رغم دخول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة شهرها السابع، لا تزال مصر في صدارة الجهود الإقليمية والدولية الدافعة نحو تنفيذ وقف فوري ودائم لإطلاق النار، وصد كافة المحاولات الإسرائيلية الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية.
تمثل الجهود المصرية الراهنة امتدادًا لدورها التاريخي إزاء قضية العرب الأولى، والذي لم يتأثر بأي تغيُّر سياسي داخل الدولة المصرية، حيث ظلت القضية على رأس أولويات اهتمام القيادة المصرية، ليس فقط نتيجة ما تمليه اعتبارات الجغرافيا والتاريخ التي تحتم على مصر تبني مثل هذا الدور، وإنما أيضًا تشكّل الدور المصري نتيجة الإيمان والقناعة بعدالة القضية، وبحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم التي انتزعتها إسرائيل منهم منذ 76 عامًا، هي عمر النكبة الفلسطينية، حينما احتلت الدولة الإسرائيلية الوليدة أراضي فلسطين التاريخية، وهجرت سكانها قسريًا من أراضيهم ومنازلهم، مرتكبة أبشع المجازر في حق أصحاب الأرض.
أولًا، نكبة 1948 وتدخل الجيوش العربية:
عملت مصر طوال عقود على حشد الجهود السياسية الدبلوماسية والعسكرية أيضًا للدفاع عن حقوق الفلسطينيين في أراضيهم.
على الصعيد الدبلوماسي، فقد تنوع الجهد المصري ما بين المشــاركة والدعــوة لعقــد المؤتمــرات المناصــرة للقضيــة وطــرح الحلــول العادلــة لهــا، وهو ما تجلى من خلال مشاركة مصر في العديد من الفعاليات المرتبطة بالقضية ومن بينها؛ المؤتمر الإسلامي الأول بالقدس عام 1931، ومؤتمر بلودان في عام 1937، والمؤتمر البرلماني للبلاد العربية والإسلامية بالقاهرة في 1938، كما دعت مصر لإقامة المؤتمر الإنساني الشرقي في القاهرة في نفس العام، وشاركت في مؤتمر لندن عام 1939، وفي نفس العام، رفضت مصر الكتاب الأبيض الذي كان يؤكد علـى مبـدأ إقامـة الوطـن القومـي اليهـودي، علاوة على ذلك قامت مصر بتنظيم المؤتمر النسائي العربي بالقاهرة في عام 1944.
واتصالًا بذلك، حرصت مصر مع محاولات إنشاء جامعة الدول العربية على بلورة موقف عربي جماعي حيال الأوضاع في فلسطين، وهو ما تبلور عبر صدور قرار عن اجتماع الإسكندرية المنعقد خلال الفترة من 25 سبتمبر- 7 أكتوبر1944، والذي نص على أن فلسطين ركن هام من أركان البلاد العربية، كما صدر عن ممثلي الدول العربية الذين وقعوا على ميثاق الجامعة العربية في 22 مارس 1945 قرارًا دعوا فيه إلى اختيار مندوب عربي من فلسطين للاشتراك في أعمال الجامعة العربية.
وبالإضافة إلى ما تقدم، استضافت مصر أول مؤتمر عربي في أنشاص في مايو 1946، كرد فعل على توصيات اللجنة “الأنجلو-أمريكية” التي أوصت بدخول مائة ألف من اليهود الفارين من الاضطهاد النازي إلى فلسطين، حيث اعتُبرت نتائج تحقيق اللجنة مجحفــة لعـرب فلسـطين وغير مراعية لحقوقهم في أرضهم ووطنهم ومنحـازة في المقابل للمطالـب الصهيونيـة. إذ فــي أعقــاب الحــرب العالميــة الثانيــة، كانــت بريطانيــا قــد نجحــت فــي تهيئــة الأوضاع لليهـود فـي فلسـطين لإقامة دولتهـم، من خلال تمكينهم مـن حيـازة مسـاحات كبيـرة مـن الأراضي، وتكديـس كميـات كبيـرة مـن الأسلحة، وبذلـت محاولات عديـدة لفـرض تقسـيم فلسـطين بيـن العـرب واليهـود. كمـا اندفعـت الولايات المتحدة للمشـاركة فـي تحقيـق أهدافها مــن خلال لجنــة التحقيــق “الأنجلو – أمريكيــة”، والتــي قدمــت مشــروع “موريســون “Morrison فــي عـام 1946، الـذي قـام علـى فكـرة تقسـيم فلسـطين إلـى أربـع مناطـق: منطقـة يهوديـة، ومنطقـة عربيـة، تتمتعـان بسـلطة حكـم ذاتـي تحـت إشـراف المنـدوب السـامي البريطانـي وحكومـة مركزيـة، ومنطقتـي القـدس والنقـب، وتخضعـان للحكومة المركزيـة. ولذلك حرصت مصر خلال المؤتمر على تأكيد أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب جميعًا، ومن ثم يتعين عليهم الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني.
