أصدرت محكمة العدل الدولية يوم الجمعة الموافق 19 يوليو 2024 رأيها بشأن التبعات القانونية للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، وهي قضية غير مسبوقة؛ حيث أدلت خلالها نحو اثنين وخمسين دولة بشهاداتها.
وترجع مجريات القضية إلى اعتماد اللجنة الخاصة بالمسائل السياسية وإنهاء الاستعمار في نوفمبر 2022، مشروع قرار قدمته دولة فلسطين لطلب فتوى قانونية ورأي استشاري من محكمة العدل الدولية، حول الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 واستيطانها وضمها لها بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديموغرافي لمدينة القدس وطابعها ووضعها، وكيفية تأثير سياسات إسرائيل وممارساتها في الوضع القانوني للاحتلال والآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة.
وفي 31 ديسمبر 2022، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا يطلب من محكمة العدل الدولية إصدار رأي استشاري غير ملزم بشأن العواقب القانونية الناشئة عن سياسات إسرائيل وممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية”، ويتعلق ذلك بالاحتلال طويل الأمد للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967.
وفي فبراير 2024 دعا معظم المتحدثين في جلسات الاستماع إسرائيل إلى إنهاء الاحتلال الذي أعقب حرب 1967، وحذر البعض من أن الاحتلال المطول يشكل “خطرًا شديدًا” على الاستقرار في الشرق الأوسط وخارجه.
واتهم المسئولون الفلسطينيون الاحتلال الإسرائيلي بإدارة نظام “الاستعمار والفصل العنصري” وحثوا القضاة على الدعوة إلى إنهاء الاحتلال على الفور وبشكل كامل ودون قيد أو شرط.
الجدير بالذكر أن الدولة المصرية قد شاركت بمرافعة في تلك القضية للتأكيد على عدم شرعية ممارسات الاحتلال الإسرائيلي الممنهجة ضد حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، فاستقرار الشرق الأوسط لن يتحقق إلا بالاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة كما قدمت مصر أدلة على عدم قانونية الاحتلال للأراضي الفلسطينية، وركزت الدولة المصرية في مرافعتها على الدفع بالأسانيد والحجج القانونية تجاه أربعة موضوعات رئيسية،
أ- تأكيد اختصاص محكمة العدل الدولية بمنح الرأي الاستشاري في الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967،
ب – استبيان الآثار القانونية المترتبة عن الاحتلال الإسرائيلي الذي طال أمده بالمخالفة للقانون الدولي والمبادئ التي تحكم مشروعية استخدام القوة، فضلًا عن الآثار القانونية الخاصة بحظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، ومبدأ حق تقرير مصير الشعوب، وحظر الفصل العنصري، ج – دحض المبررات القانونية الخاصة باستخدام مبدأ الدفاع عن النفس، والضرورة الأمنية أو العسكرية وهو ما تم بيانه وتوضيحه.
د- ملخص للآثار القانونية الناشئة عن الممارسات الإسرائيلية
حيث بات من المستحيل تجاهل مسئولية الأطراف الدولية عن تغيير الوضع الراهن، فالاعتداءات الإسرائيلية ضد سكان قطاع غزة المحتل لا تزال مستمرة.
وكالعادة واشنطن دافعت عن حليفتها قائلة: إن إسرائيل لا ينبغي أن تكون ملزمة قانونًا بالانسحاب دون الأخذ في الاعتبار “احتياجاتها الأمنية” التي وصفتها بأنها حقيقية تمامًا.
و لم تشارك إسرائيل في الجلسات لكنها قدمت مذكرة خطية تصف فيها الأسئلة المطروحة على المحكمة بأنها تنطلق من مواقف مغرضة ومتحيزة ضدها.
قرارات المحكمة:
جاء رأي المحكمة في الإجابة عن سؤالين وهما:
(أ) ما العواقب القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، نتيجة لاحتلالها الطويل الأمد واستيطانها وضمها للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير الوضع القانوني للشعب الفلسطيني؟
التركيبة الديمغرافية، وطبيعة ومكانة مدينة القدس المقدسة، ومن اعتمادها للتشريعات والتدابير التمييزية ذات الصلة.
(ب) كيف تشير سياسات وممارسات إسرائيل؟
وما التبعات القانونية التي تترتب على كافة الدول والأمم المتحدة من هذا الوضع؟
وقد أجابت المحكمة في فتواها عن الأسئلة السابقة من خلال الاستنتاجات التالية: –
- إن استمرار وجود دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني.
- إن دولة إسرائيل ملزمة بإنهاء وجودها غير القانوني في الأراضي المحتلة وهي الأراضي الفلسطينية في أسرع وقت ممكن.
