تصاعدت التوترات على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية على خلفية الحرب في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، وتنامت المساعي الدبلوماسية بهدف احتواء الموقف، والدفع في مسار التهدئة، وترسيم الحدود البرية بين الدولتين. ضمن هذا السياق يناقش التحليل طبيعة النزاع الحدودي بين لبنان وإسرائيل، والمساعي الدولية المبذولة، والمكاسب التي يرتبها اتفاق ترسيم الحدود البرية.
طبيعة النزاع الحدودي بين لبنان وإسرائيل
يشمل النزاع بين لبنان وإسرائيل على الحدود البرية 13 نقطة عدا (مزارع شبعا وقرية الغجر وتلال كفر شوبا)، ومن أبرز هذه النقاط، النقطة B1 في منطقة رأس الناقورة على الساحل، والتي سببت الخلاف بين الدولتين حول ترسيم الحدود البحرية. تعود إشكالية ترسيم الحدود البرية بينهما إلى الإرث الاستعماري الفرنسي البريطاني؛ حيث تركت مسألة ترسيم الحدود الفلسطينية- اللبنانية للقوات البريطانية والفرنسية في مؤتمر فرساي في فبراير 1919، وقدمت بريطانيا مقترح ” دوفيل” وبموجبه منحت فلسطين مساحة أقل لتشمل الضفة الجنوبية لنهر الليطاني. وفي مقترح آخر رُسم خط حدودي يمتد من عكا على ساحل البحر المتوسط إلى نهر الليطاني، ثم شرقًا إلى جبل الشيخ بما يضاعف من مساحة الأراضي اللبنانية، والحفاظ على الليطاني كمنطقة عازلة.
وفي يونيو 1920 قدمت فرنسا مقترحًا بمد الحدود الشمالية لفلسطين من رأس الناقورة إلى نقطة قريبة من نهر الأردن إلى الشمال مباشرة من مستوطنة “المطلة” اليهودية وبعض القرى المجاورة. وفي ديسمبر من العام ذاته تُوصل لاتفاق لرسم الحدود بين الانتدابين الفرنسي والبريطاني من قبل لجنة مشتركة، وقدمت تقارير اللجنة والتوقيع عليها بعد ذلك من قبل الحكومتين في مارس 1923. واتُّفق على الحدود الدولية بطول 120 كم وتقسيمها إلى أربعة قطاعات:
- القطاع أ: يمتد من رأس الناقورة إلى صاريت بطول 15 كم.
- القطاع ب: يرسم خطًا ملتويًا من صاريت إلى المالكية.
- القطاع ج: يمتد على طول المرتفعات المالكية إلى المطلة.
- القطاع د: يمتد من المطلة إلى الحدود السورية.
بالرغم من رسم الحدود على الورق نظريًا، فإنه لم ينفذ واقعيًا، فقد تجاهل سكان الحدود هذا الخط سواء اليهود والعرب الذين يعيشون في منطقة الجليل القريبة من الحدود أو المسيحيين والمسلمين اللبنانيين الذين يعيشون على الجانب الآخر، واستمرت حركة التجارة والسفر بينهما. ومع حرب 1982 وانسحاب الجيش اللبناني من جنوب لبنان في مايو 2000، وفق قرار رقم” 425″ وانسحاب إسرائيل قبل نشر قوات حفظ السلام على طول الحدود، رسم الخط الأزرق بطول 120 كيلومترًا، لكنه اختلف عن خط الدفاع المشترك في (جنوب الريميشة، وبين أوديسي، وكيبوتس، وفي جسر الشغور “حاصباني” في الشرق)، حُرك الخط الأزرق قليلًا 200 متر غربًا، بحيث تلامس الحدود الحافة الغربية للكيبوتس، ثم ينحدر إلى طريق أوديسي، ثم يتبع الجانب الجنوبي من كفر كلا والمطلة.
بعد رسم الخط الأزرق أبدى لبنان تحفظه على 13 نقطة على طول خط الحدود، وتمثل مساحتها نحو 485 ألف متر مربع ولا تشمل الأراضي الواقعة في مثلث الحدود مع سوريا، إذ ترى لبنان أن النقاط تنحرف عن الحدود التي حُددت في اتفاقية الهدنة 1949. وتتنازع الدولتان على قرية الغجر على بعد 4 كم شرق المطلة، والتي تقع على نهر الحاصباني. ووفق الخرائط العسكرية البريطانية في العام 1940 وضعت القرية خطًا في لبنان، بينما كانت تحت الانتداب الفرنسي في ذلك الوقت، وعندما استولي على الجولان في عام 1967 تدخل الجيش الإسرائيلي في القرية، والتي يقطنها الطائفة العلوية. يضاف إلى ذلك النزاع على “مزارع شبعا” والتي لم تخضع لقرار الأمم المتحدة رقم “425” الذي نص على أن “المنطقة التي تقع بها المزارع خاضعة للسيادة الإسرائيلية، وداخل الأراضي السورية المحتلة من قبل إسرائيل”.
