شهد مسار التصعيد في منطقة البحر الأحمر بين الحوثيين من جانب، والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا من جانب آخر، خلال الأيام الماضية، العديد من المتغيرات المهمة، التي تعبر في مجملها عن احتمالية تنامي وتيرة المواجهات بين الجانبين، وكذا احتمالية تبني أنماط تصعيدية أكثر خطورة، ولعل الاستهداف الذي حدث لخطوط الاتصالات الممتدة تحت البحر الأحمر قبالة سواحل اليمن، التي تربط بين شبه الجزيرة العربية وأفريقيا، كان أحد المؤشرات المهمة على اتجاهات التحول في مسار التصعيد، جنبًا إلى جنب مع التداعيات السلبية لبعض العمليات في البحر الأحمر، على غرار الاستهداف الحوثي للسفينة البريطانية “روبيمار” وما ترتب عليه من تسرب نفطي، ولعل الإشكال الرئيسي في حالة التصعيد الذي تشهده منطقة البحر الأحمر، يرتبط ببعدين رئيسيين؛ الأول هو التداعيات الكبيرة لهذا التصعيد على كافة دول المنطقة والعالم، والثاني هو ارتباطه إلى حد كبير بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مما يجعل أي مقاربات للتعامل مع التهديد الحوثي في البحر الأحمر، تقتضي أن تبدأ من قطاع غزة.
اتجاهات التصعيد الراهنة
بدأ التصعيد الحوثي في منطقة البحر الأحمر منذ 19 أكتوبر 2023، وذلك مع بدء الحوثيين في استهداف جنوب الأراضي المحتلة ممثلًا في إيلات عبر الطائرات المسيرة، كجزء من الانخراط في تداعيات الحرب الجارية في قطاع غزة، في إطار ما يُطلق عليه “مبدأ وحدة الساحات”، لكن التصعيد الحوثي اتخذ منحى أكثر خطورة منذ 19 نوفمبر وهو تاريخ بدء العمليات ضد السفن في البحر الأحمر، عندما تم اختطاف السفينة “غالاكسي ليدر”، ومنذ ذلك الحين شهدت منطقة البحر الأحمر العديد من التفاعلات والتحركات التي غلب عليها “التصعيد المحسوب” و”العسكرة” لهذه التفاعلات، ويمكن إجمال الاتجاهات الرئيسية المعبرة عن مسار التصعيد في منطقة البحر الأحمر، وذلك على النحو التالي:
1- التركيز الحوثي على استهداف الملاحة البحرية: تواجه العمليات الحوثية صعوبات وتحديات متعددة الأنماط على مستوى فاعلية استهداف المواقع الإسرائيلية جنوب الأراضي المحتلة، ولعل ذلك يرتبط بشكل رئيسي ببعد المسافة الجغرافية، وعدم امتلاك اليمن لحدود مباشرة مع إسرائيل، الأمر الذي دفع الحوثيين إلى التركيز على نمط عملياتي قائم على استهداف الملاحة البحرية في البحر الأحمر، سواءً عبر استهداف السفن الذاهبة إلى إسرائيل أو القادمة منها، أو استهداف بعض السفن الخاصة بالولايات المتحدة وبريطانيا.
وفي هذا السياق يوجد جملة من الملاحظات؛ أولها: أن العمليات الحوثية مستمرة على الرغم من التحركات المكثفة التي تبنتها الولايات المتحدة لإيقافها أو تحجيم آثارها، بما وصل إلى ما يزيد على الـ 45 عملية حتى اليوم، وثانيها: اعتماد الحوثيين بشكل كبير على الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية، وثالثها: أن هذا النمط الحوثي من التصعيد استهدف الضغط على المجتمع الدولي من بوابة التكلفة الاقتصادية للعمليات في البحر الأحمر.
2- “عسكرة” التحركات الدولية في البحر الأحمر: كان الاتجاه الغالب لتعاطي القوى الدولية مع التهديد الحوثي في البحر الأحمر قائمًا بشكل رئيسي على فكرة “عسكرة التفاعلات”، بمعنى الشروع في أنماط من التحرك لاستعادة الردع تجاه الحوثيين، وقائمًا بشكل رئيسي على تعزيز الوجود العسكري التأميني والدفاعي في منطقة البحر الأحمر، بما يضمن من جانب تأمين الممر الملاحي الاستراتيجي، ومن جانب آخر إيصال رسائل ردع اعتقدت بعض الأطراف الدولية أنها قد تمنع الحوثيين عن التمادي في التصعيد.
