ذلك من انعزال، وجماعات أخرى نخبوية أيضا، لكنها مستعدة لتكبد مشقة الخروج من هذه الفقاعة المخملية.
روح المسئولية والفاعلية والحرص على الوطن التى تحلى بها الناخبون والأحزاب السياسية الرئيسية تقترب بنا من إفساح مساحة أكبر للعمل السياسى والتعبير والحوار العام، دون قلق مما قد تأتى به سياسة فتح الأبواب. فتح المجال العام هو أحد أهم وعود الجمهورية الجديدة الذى أظهر الناخبون والأحزاب جدارتهم به.