مساعٍ دبلوماسية
حققت الوساطة الأمريكية نجاحًا بالتوصل إلى اتفاق بحري بين لبنان وإسرائيل والموقع في أكتوبر 2022 بما مَثل مكسبًا سياسيًا للإدارة السابقة برئاسة “جو “بايدن”. ثم استكملت المساعي الدبلوماسية بهدف المضي قدمًا نحو ترسيم الحدود البرية، وتطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول المنطقة من ناحية، والحفاظ على الاستقرار الأمني على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية؛ مما يدفع نحو تطوير حقول الغاز في منطقة شرق المتوسط من ناحية أخرى.
بدأت التحركات الأمريكية لترسيم الحدود البرية قبل عملية طوفان الأقصى، حيث أوضح المبعوث الأمريكي إلى لبنان “أموس هوكستين” في أغسطس 2023، “أن واشنطن تبحث في إمكانيات حل نزاع حدودي مستمر منذ عقود بين لبنان وإسرائيل، وبحث وجهة النظر اللبنانية، ثم زار منطقة الحدود ومعرفة وجهة النظر الإسرائيلية”. وعقب اندلاع الحرب في قطاع غزة، أشار “هوكستين” إلى أن اتفاق ترسيم الحدود البرية يمكنه أن يخفف من حدة العداء بين لبنان وإسرائيل، ويمكن العمل على ذلك بشكل تدريجي من خلال ثلاث مراحل؛ تنطوي المرحلة الأولى: على السماح لسكان المجتمعات الشمالية في إسرائيل ولسكان المجتمعات الجنوبية في لبنان بالعودة إلى منازلهم، ويتطلب ذلك تعزيز القوات المسلحة اللبنانية، أما المرحلة الثانية: فستكون من خلال حزمة اقتصادية لمساعدة لبنان، وتتمثل المرحلة الثالثة: في صياغة اتفاق الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل.
في سياق متصل، قدمت فرنسا مقترحًا في 13 فبراير عام 2024 من قبل وزير الخارجية الفرنسي “ستيفان سيجورن” للمسئولين في لبنان تضمن، إنهاء التصعيد بين الطرفين، وانسحاب حزب الله على بعد 10-12 كيلو مترًا شمال الحدود، وتفكيك المباني والمنشآت القريبة من الحدود، وسحب القوات القتالية بما فيها قوات الرضوان، ونشر 15 ألفًا من الجيش اللبناني في المنطقة الحدودية بجنوب لبنان، بالإضافة إلى وقف الانتهاكات الجوية الإسرائيلية، وإنشاء لجنة رباعية من (فرنسا والولايات المتحدة وإسرائيل ولبنان) لمراقبة أي خروقات، والتفاوض حول ترسيم الحدود البرية.
ومع احتدام المواجهة بين إسرائيل وحزب الله توقفت المساعي الأمريكية والفرنسية لترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل لتعود مرة أخرى بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله إثر اتفاق الهدنة الموقع في 27 نوفمبر عام 2024؛ حيث أعلنت نائبة المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط “مورجان أورتاجوس”، في 11 مارس الماضي، أن الولايات المتحدة “تجمع لبنان وإسرائيل لإجراء محادثات تهدف إلى حل عدد من القضايا العالقة بين البلدين دبلوماسيًا، ومن بين القضايا التي تبحثها المحادثات الإفراج عن الأسرى اللبنانيين، والنقاط المتبقية المتنازع عليها على طول الخط الأزرق، بالإضافة إلى المناطق الخمس التي لا تزال القوات الإسرائيلية منتشرة فيها”.
في السياق ذاته، قال مسئولان أمريكيان: إن إسرائيل ولبنان “اتفقا على فتح مفاوضات لحل النزاعات طويلة الأمد حول الحدود البرية بين البلدين”. علاوة على ذلك، أعرب وزير الخارجية الفرنسي “جان نويل بارو” في 3 أبريل عام 2025 عن رغبة فرنسا في مفاوضات بتوافق الجميع لترسيم الحدود البرية بين إسرائيل ولبنان”. وفي هذا الإطار، أعلنت إسرائيل أنها وافقت على إجراء محادثات تهدف إلى ترسيم الحدود مع لبنان، علاوة على الاتفاق على تشكيل ثلاث مجموعات عمل مشتركة مع لبنان وفرنسا والولايات المتحدة، بهدف مناقشة قضايا تتعلق بترسيم الخط الأزرق، والمواقع الخمس التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى ملف المحتجزين اللبنانيين.