وقـد حاولـت بريطانيـا إقنـاع العـرب فـي مؤتمـر لنـدن 1946 بقبـول هـذا المشـروع، إلا أن مصـر وباقـي العـرب المشـاركين فـي المؤتمـر رفضـوا الفكـرة، كمـا نبـه “عبـد الـرازق السـنهوري” ممثـل مصـر فـي المؤتمـر إلـى أن هـدف المشـروع بصورتـه تلـك لا يهـدف إلـى إقامـة دولـة اتحاديـة، وإنمـا سـيؤدي حتمـًا إلـى تقسـيم فلسـطين فعليـًا، لتبــدأ مصــر بعــد هــذا المؤتمــر نشــاطًا دبلوماســيًا منظمـًا لمناهضـة مشـروعات تقسـيم فلسـطين.
وفي أعقابصدور قرار تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر 1947 عن الأمم المتحدة، حـددت مصـر موقفهـا من خلال التأكيد على ضـرورة تقديـم الدعـم المـادي والمعنـوي لأهل فلسـطين لتمكينهـم مـن الدفـاع عـن أنفسـهم فـي مواجهـة العصابـات الصهيونيـة، في ظل نية بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسـطين وسـحب إدارتها وقواتها، وأيضًا مــن خلال الاستعداد العسكري على حدود فلسطين، تحسبًا لما ستسفر عـنه الأحداث هُـناك.
أما على الصعيد العسكري، فنتيجةً لما ارتكبه الصهاينة من مجـازر بشــعة بحـق العديـد مـن القـرى الفلسـطينية بغـرض بـث الرعـب فـي نفـوس كل الفلسـطينيين لدفعهـم إلـى الهجـرة وتـرك قراهـم، واستيلائهم علــى مدينــة حيفــا، والممتلـكات المصريـة هنـاك، وارتكاب المجازر بحق رعايا مصرييـن كانوا مقيميـن فيها؛ اشـتعلت المظاهـرات بالمـدن المصريـة للمطالبـة بالتدخـل لنجـدة فلسـطين.
وبناءً عليه، أعلنـت الحكومة المصريـة الموافقـة علـى التدخل العســكري المسـلح، ولكـن مـن خلال إرسـال المتطوعيـن إلـى فلسـطين تحـت مظلـة الجامعـة العربيـة مع قيام ضبـاط الجيـش المصـري بالإشراف علـى تدريبهـم وتأهليهـم عسـكريًا. كمــا ســلمت مصــر معســكر الهايكســتب للجامعــة العربيــة لتدريــب المتطوعيــن فيـه. ترتب على ذلك تشــكيل قــوة مــن المتطوعيــن سـُـميت بــ “القــوة الخفيفــة” قوامهــا 344 مصــري، و297 ليبــي، و45 فــرد مــن تونــس. وبعــد دخولهــا إلــى فلســطين دُعِمت هذه القوة بمجموعـة إضافيـة مـن جنـود المدفعيـة بالجيـش المصـري عددهـم 132 جنـدي، ليصبـح إجمالي عـدد القـوة الخفيفـة 798 فـردًا وتـم تسـليح تلـك القـوة بأسـلحة قدمهـا الجيـش المصـري.