وكانت آلية تشكيل هياكل أمنية جديدة في منطقة البحر الأحمر، معبرة بشكل واضح عن هذه المقاربة، ففي 19 ديسمبر 2023 أعلنت الولايات المتحدة عن تأسيس تحالف “حارس الازدهار”، وقد أعلن البنتاجون في 21 ديسمبر 2023 عن أن أكثر من 20 دولة وافقت على المشاركة في التحالف، وينضوي هذا التحالف تحت مظلة “القوات البحرية المشتركة” المتعددة الجنسيات، بقيادة الولايات المتحدة، و”القوة 153″ التابعة لها، وعلى المنوال نفسه أعلن الاتحاد الأوروبي في 19 فبراير الجاري عن تأسيس قوة “أسبيدس” في منطقة البحر الأحمر، بميزانية تبلغ نحو 8 ملايين يورو توفرها خزانة الاتحاد الأوروبي. وفي المرحلة المقبلة سيتم إعداد خطة العمليات وقواعد الاشتباك وتشكيل القوة البحرية والجوية التي ستتولى الدوريات في أجواء مياه البحر الأحمر، وصولًا إلى إرسال الأسطول الـ46 الجنوبي الصيني إلى منطقة البحر الأحمر؛ الأمر الذي يمكن قراءته على أنه تطور مهم في إطار المقاربة الصينية للتعامل مع التطورات في منطقة البحر الأحمر.
3- الاعتماد الغربي على “العمليات المحسوبة”: بدأت الدول الغربية وخصوصًا الولايات المتحدة وبريطانيا منذ 12 يناير 2024، في تبني شكل آخر من أشكال التصعيد ضد الحوثيين، متمثلًا في تنفيذ عمليات استباقية تستهدف من جانب تحقيق الردع للحوثيين، ومن جانب آخر تدمير قدراتهم القتالية والعسكرية، لكن الملاحظ أن هذه العمليات وعلى الرغم من كثافتها الظاهرية، في إطار ما يمكن وصفه بـ “العمليات المحسوبة” بمعنى نمط العمليات العسكرية التي تستهدف البنى التحتية الخاصة بالتنظيم وقدراته القتالية ولا تستنفر رد فعله بالشكل الذي يؤجج التصعيد، إلا أن هذا النمط من التصعيد لم يؤثر فعليًا على القدرات القتالية للحوثيين، ولم تساهم حتى في تخفيف حدة عملياتهم في البحر الأحمر، وهو ما أكده قائد الأسطول الأمريكي الخامس جورج ويكوف، الذي أشار في تصريحات صحفية يوم الاثنين إلى أن الضربات الجوية بقيادة الولايات المتحدة على الحوثيين في اليمن المستمرة منذ أكثر من شهر لم تردعهم، معبرًا عن أمله أن الضغوط الدبلوماسية قد تجعلهم يوقفون هجماتهم على السفن.
ولعل عدم فاعلية سياسة “الضربات المحسوبة” تجاه الحوثيين ترجع إلى جملة من الاعتبارات؛ أولها: أن هناك رسائل مسبقة عادةً ما يتم تمريرها إما من خلال وسائل الإعلام أو بعض قنوات الاتصال السرية بخصوص هذه الهجمات، الأمر الذي يدفع الحوثيين إلى الاستعداد لها، وثانيها: أن الحوثيين وككل المليشيات والفاعلين من دون الدول يعتمدون على منصات إطلاق صواريخ متنقلة وبدائية، بما يسهل عملية تغيير أماكنها بسهولة، وثالثها: أن التنظيم يعمد في الفترات الأخيرة إلى نقل مخازن الأسلحة الخاصة به إلى مناطق مكتظة بالسكان، وهي المناطق التي يصعب استهدافها من قبل الولايات المتحدة، ورابعها: أن الهيكل القيادي للحوثيين موجود في بنى تحتة تحت الأرض بما يزيد من صعوبة استهداف قيادات التنظيم.
مسارات التصعيد المحتملة
كان التساؤل الرئيسي الذي يطفو على السطح في أعقاب التحركات العسكرية الغربية المتنامية في منطقة البحر الأحمر، للتعامل مع التهديد الحوثي، يرتبط بمدى قدرة هذه التحركات سواءً عبر تشكيل التحالفات الأمنية أو توجيه الضربات الاستباقية، في تحقيق الردع تجاه التنظيم، لكن المؤشرات الراهنة تعكس عدم فاعلية هذه التحركات على مستوى مواجهة الحوثيين أو تحقيق فكرة الردع، وفي هذا السياق يبدو أن مشهد التصعيد في البحر الأحمر قابل للاستمرار، بل واحتمالات التصعيد الأكبر، خصوصًا مع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ويمكن القول إن الفترات المقبلة قد تشهد بعض أنماط التصعيد الجديدة، من قبل أطراف المواجهة في البحر الأحمر، وذلك على النحو التالي:
1- توسيع بنك الأهداف الحوثية: كانت حصيلة العمليات العسكرية الغربية تجاه الحوثيين، حتى اللحظة، مزيدًا من التصعيد في منطقة البحر الأحمر، وفي هذا الإطار ومع استمرار الحرب في قطاع غزة، وكذا تعدد أنماط الاستفادة الحوثية من حالة التصعيد الراهنة، خصوصًا على مستوى إعادة بناء القواعد الشعبية، وتوظيف هذه الحالة كإحدى أدوات الضغط في مباحثات السلام اليمنية، جنبًا إلى جنب مع زيادة الانخراط في المحور الإيراني في المنطقة، وما يتبع ذلك من استفادة مالية ولوجستية وعسكرية، يمكن أن يتجه التنظيم إلى توسيع بنك أهدافه في منطقة البحر الأحمر.