مكاسب عديدة
تحمل عملية ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل بعض المكاسب للأطراف المختلفة نذكرها على النحو التالي:
• مكاسب لبنان: يعاني اللبنانيون من أزمة اقتصادية وانخفاض في قيمة العملة اللبنانية، ومن ثَمّ فإن التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل، يحقق مصلحة الشعب اللبناني، بما قد يمنع التصعيد مرة أخرى على الحدود الجنوبية اللبنانية والتوصل إلى تهدئة، وتحقيق إنجاز دبلوماسي للحكومة اللبنانية، وانفراجة في الوضع الاقتصادي من خلال عودة الاستثمارات الأجنبية.
• مكاسب إيران: إبان توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، لم تبدِ إيران اعتراضًا على الاتفاق، لإدراكها بأنه يصب في مصلحة لبنان، وقد ينقذها من الانهيار الاقتصادي الذي يواجهُها في وقت تعجز فيه طهران عن دعمها. في الوقت الحالي ومع ازدياد الوضع سوءًا؛ حيث الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وما تلاها من تصعيد على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، من مصلحة طهران الدفع نحو مسار ترسيم الحدود البرية اللبنانية-الإسرائيلية. إذ أنه في حال عودة الحرب على الحدود الجنوبية اللبنانية، ستفقد إيران ذراعها الرئيسي والاستراتيجي في المنطقة؛ الأمر الذي يؤثر في وزنها الإقليمي، ولا تحتمل طهران التصعيد في الجبهة اللبنانية خاصة أن هناك العديد من الملفات التي تشغلها في الوقت الحالي، حيث فقدان حليفها في سوريا، والجدل حول من سيخلف المرشد الأعلى “علي خامنئي”، والأزمة الاقتصادية، والمفاوضات النووية الجارية مع إدارة ترامب الثانية.
• مكاسب حزب الله: يُنظر إلى الأزمات المتتالية التي تواجهُها لبنان بأنها نتيجة لتحركات حزب الله، وبحسب استطلاع رأي أجراه الباروميتر العربي فإن الحزب يحظى بتأييد عدد قليل من اللبنانيين؛ حيث يقول 30% فقط: إنهم يثقون في حزب الله بدرجة كبيرة، بينما يقول 55% إنهم لا يثقون به على الإطلاق. ولا يوجد دعم لدور حزب الله في السياسة الإقليمية في الداخل اللبناني، حيث يؤيد ثلث اللبنانيين انخراطه في السياسة الإقليمية، في حين يُعارض نحو 42% دوره. وعليه من مصلحة حزب الله التهدئة مع إسرائيل تجنبًا للتصعيد مرة أخرى والتأثيرات السلبية في لبنان، وبما يُمثل ضغوطًا على قدرات الحزب الذي ضعفت بسبب الحرب مع إسرائيل.
• مكاسب إسرائيل: من مصلحة إسرائيل التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود البرية مع لبنان، على غرار اتفاق ترسيم الحدود البحرية، بما يحقق تهدئة على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية، وعدم عودة تهديد حزب الله للشمال الإسرائيلي في حال التوصل إلى اتفاق يضمن مصالح الطرفين؛ الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى استقرار الحدود، والمضي في مسار تطبيع العلاقات مع لبنان.
• مكاسب إيطالية: تُعد إيطاليا من الدول الأوروبية المهتمة بالشأن اللبناني بشكل خاص؛ حيث أكدت رئيسة الوزراء الإيطالية “جيورجيا ميلوني”، في أكثر من مناسبة، التزام روما الكامل بالعمل مع جميع الأطراف المعنية من أجل استقرار لبنان، وترغب روما في متابعة عمليات التنقيب عن النفط والغاز والاستثمار في البلوكات اللبنانية البحرية؛ حيث تعد شركة “إيني” الإيطالية من ضمن الشركات التي أظهرت اهتمامًا بالتنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية. وعليه، أدركت إيطاليا أهمية ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل؛ حيث كشف وزير الخارجية الإيطالي “أنطونيو تاجاني”، على هامش قمة حلف شمال الأطلنطي في واشنطن، التي عقدت في يوليو الماضي، عن مساعي بلاده لإبرام اتفاق لترسيم الحدود البرية بين بيروت وتل أبيب.
ختامًا، يبدو أن مسألة ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل مرهونة بعدة عوامل منها؛ صمود اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، نجاح المساعي الدبلوماسية في حل الخلافات العالقة بين الدولتين حول الأسرى ونزع سلاح حزب الله، ومن ثَمّ التباحث حول النقاط البرية المتنازع عليها حول رأس الناقورة B1، وجبل دوف، والغجر، وكفر شوبا، وحل الخلاف حول مزارع شبعا، ومسألة ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا.
باحثة بوحدة الدراسات العربية والإقليمية