وفـي ظـل تدهـور الأوضاع فـي فلسـطين، وتعـدد الجرائـم والمجـازر التـي ارتكبتهـا العصابات الصهيونيـة، والتـي بـدا معهـا واضحًا عـدم قـدرة قـوات المقاومـة العربيـة علـى مواجهـة تلـك العصابـات مـع مـا تعانيـه مـن نقـص فـي الرجـال والـسلاح، سـافر اللـواء “إسـماعيل صفـوت” رئيس اللجنـة العسـكرية التابعـة لجامعـة الـدول العربيـة إلـى القاهـرة؛ ليعـرض علـى اللجنة السياسـية بالجامعـة عـدم قــدرة المتطوعيـن العــرب علـى مواجهـة العصابـات الصهيونيـة، موضحًـا أن حـسم الموقف يتطـلب تدخل الجـيوش العربـية.
وعلـى الرغــم مـن وضـوح الهــدف السياســي المعلـن للحـرب، والـذي أجمعـت عليـه الـدول العربيـة، المتمثل في الحفـاظ علـى عروبـة فلسـطين، كان الهـدف السياسـي العسـكري غامضًـا، وكان التوجيـه الصـادر لرؤسـاء أركان الجيـوش العربيـة هو: “اتخـاذ التدابير الحاسـمة لإحباط مشـروع التقسـيم وخـوض المعركـة إلـى نهايتهـا المظفرة”. وقـد انعكس هـذا الغموض علـى الهدف الاستراتيجي الـذي كان مـن المفتـرض أن يحـدده القـادة لقواتهـم، حيـث انتهـى الأمر إلـى وضـع تصـور عـام وليــس خطــة حقيقيــة، وكان هــذا التصــور متمثــل فــي ســرعة الحصــول علــى نتائــج عســكرية لصالـح القضيـة الفلسـطينية قبـل تدخـل الأمم المتحـدة، دون أن يحـدد كيفيـة تحقيـق ذلـك سـواء بتدميـر قـوات العـدو، أم حصارهـا ودفعهـا للاستسلام، أم الاستيلاء علـى مناطـق محـددة لتحقيـق نصـر جزئـي لصالـح القضيـة السياسـية.
ثانيًا، الدور المصري في حرب 1948:
وعلى الرغم من عدم الوضوح الذي شاب خطة الحرب، لعبت مصـر دورًا محوريًا خلال مجريـات الحرب فـي فلسـطين علـى مـدار ثمانيـة أشــهر، مـرت خلالها بعـدة مراحـل، وشـهدت عـدة هـدن فرضهـا مجلـس الأمن. وكان تدخلها العسـكري من خلال قوات الجـيش والمتطوعـين. دخلـت القـوات المصريـة حـدود فلسـطين فـي 15 مايـو 1948، وقامـت بـأول عمـل لهـا وهـو حصـار مسـتعمرة الدنقـور مـن قبـل الكتيبـة السادسـة. وقبل فرض الهدنة الأولى، توغلت القوات البرية المصرية في غـزة وشـرق بلـدة رفـح، وسـيطرت علـى منطقـة العسـلوج وبئـر السـبع وقامــت بعمليــات عســكرية واســعة النطــاق وامتــد نشـاطها شـمالًا، فسـيطرت علـى هربيـا، وبربـارا، وبيـت هوجـا، وأريـرا.
كمـا سـيطرت علـى بلـدة الكـورة الواقعـة علـى البحـر المتوسـط، ومدينـة الخليل ومدينــة بيــت لحــم ومدينـة أسـدود، واقتحمت مســتعمرة ديرســنيد، وســيطرت علــى قريــة عــراق ســويدان، وهــي مدينــة هامــة كانــت تتحكــم فــي مواصلات المســتعمرات الجنوبيــة، ومــن ثــم قطعــت الاتصال بيــن مســتعمرات الشــمال والجنــوب، ونجحــت فــي إكمــال الســيطرة علــى خــط الفالوجــا/ بيــت جبريــن/ ديــر النحــاس. وبذلــك، أحكمــت الحصــار بصــورة كاملــة علــى مســتعمرات جنــوب النقــب، أعقبه سيطرة القوات المصرية على مســتعمرة نتســانيم ودخولها بلدتـي عجـور وعرطـوف جنـوب الطريـق الواصـل بيـن الرملـة والقدس.