ويفترض هذا السيناريو استمرار سياسة الاستهداف الحوثية للملاحة البحرية في البحر الأحمر، وعدم قصره على سفن الشحن ذات الروابط الإسرائيلية المباشرة. ليشمل سفن الحاويات، وناقلات النفط، وناقلات الغاز الطبيعي المسال، وناقلات البضائع، وغيرها من السفن ذات المصادر المختلفة التي تدخل في إطار جدول الأهداف الحوثية، مع تبني بعض العمليات النوعية، على غرار استهداف بعض القواعد العسكرية الغربية في دول الجوار، كما فعلت بعض المجموعات العراقية المرتبطة بإيران عندما استهدفت قواعد عسكرية أمريكية في الحدود السورية الأردنية، أو استهداف البنى التحتية المهمة في منطقة البحر الأحمر، مثل كابلات الاتصالات، وعلى الرغم من نفي التنظيم مسئوليته عن الاستهداف الأخير الذي حدث لبعض كابلات الاتصالات، ربما لحسابات سياسية خاصة باللحظة الراهنة، إلا أن الحوثيين لوحوا بهذا النمط من التصعيد في أكثر من مناسبة، وكذا أعلن التنظيم في 24 فبراير عن إدخال سلاح الغواصات في عملياته بالبحر الأحمر، ما يعني عمليًا الانتقال إلى مرحلة جديدة من التصعيد، تشمل عمليات ضد بعض الأهداف تحت مياه البحر الأحمر.
2- اتساع نطاق التصعيد الغربي ضد الحوثيين: يفترض هذا السيناريو مسارين رئيسيين؛ الأول: هو استمرار مساعي الدول الغربية وخصوصًا الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي لحماية وتأمين الملاحة البحرية، وصد هجمات الحوثيين، على غرار ما حدث اليوم 28 فبراير عندما قامت الفرقاطة البحرية الألمانية (هيسن)، التي تم نشرها في البحر الأحمر كجزء من مهمة “أسبيدس”، بالتصدي لطائرتين مسيرتين حوثيتين، أما المسار الثاني: فيتمثل في توسيع نطاق العمليات الاستباقية ضد الحوثيين، وجعلها أكثر فاعلية، بما يضمن زيادة التكلفة التي يتكبدها التنظيم، وهنا يُستبعد أن تُقدم الولايات المتحدة على تصعيد واسع على غرار محاولة تحرير ميناء الحديدة من سيطرة الحوثيين، لكن العمليات في إطار هذا السيناريو قد تُركز على الاستهداف الفاعل للبنى التحتية الحوثية، مع إمكانية التحول نحو تنفيذ بعض العمليات النوعية ضد قيادات التنظيم.
ويدعم هذا السيناريو بعض المحددات الرئيسية، وعلى رأسها إقرار الدول الغربية بعدم فاعلية الجهود الحالية لردع الحوثيين؛ الأمر الذي استدعى تنامي النقاشات بخصوص أنماط جديدة للتعامل مع هذا التهديد في البحر الأحمر، جنبًا إلى جنب مع محددات أخرى، وعلى رأسها تنامي تكلفة التصعيد الحوثي في البحر الأحمر، وحرص الدول الغربية على تجنب اتساع نطاق المواجهات، وكذا الحرص على مسار السلام اليمني الحالي الذي يقوده المبعوث الأممي.
وفي الختام، يمكن القول إن المتغيرات الأخيرة التي شهدتها منطقة البحر الأحمر، في إطار التصعيد الجاري، سواءً ما يتعلق بالاستهداف الذي حدث لبنى الاتصالات الرئيسية في مياه البحر الأحمر، أو استهداف حاملات النفط، تُعبر في مجملها عن اتخاذ أنماط التصعيد بين الحوثيين والدول الغربية منحى تصاعديًا أكبر؛ الأمر الذي يُنذر باستمرار المواجهات واتساع نطاقها وأهدافها، لكن محددات الموقف في البحر الأحمر، تظل محكومة بجملة من الاعتبارات وعلى رأسها المآلات الخاصة بمسار التهدئة في غزة حاليًا، وكذا مدى قدرة الهياكل الأمنية الجديدة في البحر الأحمر على التعامل مع التصعيد الحوثي بشكل أكثر فاعلية.
باحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية