عقب أيام من تنفيذ الضربة الإيرانية على إسرائيل عبر سلسلة من الطائرات غير المأهولة والصواريخ الباليستية والكروز، كان من اللافت تصدر الإعلام الغربي والإسرائيلي عدة تقارير تفيد بأن الولايات المتحدة أجرت مفاوضات مع طهران لتحديد سقف الهجوم الإيراني بما يضمن عدم تسببه في أضرار فادحة لدى إسرائيل، لتؤكد طهران حينها أن الهجوم سيأتي فقط رداً على ضرب القنصلية الإيرانية في دمشق ومقتل عدد من قادة إيران العسكريين، أبرزهم محمد رضا زاهدي، القيادي البارز في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني ، ومساعده العميد محمد هادي حاج رحيمي، وأنه لن يتجاوز هذا النطاق، وهو ما ردت عليه واشنطن قائلة :”أن الضربة يجب أن تكون ضمن حدود معينة”، مُضيفة على لسان مستشار اتصالات الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي أن “الولايات المتحدة لا تريد تصعيدا للأزمة في الشرق الأوسط، ولا تسعى إلى حرب أكثر اتساعا مع إيران”.
علاوة على ذلك، أنه قبل أسبوع تقريبا من انطلاق الهجوم الإيراني على إسرائيل، نقلت واشنطن بعض من أسراب المقاتلات الإضافة إلى المنطقة، ، مؤكدة أنها لا تزال هناك بدون تحديد البلدان التي تتمركز فيها تلك الطائرات، وفق المتحدث باسم البنتاغون، الجنرال بات رايدر. في حين أوضح مصدر دبلوماسي تركي أن طهران أبلغت مسبقا أنقرة بهجومها على تل أبيب، كما قال مسؤولون عراقيون وأردنيون إن طهران قدمت إنذارا مبكرا بأنها ستنفذ الهجوم وشمل الإنذار تقديم بعض التفاصيل. ومن ثم، فإن تعدد ودقة الترتيبات الخاصة بالهجوم الإيراني بشكل افقد الهجوم عنصر المفاجأة ، ومع محدودية الخسائر والأضرار التي اسفرت عن الضربة الإيرانية لإسرائيل والتي جعلت من الرد الإيراني رداً رمزياً، ثار تساؤل رئيسي مفاداه؛ هل حققت تل أبيب مكاسب جراء الضربة الإيرانية؟.
انطلاقاً مما سبق، تهدف المقالة لمناقشة كيف تمكنت تل أبيب من توظيف الضربة الإيرانية على تل أبيب للخروج بأكبر قدر من المكاسب في العديد من الملفات، سواء في الداخل الإسرائيلي في خضم تراجع شعبية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أو على المستوى الإقليمي، أو على المستوى الدولي بعدما تحولت المواقف الدولي، لاسيما الغربية من داعم لتل أبيب في حربها على غزة، إلى منتقد لإدارة دفة الحرب جعلت على إثرها إسرائيل في عزلة دولية، ناهيك عن دور الضربة في إزالة التوتر القائم بين إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وإدارة نتنياهو، وتمرير الكونجرس الأمريكي لحزمة المساعدات الأمريكية لتل أبيب . وهو ما يُمكن مناقشته على النحو التالي:
أولاً: عقدة طوفان الاقصى..إعادة ثقة المجتمع الإسرائيلي في منظومته الدفاعية وقيادته السياسية والعسكرية
تسببت عملية طوفان الأقصى في أزمة ثقة بين المجتمع الإسرائيلي والمنظومة الدفاعية الإسرائيلية والأجهزة الاستخباراتية من جانب، إلى جانب هز ثقة المجتمع الإسرائيلي في قيادته السياسية والعسكرية وقدراتهم على حماية الأمن القومي لإسرائيل من جانب آخر، لذا كانت الضربة الإيرانية على تل أبيب بمثابة قبلة الحياة للقادة السياسيين والعسكريين والإسرائيليين لترميم أزمة الثقة بينهم وبين المجتمع الإسرائيلي، عبر التسويق لإخفاق الضربة الإيرانية في تحقيق أهدافها بفضل منظومة الدفاع الإسرائيلية التي تمكنت من صد واعتراض الضربة وهو ما يُعد إنجازاً إسرائيلياً على كافة المقاييس، يُستدل عليه عبر عدة مؤشرات منها؛ ما نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية في تحليل لأحد كتابها “عاموس هاريل”، الذي قال أنه على الرغم من الضربة الانتقامية من إيران إلا أن صد الهجوم يعد “إنجازا إسرائيليا”، يعكس القدرات العملياتية المذهلة التي أظهرها سلاح الجو الإسرائيلي بالتعاون مع واشنطن والدول الصديقة الأخرى في الشرق الأوسط وأوروبا.
ولقد اتفق تحليل صحيفة هآرتس الإسرائيلية في مضمونه مع تحليل للكاتب “أتيلا سومفالفي” في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية الذي أكد أن أحد مزايا الهجوم الإيراني يتمثل في تفهم العالم للسردية الإسرائيلية القائلة بأن طهران دولة إرهابية، مع تصدر الحديث عن الصواريخ والطائرات غير المأهولة الإيرانية الفاشلة، وعن أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية المذهلة، لتتمكن تل أبيب بين عشية وضحاها من استعادة مكانتها كقوة تكنولوجية عظمى في كل ما يتعلق بالدفاع الجوي وحسنت صورتها بشكل كبير في مجال الاستخبارات الدقيقة، وما لذلك من انعكاسات إيجابية لرفع المعنويات عقب عملية طوفان الأقصى في المنظومة الدفاعية الإسرائيلية وفي العنصر البشري العسكري.
كما أوضح محللون أن الضربة الإيرانية منحت رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” فرصة لترميم صورته الداخلية والخارجية، عبر إعادته سردية الربط بين حركة حماس وإيران مع تصوير الحركة على أنها إحدى أذرعها في المنطقة، وأن تل أبيب هي الضحية كسبيل لكسب شرعية جديدة داخل إسرائيل؛ حيث أوضح استطلاع للرأي لصحيفة معاريف يوم 19 أبريل أن نتنياهو استرد عدداً كبيراً من الناخبين الذين انفضوا عنه في السنة ونصف السنة الماضية بواقع مقعدين جديدين (من 19 إلى 21) مقعد، حيث يُقدر كل مقعد بحوالي 50 ألف ناخب، ناهيك عن دور الهجوم الإيراني في تحويل الموقف الأمريكي من ناقد إلى داعم لإدارة نتنياهو، إلى جانب تحسين صورته أمام العالم.
علاوة على ذلك، سجل الاستطلاع تراجع كبير للفجوة بين نتيناهو وبيني غانتس – المنافس الأبرز لنتنياهو- من حيث أيهما الأنسب لرئاسة الوزراء، وبعد أن كان 50 % يرون غانتس الأكثر ملاءمة لرئاسة الحكومة (مقابل 31%)، تراجع التأييد الشعبي لغانتس عقب الهجوم الإيراني إلى 42 %، بينما ارتفع التأييد الشعبي لنتنياهو إلى 37 %.
ثانياً: صرف الانتباه الدولي عن حرب غزة وكسر تل أبيب عزلتها الدولية
بفضل الضربة الإيرانية واستكمالاً لتفوق تل أبيب في التسويق للسردية الإسرائيلية القائلة بأن طهران دولة إرهابية، نجحت إسرائيل في صرف الانتباه ولو لأيام عن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بل والأهم من ذلك أن تل أبيب تمكنت من توظيف الضربة الإيرانية لكسر عزلتها الدولية الناجمة عما ترتكبه من انتهاكات وجرائم بحق الفلسطينيين اسفرت عن مقتل أكثر من 34 فلسطيني، وإصابة أكثر من 77 ألف فلسطيني، والعودة مرة أخرى للحضن والدعم الدولي والغربي واستئناف الدعم السياسي والعسكري، وهو ما انعكس في سلسلة الإدانات الغربية للهجوم الإيراني مثل اليابان وبريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا.
بل أن الهجوم الإيراني ساهم في إذابة قدر من التوتر غير المسبوق بين إداراتي نتنياهو وبايدن، تجسد في دعوة الرئيس الأمريكي جو بايدن مجموعة السبع إلى عقد قمة عاجلة عقب الهجوم الإيراني من أجل حشد الدعم الدولي لإسرائيل، انعقدت بالفعل عقب ساعات من الهجوم عبر الفيديو، توصل خلالها القادة الأوروبيين بالإجماع إلى إدانة الهجوم الإيراني غير المسبوق على إسرائيل، داعين كافة الأطراف إلى إلتزام ضبط النفس، ومواصلة الجهود لاحتواء التصعيد. كما وظف الرئيس الأمريكي جو بايدن الهجوم الإيراني من أجل توحيد موقف الكتلتين الجمهورية والديمقراطية في الكونجرس الأمريكي بشأن تمرير حزمة مساعدات لأوكرانيا وإسرائيل، عقب عرقلتها لعدة شهور، تُوجت بموافقة مجلس النواب الأمريكي في 20 أبريل 2024 على حزمة ضخمة من المساعدات بقيمة 95 مليار دولار، تضمنت 26.4 مليار دولار لإسرائيل ومساعدات إنسانية لغزة، لاقت موافقة من مجلس الشيوخ الأمريكي يوم 23 أبريل، وصدق عليها الرئيس الأمريكي يوم 24 أبريل.
علاوة على ذلك، يبدو أن إدارة نتنياهو تحاول توظيف الهجوم الإيراني والتنديد الغربي بسياسة طهران في منطقة الشرق الأوسط، من أجل إعادة المنظور الغربي لتل أبيب بأنها الضحية وأن ما تقوم به لا يتجاوز خيار الدفاع عن أمنها القومي في محيط إقليمي ملئ بالأعداء، ومن ثم تهيئة المجتمع الدولي والغربي للقبول ببدء هجوم رفح الفلسطينية، قد يوازيها أو يعقبها تصعيد واسع على جنوب لبنان، في خضم دعوة بعض السياسيين الإسرائيليين قادتهم إلى الاستفادة من الدعم الذي اكتسبته تل أبيب عقب الهجوم الإيراني إما لمهاجمة طهران أو اجتياح رفح الفلسطينية، ولكون الرد الإسرائيلي كان رمزياً، فتذهب الأعين الآن لتوظيف الهجوم الإيراني وما تتلقاه من حماية دولية لاجتياح رفح.
ففي ضوء صعوبة التوصل لصفقة لتحرير الأسرى الإسرائيليين ووقف لاطلاق النار في غزة، ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية يوم 24 أبريل، أن تل أبيب تستعد لإرسال قوات برية إلى رفح التي تعتبرها آخر معقل لحركة حماس، مُشيرة إلى أن هناك استعدادات تُجري لإجلاء النازحين الفلسطينيين في رفح لمخيمات، وذلك تزامناً مع تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي للقطات تُظهر إقامة مدينة خيام في خان يونس وبالقرب من مدينة رفح . علاوة على ذلك، نقلت صحيفة “إسرائيل هيوم” يوم 26 أبريل عن مصادرها أن الجيش الإسرائيلي “يحضر لمعركة رفح في وقت قريب”، بعد أشهر من التأجيل والمداولات والضغوط الدولية والسجالات الحزبية، مع إشارة الصحيفة إلى أن القرار قد يتغير تبعا للتطورات، ولكنه اتخذ أخيرا بعد رد السنوار قبل بضعة أيام بالرفض على اقتراح الوسطاء بشأن الصفقة، وهو الرفض الذي فسره الجانب الإسرائيلي بأن السنوار لا يريد صفقة. كما رأت الصحيفة أن ضبط النفس الإسرائيلي بشأن الرد على هجوم إيران، ولجوءها إلى خيار الرد المحسوب الأضرار باستهداف منظومة الدفاع الجوي الإيراني قرب أصفهان، يرتبط بمحاولة تليين الموقف الأمريكي، والغربي من العملية العسكرية في رفح.
أما ما يتعلق بجبهة جنوب لبنان، فبالتوازي مع تطورات الحرب في غزة، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت يوم 24 أبريل إثر جولة تفقدية عند الحدود الشمالية مع لبنان، أن قواته تقوم بـعملية هجومية على كامل الجنوب اللبناني من دون أن يوضح إن كانت قوات إسرائيلية دخلت الأراضي اللبنانية، لكنها تُشير بشكل عام إلى تصعيد تل أبيب هجومها على جنوب لبنان عبر اعتماد استراتيجية الحزام الناري في جنوب لبنان وذلك لأول مرة منذ بدء التصعيد، والذي قد يمهد لتنفيذ عملية عسكرية جنوب لبنان، وذلك في خضم تصريح غالانت بأن تل أبيب قضت على نصف قادة حزب الله، بينما يختبئ النصف الآخر ويترك الميدان أمام القوات الإسرائيلية. هذا وقد أعلن الجيش الإسرائيلي أنه شن هجوماً واسع النطاق شمل نحو 40 هدفاً تابعاً لحزب الله في محيط عيتا الشعب في جنوب لبنان من خلال طائرات حربية وقصف مدفعي، استهدف مستودعات لتخزين وسائل قتالية وبنى تحتية لحزب الله.