وفـي 11 يونيـو، كان مـن المفتـرض بـدء تطبيـق الهدنـة الأولى التـي فرضهـا مجلـس الأمن، إلا أن العـدو حـاول تهديـد خـط مواصلات القـوات المصريـة بيـن المجـدل وأسـدود، كمـا حـاول مهاجمـة القـرى العربيـة بالقـرب مـن عـراق سـويدان، إلا أن القـوات المصريـة صدتـه. ومــع انتهــاء الهدنــة الأولى في 9 يوليــو 1948، بـدأت القـوات المصريـة عملياتهـا العسـكرية علـى طـول الجبهـة، وتمكنـت من استعادة بلـدة كوكبـا بعـد حصارهـا، واستعادت أيضًا بلـدة الحليقـات، وأتمـت الاستيلاء علــى مســتعمرة كفــار داروم. كما استعادت القوات المصرية سلسـلة تبـاب تشـرف علـى الطريـق الموصـل إلـى الفالوجـا، ولكـن فـي مسـاء 18 يوليـو، صـدرت الأوامر بوقـف إطلاق النـار مـرة أخـرى تنفيذًا لقـرار مجلـس الأمن بتطبيق الهدنـة الثانيـة.
ومـع توقـف القتـال للمـرة الثانيـة، وعلـى الرغـم مـن الخلـل الواضـح فـي أعـداد القـوات والأسلحة بين القوات المصرية وبيـن القـوات الصهيونيـة، فقد كانـت تلـك الفتـرة سجالًا بيـن الطرفيـن، حيث ظلـت خطوط القـوات المصريـة متماسـكة وثابتـة. فيما مارســت القــوات الإسرائيلية عادتهــا، ولــم تلتــزم بشــروطها، ففــي 27 يوليــو هاجمــت القــوات الإسرائيلية الفالوجــا، ولكــن أجبر صمــود المدافعيــن عــن البلــدة مــن القــوات المصريــة والأهالي المتطوعيـن علـى انسحاب قوات الجانب الإسرائيلي. كمـا قصفـت هذه القـوات عـراق المنشـية مـن جميـع الجهـات ولكنهـا انسـحبت مـن المـكان بسـبب التصـدي لهـا وتكبدهـا خسـائر كبيـرة.
وفي الأول من أغسطس، حاولـت القـوات الإسرائيلية المـرور شـرق الفالوجـا إلـى الجنـوب لتمويـن مســتعمراتها المعزولــة فــي النقــب، ولكنهــا تراجعــت بعــد أن دخلــت حقــل ألغــام دمــرت بعــض مركباتهــا. وفــي 18 أغســطس، أي بعــد شــهر مــن بــدء الهدنــة الثانيــة، قامــت القــوات الإسرائيلية بالهجـوم علـى جبـل المكبـر فـي القـدس، ولـم تتمكـن مـن احتلاله حيـث تصـدت لهـا القـوات المصريـة والمتطوعيـن.
وسـرعان مـا اسـتؤنف القتـال مـرة أخـرى للمـرة الثالثـة يـوم 6 أكتوبر، واسـتمر هـذه المـرة حتى يــوم 30 مــن الشــهر نفســه، وكانــت تلــك المرحلــة نقطــة تحــول فــي الحــرب بأكملهــا، حيث قامـت القـوات الإسرائيلية بتنفيـذ عمليـة تجـاه الجبهـة المصريـة فـي منتصـف أكتوبـر 1948، أُطلـق عليهـا اسـم العمليـة “يـؤاب”، دمــرت خلالها القـوات الإسرائيلية السـكة الحديـدية قـرب رفـح وبعــد أن أصبحــت خطــوط المواصلات مقطوعــة مــن الشـمال، لـم تجـد القـوات المصريـة أمامهـا سـوى التحـول إلـى الدفـاع والتمسـك بالمواقـع التـي تســيطر عليهــا، واندفعــت القــوات الإسرائيلية تجــاه بيــت حانــون، لعــزل عــراق المنشــية عــن بيـت جبريـن. ومع ذلك، فشل الهجـوم الإسرائيلي، حيث تمكنـت المدفعية المصريــة مــن صــد الهجــوم وتدميــر عــدد مــن آليــات القــوات الإسرائيلية فــي مواجهــة عــراق ســويدان.
وفــي 19 أكتوبــر 1948، أصــدر مجلــس الأمن قــرارًا ببـدء هدنـة ثالثـة، ونتيجـة لسـوء حالـة القـوات المصريـة ونقـص أسـلحتها وذخائرهـا وأفرادها، تـم تعييـن اللواء “أحمـد فـؤاد صـادق” في قيـادة القـوات المصريـة فـي 17 نوفمبر فـي محاولـة لتغيير الأوضاع على الأرض. كما أُثيـر في تلـك الأثناء موضوع سـحب القوات المصريـة بالكامل من فلسـطين في ضوء الوضع العسكري المتأزم، وعدم الـقدرة عـلى توفـير احتياجات الـقوات من الأسلحة والذخاـئر. وفـي 22 ديسـمبر 1948 بـدأت القـوات الإسرائيلية عمليـة جديـدة، أُطلـق علـيها اسـم “حوريـب”، هدفهـا الاستيلاء علـى النقـب كلـه. ومن بين تحركاتها كان التوجه نحـو الشـمال الغربـي إلـى العريـش لتطويـق القـوات المصريـة المنتشـرة فـي الغـرب، إلا أنهـا واجهـت مقاومـة عنيفــة مــن كتيبــة مشــاة مصريــة، وفشــلت عمليـة الالتفاف والتطويـق. ثـم اسـتعدت القـوات الإسرائيلية لتنفيـذ مرحلـة أخـرى مـن عمليـة “حوريـب”، حيـث حاولـت الاستيلاء علـى رفـح لعـزل القـوات المصريـة فـي قطـاع غـزة، منتهزيـن فرصـة سـكون الجبهـات العربيـة لالتزامها بقـرار مجلـس الأمن رقـم 62 الصـادر فـي 16 نوفمبـر 1948 بإقامـة هدنـة دائمـة فـي جميـع أنحـاء فلسـطين.
وقــد انتهــت هــذه العمليــة بعبــور القــوات الإسرائيلية الحــدود المصريــة، وكانــت تهــدف مــن ذلــك ممارســة الضغــط علــى القــوات لدفعهــا للانسحاب مــن جنــوب فلســطين. وإزاء هــذه التطــورات العســكرية ودخــول القــوات الإسرائيلية إلــى الأراضي المصريــة؛ أعلنــت الحكومــة البريطانيــة أنهــا ســتضطر لمســاعدة مصــر مــا لــم توقــف إســرائيل عدوانهــا علــى الأراضي المصرية، وأرســلت إنــذارًا إلــى الإسرائيليين مفــاده أن عــدم انســحاب قواتهــم من ســيناء ســيضطر بريطانيــا إلــى تطبيــق معاهــدة 1936، وبالفعــل ســحبت إســرائيل قواتهــا مــن داخل الحدود المصرية، ليتوقــف القتــال انتظــارًا لبــدء مفاوضــات الهدنــة الدائمــة.
أصبـح علـى مصـر مواجهـة مفاوضـات الهدنـة مــع إســرائيل مــع توقــف القتال برعايــة وسيط دولي، ألا وهو “رالف بانش” الذي قام بصياغـة نقــاط اتفاق كان بطبيعــة الحــال فــي صالــح إســرائيل، ومتوافقًا مع الرؤيــة الأمريكية. إذ نجـح “بانـش” فـي تجريـد المناطـق الشـرقية مـن سـيناء وقطـاع غـزة مـن أيـة قـوة عسـكرية هجوميـة كبيـرة لمصـر، إذ فـرض الاتفاق تخفيـض القـوات المصريـة فـي غـزة ورفـح وبيـت لحـم بمـا يكفـل الدفـاع فقـط وتخفيـض التسـليح ليكـون ذا طابـع دفاعـي، كمـا اعتبـرت منطقـة العوجـة منطقـة منزوعـة الـسلاح، وتضمـن الاتفاق أن يُعهـد بإدارتهـا إلـى الأمم المتحـدة لتكون وديعـة لديهـا إلـى أن تُسـوى الأوضاع العسـكرية، كمـا مكـن الاتفاق إسـرائيل مـن امتلاك قـوة عســكرية علــى الناحيــة الأخرى مـن حــدود الهدنــة تكافــئ مــا لـدي مصــر والأردن مجتمعيــن، وبذلـك تكـون إسـرائيل قـد امتلكـت قـوة تمثـل ضعـف القـوات المصريـة.