ثالثاً: اضفاء الشرعية على تشكيل مظلة دفاعية أمريكية عربية إسرائيلية
حاولت تل أبيب – من جانب آخر- توظيف الهجوم الإيراني للتشكيك في موقف القيادة السياسية الأردنية من القضية الفلسطينية، إلى جانب بث الشك والفرقة بين صفوف الدول العربية الأكثر تمسكاً ودعما لحل الدولتين ودفاعاً عن القضية الفلسطينية كمصر والأردن والسعودية، حيث حاولت تل أبيب تزييف حقيقة اعتراض الأردن للصواريخ والدرونز الإيرانية العابرة لاراضيها من أجل حماية سيادتها ودفاعاً عن أمنها القومي، إلى الترويج بأنه لأول مرة في تاريخ إسرائيل يُقاتل جيش عربي إلى جانب إسرائيل، في إشارة للأردن، بعدما تداولت صحف إسرائيلية خبر أن عمّان سمحت لتل أبيب باستخدام أجوائها أيضا في صد الصواريخ والدرونز الإيرانية، وتأكيد الجيش الاسرائيلي بأن عدة دول من بينها الأردن دعمت عسكرياً الدفاع الإسرائيلي.
وفي إطار هذه التصريحات الإسرائيلية المتعددة، حاولت تل أبيب إيصال رسالة بأن هناك ازدواجية في الموقف الأردني الرسمي تجاه تل أبيب، وأنه بخلاف ما تروج له الأردن بدعمها الراسخ للقضية الفلسطينية وخير واصي لحماية المقدسات الدينية في القدس، فإن النظام الأردني هو حليف إسرائيل في المنطقة المستعد للدفاع عنها، في محاولة للترويج بوجود تباين في الموقفين الرسمي والشعبي الأردني الداعم لنصرة الشعب الفلسطيني، بهدف تأليب الداخل الأردني الذي يتكون 60% من سكانه من الفلسطينيين على قيادته، على الرغم من أن الأردن لم تتردد في انتقاد حكومة نتنياهو، كما كان تعليق وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي على الهجوم الإيراني داعماً للموقف الإيراني، مُضيفاً بأن هجمته جاءت رداً على قصف القنصلية الإيرانية وأن الإيرانيين فعلوا ما يتعين عليهم القيام به.
بل يبدو أن المخطط الإسرائيلي يذهب لأبعد من ذلك، والممثل في توظيف الهجوم الإيراني من أجل منح الشرعية لتحالف الدفاع الجوي في الشرق الأوسط المعروف باسم (MEAD) الذي أعلنت إسرائيل في يونيو 2022 عن إنضمامها إليه، تحت دعوى أن الإقليم في حاجة لتشكيل مظلة دفاعية إقليمية تضم الدول الغربية إلى جانب الدول السنية لحماية أمن منطقة الشرق الأوسط، بينما يكمن الهدف الأساسي في حماية أمن إسرائيل بشكل أو بآخر. ففي هذا الإطار، تحدثت صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن خطة إنشاء مظلة دفاعية إقليمية ضد الطائرات غير المأهولة والصواريخ بمشاركة أمريكية وإسرائيلية، وبالتعاون مع دول أوروبية ودول سُنية في المنطقة، تعتمد على شبكة مصنوعة من أجهزة الاستشعار المنتشرة في بلدان مختلفة، إلى جانب منظومة الدفاع الإسرائيلية، وأجهزة الردار المنتشرة قرب الحدود الأردنية، مُضيفة بأن أن هناك من هو في الحكومة الإسرائيلية من يشعر أن الفرصة قد حانت الآن لقلب الأمور بالكامل لتحالف إقليمي لحماية تل أبيب.
نهاية القول، مع تعدد القراءات حول جدوى الهجوم الإيراني على تل أبيب، بات من المهم بمكان مناقشة كيف تمكنت تل أبيب من توظيف الضربة الإيرانية لصالحها، في خضم ما تعانيه من عزلة دولية إثر ما ترتكبه من انتهاكات بحق الفلسطينيين، في ملفات عدة أبرزها اضفاء الشرعية الدولية، بل والغربية على عملية اجتياح رفح الفلسطينية المرتقبة، وعودة تل أبيب إلى الحضن الغربي وما يُسفر عنه من دعم مالي وعسكري، ناهيك عن تهيئة المجتمع الدولي لأي تصعيد وربما عملية عسكرية في جنوب لبنان، ناهيك عن توظيف الهجوم الإيراني من أجل تشكيل مظلة دفاعية إقليمية عربية وإسرائيلية وأمريكية لحماية أمن إسرائيل.