تـم توقيـع اتفـاق الهدنـة الدائمـة، أو ما يُعرف باسم “اتفاق رودس”، فـي 24 فبرايـر 1949، ولكـن نجح الوفـد المصـري بمهـارة فـي تـرك القضيـة الفلسـطينية مفتوحـة ولا يُقضـى فيهـا بـرأي خلال المفاوضـات، كمـا نجـح فـي عـدم الانخراط فـي أي شـأن سياسـي وركـز فقـط علـى النواحـي العسـكرية، حيث نـص الاتفاق على عدم تفسير خـط الهدنـة علـى أنـه حـدود سياسـية أو إقليميـة، وقـد رسـم خـط الهدنـة فـي معظمـه علـى طـول الحـدود الدوليـة لعـام 1922 بيـن مصـر وفلسـطين الانتدابية، باسـتثناء البحـر الأبيض المتوسـط، حيـث ظلـت مصـر تسـيطر علـى قطـاع مـن الأراضي علـى طـول السـاحل، الـذي أصبـح يعـرف باسـم “قطـاع غـزة”.
كمـا سـمح الاتفاق للقـوات المصريـة المحاصـرة فـي جيـب الفالوجـة بالعـودة إلـى مصــر بأســلحتها، وتــم تســليم هــذه المنطقــة إلــى الســيطرة العســكرية الإسرائيلية.
ثالثًا، ما بعد النكبة:
أسفرت حرب 1948 عن تثبيت أقدام الكيان الصهيوني داخل فلسطين، وهو ما فرض على الدولة المصرية الاستمرار في تبني نهج متعدد الأبعاد، لضمان عدم خفوت الزخم، سواء الإقليمي أو الدولي، حول القضية.
- مصر وحكومة “عموم فلسطين”: مــع انتهــاء الانتداب البريطانــي، وإعلان دولــة إســرائيل، ودخــول الجيــوش العربيــة إلــى فلســطين، أصبحــت فلســطين ســاحة صــراع، بيــن طامعيــن فــي أراضيهــا، أو متصارعيــن علــى الاختصاصات والصلاحيات، ولــم يكــن للهيئــة العربيــة العليــا لفلســطين – التــي كان مــن المفتـرض أنهـا تمثل الكيـان الفلسـطيني منذ عـام 1946 – وجود فعلي أو دور تمارسـه في الشـأن الفلسـطيني، فحاولـت جامعـة الـدول العربيـة اسـتدراك ذلـك فأعلنت عـن إدارة مدنية لفلسـطين فـي يوليـو 1948 برئاسـة “أحمد حلمـي عبد الباقـي”، ولكـن مـع تجـدد القتـال بعـد انتهـاء الهدنـة ثبت عجـز تلـك الإدارة.
وتزايـدت حالـة الخلافات التـي سـادت البلاد العربيـة فـي 16 سـبتمبر 1948، حينمـا أُعلن تقرير الوسيط الدولي “برنادوت”، والذي أورد فيه أن العرب لم يُبدوا أي رغبة في إنشاء حكومة في القسم العربي من فلسطين، عندئذ نشـطت الهيئـة العربيـة العليـا، وهـبّ الحـاج “أميـن الحسـيني” وغيـره لمناهضـة مثـل هـذه الفكـرة، كما بـادر “جمـال الحسـيني”، السياسـي الفلسـطيني، بالقيـام بجولـة فـي البلاد العربيـة للحصـول علـى موافقـة حكوماتهـا على إنشـاء حكومــة فلســطينية.
وبناءً عليه، اجتمعــت اللجنــة السياســية لجامعــة الــدول العربيــة، وأقــرت إنشــاء تلــك الحكومة، وفــي يــوم 23 ســبتمبر 1948، أعلنــت الهيئــة العربيــة العليــا إنشــاء “حكومــة عمـوم فلسـطين”، ومركزهـا فـي مدينـة غـزة مؤقتًا، برئاسـة “أحمـد حلمـي عبـد الباقـي”. وتقــرر عقــد مؤتمــر وطنــي فلســطيني فــي غــزة يــوم 30 ســبتمبر لإضفاء الشــرعية علــى الحكومــة وذلــك بتشـجيع كامـل مـن الحكومـة المصريـة، والتـي انحـازت إلـى وجهـة النظـر القائلـة بـأن تشـكيل حكومـة فلسـطينية سـوف يضـع العالـم أمـام أمـر واقـع يتفـق مـع قـرار الجامعـة العربيـة بعـدم الاعتراف بالدولــة اليهوديــة. وقـد أعلنـت مصـر اعترافهـا بالحكومـة فـي 12 أكتوبـر 1948، ووعـدت بتقديـم مبلـغ خمسـة ملاييـن جنيهًا لتلـك الحكومـة لتأسـيس الدواويـن، وتشـكيل الجيـش الفلسـطيني الـذي تدربـه مصـر لاستئناف الجهـاد لإنقاذ فلسـطين.
مصر وإدارة قطاع غزة: أصبـح القطاع خاضعًا للإدارة المصريـة فــي 26 مايــو 1948، وكان بطبيعــة الحــال إدارة عســكرية فــي ظــل المعــارك الدائــرة وقتهــا، وقــد بقي القطــاع بأيــدي القــوات المصريــة بموجــب اتفاقيــة الهدنــة المصريــة – الإسرائيلية الموقعـة فـي 24 فبرايـر 1949. وفـي 8 أغسـطس 1949 خـول وزيـر الحربيـة المصـري الحاكـم الإداري العـام للقطـاع ممارسـة جميــع السـلطات والاختصاصات التـي كانــت مخولــة للمنــدوب الســامي البريطانــي قبــل إنهـاء الانتداب، وتــم تعييــن اللــواء “أحمــد ســالم باشــا” مديــر عــام سلاح الحــدود الملكــي والحاكــم العســكري للصحــراء الشــرقية وغيرهــا مــن مناطــق الحــدود، حاكمـًا إداريـًا للقطــاع.
قامـت الإدارة المصريـة بـإدارة القطـاع إدارة مدنيـة بمسـئولين عسـكريين فـي أكثـر الأحيان، وأعــادت الدوائــر الحكوميــة التــي كانــت قائمــة فــي عهــد الانتداب البريطانــي للعمــل، مثــل التعليــم والصحــة والزراعــة والمحاكــم المدنيــة والشــرعية. كمــا طبقت مصر النظــام التعليمــي المُطبــق لديها داخــل القطــاع، وتوســعت في إنشاء المدارس، كما قبلت الجامعات المصرية عددًا كبيرًا من أبنــاء القطــاع للدراســة بها، وكـذا قـام الأزهر بوصفـه الجامعـة الإسلامية الأكبر بالإشراف علـى المعهـد الدينـي الـذي أنشـئه أبنـاء القطـاع. وفـي القطـاع الصحـي، أنشأت مصـر مستشـفى الشـفاء، وجهزت معمـل طبـي متكامل، كمـا نفـذت وزارة الصحـة المصريـة العديـد من حملات مكافحـة بعـض الأمراض.
وفـي الواقـع، خضع قطـاع غـزة للإدارة المصريــة، علــى الرغــم مــن أن مصــر لــم تطالــب قــط بــأي أراض فلســطينية أو ضمتهــا إليهــا، وبالتالـي لـم تقـدم مصـر جنسـية للفلسـطينيين. وحتـى عندمـا أصـدرت “حكومـة عمـوم فلسـطين” فـي عـام 1949 جـوازات سـفر للفلسـطينيين الذيـن يعيشـون فـي قطـاع غـزة لـم تسـمح مصـر لهـم بالتحـرك بحريـة إلـيها، حرصًـا منهـا علـى عـدم تفريـغ القطـاع مـن الفلسـطينيين.
مصر واللاجئين الفلسطينيين: لجـأ عـدد مـن الفلسـطينيين إلـى مصـر ممـن نزحـوا قبـل اندلاع الحـرب فـي 15 مايـو 1948، فشــكلت الحكومــة المصريـة “اللجنــة العليــا لشــئون مهاجــري فلســطين” وخصصـت لهـم النفقات اللازمة لرعايتهــم، وبعـد الحرب لجـأ إلى مصر عـدد أخـر مـن اللاجئين قُدِر بنحـو سـتة آلاف لاجـئ، خصصـت لهم معسـكرًا في العباسية، ثـم خصصـت لهـم معسـكر أكبـر فـي منطقـة القنطـرة، بعـد أن زاد عددهـم. كمـا لجـأ إلـى مصـر أربعـة ألاف فلسـطيني آخريـن بوثائـق سـفر رســمية وعاشـوا فـي مصـر علـى نفقتهـم الخاصـة.
وقــد حاولــت مصــر التنســيق مــع الهيئــات الدوليــة لإعادة هؤلاء اللاجئين إلــى فلــسطين وتعويض من فــقد ممتلكاته منــهم، وفقـًا لــقرار الجمعــية العامة للأمم المتحدة الصادر في 11 ديسمبر 1948، وشـاركت مصـر فـي مؤتمـر بيـروت خلال الفتـرة مـن 31 مـارس إلـى 15 أبريـل 1949 وأصـرت خلاله علــى وضــع مشــكلة اللاجئين علــى رأس الأولويات، وأكــدت علــى ضــرورة مواجهــة الإجراءات الإسرائيلية بحــق العــرب المقيميــن تحــت ســلطتها بحقوقهــم الأساسية.
وإلى جانب أدوارها السياسية الدبلوماسية والعسكرية والإنسانية، قدم مصر الغالي والنفيس في سبيل الدفاع عن القضية. فخلال معــارك فلســطين عامــي 1948 و1949، استشهد عــددًا كبيرًا من ضبـاط وأفـراد الجيـش المصـري ومـن المدنييـن كذلـك، وقـد ذكـرت التقاريـر الرسـمية المصريـة أن عـدد الضبـاط الذيـن استشـهدوا خلال العمليـات الحربيـة فـي فلسـطين بلـغ 98 ضابطًا. بينما ذكــرت مصــادر أخــرى أن إجمالــي عدد الشهداء المصريين بلغ 926 شهيدًا من الضباط والجنود والمدنيين، هذا بخلاف المدنييــن المتطوعيــن الذيــن شــاركوا فــي الحــرب ولــم تشــملهم تلــك المصــادر. وكان أكبـر قـدر مـن الخسـائر قـد وقـع فـي المرحلـة الأخيرة مــن الحــرب خلال شــهري ديســمبر 1948 وينايــر 1949 بعــد أن تحولــت القــوات المصريــة إلــى الدفـاع وتعرضت للهجـوم الإسرائيلي.
فيما بلــغ عــدد الأسرى العــرب فــي نهايــة أغســطس 1948 حوالــي 3200 أسير، كان من بينهم 129 مصريًا، وفي 25 ديسمبر 1948 تزايد عدد الأسرى المصريين ليصبح 202 أسيرًا، وبنهايـة الحـرب زاد هذا العـدد ليصبح 211 أسـيرًا. ووفقـًا لتقاريــر الصليــب الأحمر الدولــي، كان تعامــل إســرائيل مــع الأسرى لا يتفــق مــع القوانيــن الدوليـة، ولا يتفـق مـع معاملـة الأسرى اليهـود لـدى الــدول العربيــة، لاسيما مصــر، التــي كان لديهـا 149 أســيرًا يهوديًا من رتب مختلفـة ومـنهم متطوعين من جنسيات مختلفة من الولايات المتحـدة وبريطانيـا وهولنـدا، وقـد شـهدت المنظمات الدولية أن الـسلطات المصرية عاملتـهم معامـلة حـسنة وفقـًا للقوانـين الدولـية.
وفي الختام، وبعد مرور 76 عامًا على النكبة الفلسطينية، وبرغم قرارات الأمم المتحدة الكثيرة بشأن الحق الفلسطيني، لا يزال الإنكار الإسرائيلي لهذا الحق مستمرًا، وذلك عبر مواصلة سياسات الإبادة الجماعية والتشريد والتهجير ومصادرة الأراضي وهدم المنازل وإقامة مستوطنات غير قانونية، بهدف محو أي فرصة أو أمل أمام إقامة دولة فلسطينية مستقلة. وستظل بذلك ذكرى النكبة تذكير ليس فقط بتلك الأحداث المأساوية التي وقعت عام 1948، بل بالظلم المستمر الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني على مدار هذه العقود.
باحثة بوحدة الدراسات العربية والإقليمية