- إن دولة إسرائيل ملزمة بالوقف الفوري لجميع الأنشطة الاستيطانية الجديدة، وإجلاء جميع المستوطنين من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
- يقع على عاتق دولة إسرائيل واجب تقديم التعويضات عن الأضرار التي لحقت بكل ما هو طبيعي والأشخاص الاعتباريين المعنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
- جميع الدول ملزمة بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشئ عن الوجود غير القانوني لدولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة وعدم تقديم العون أو المساعدة في الحفاظ على الوضع الناشئ عن الوجود المستمر لدولة إسرائيل وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة.
- إن المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، ملزمة بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشئ عن الوجود غير القانوني لدولة إسرائيل في الأراضي المحتلة.
- ينبغي للأمم المتحدة، وخاصة الجمعية العامة، التي طلبت الرأي، ومجلس الأمن، النظر في الإجراءات الإضافية اللازمة لوضع حد في أسرع وقت ممكن للوجود غير القانوني لدولة إسرائيل في الأراضي المحتلة وهي الأراضي الفلسطينية.
ونصت المحكمة على ما يلي:
من وجهة نظر المحكمة أن إطالة أمد الاحتلال لا يغير وضعه القانوني بموجب القانون الدولي الإنساني، ويتكون الاحتلال من ممارسة الدولة لسيطرة فعلية على إقليم أجنبي، ولكي يمارس الاحتلال ممارسة فعالة يجب أن تكون متسقة في جميع الأوقات مع القواعد المتعلقة بحظر التهديد باستخدام القوة أو استخدامها، وكذلك حظر الاستيلاء على الأراضي الناتجة عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها وكذلك الحال مع الحق في تقرير المصير.
وفيما يتعلق بسياسة الاستيطان فقد أرجعت المحكمة ذلك الأمر إلى فتواها بشأن الآثار القانونية الناشئة عن الجدار العازل 9 يوليو 2004، وهو أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية والنظام المرتبط بها يمثل انتهاكًا للقانون الدولي وتلاحظ المحكمة بقلق بالغ التقارير التي تفيد بأن سياسة الاستيطان الإسرائيلية آخذة في التوسع.
وترى المحكمة فيما يتعلق بمسألة ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة أن السعي إلى اكتساب السيادة على أرض محتلة، وهو المتمثل في الممارسات التي تعتمدها إسرائيل في شرق القدس والضفة الغربية، يتعارض مع حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية ومبدأها الطبيعي المتمثل في عدم الاستيلاء على الأراضي بالقوة.
وترى بالنسبة للتمييز في المعاملة أن نظام القيود الشاملة الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة يشكل تمييزًا منهجيًا على أساس العرق أو الدين أو الأصل العرقي وهو ما يشكل انتهاكًا للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والفقرة 2 مادة 2 من العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمادة 2 من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري.
كما ترى المحكمة أنه نتيجة للسياسات والممارسات الإسرائيلية، التي امتدت لعقود من الزمن، فقد حرم الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير على مدى فترة طويلة، كما أن استمرار هذه السياسات والممارسات يطيل أمد الممارسات التي تقوض ممارسة هذا الحق في المستقبل، ولهذه الأسباب، ترى المحكمة أن سياسات إسرائيل وممارساتها غير القانونية تشكل انتهاكًا لالتزام إسرائيل باحترام حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.
ترى المحكمة أن إسرائيل لا يحق لها السيادة أو ممارسة صلاحيات سيادية في أي جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة بسبب احتلالها، ولا يمكن لمخاوف إسرائيل الأمنية أن تتغلب على مبدأ حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، وترى المحكمة أيضًا أنه لا يمكن استخدام الاحتلال بطريقة تترك السكان الخاضعين للاحتلال إلى أجل غير مسمى في حالة من التعليق وعدم اليقين، وحرمانهم من حقهم في تقرير المصير مع دمج أجزاء من أراضيهم في أراضي السلطة القائمة بالاحتلال.
واختتمت المحكمة رأيها بأنها قد وجدت المحكمة أن سياسات إسرائيل وممارساتها المشار إليها في السؤال (أ) تنتهك القانون الدولي، وإن استمرار هذه السياسات والممارسات هو عمل غير قانوني ذو طابع مستمر يستلزم مسئولية إسرائيل الدولية.
وبتحليل آراء المحكمة نرى أن إعلان المحكمة عن رأيها الاستشاري يأتي في وقت تزداد فيه الضغوط القانونية الدولية على إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، مع استمرارها بحرب الإبادة التي ترتكبها في قطاع غزة، وجرائمها المستمرة في الضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة.
كذلك وصفت المحكمة في كافة بحثها للجوانب المتعلقة بإبداء رأيها أن إسرائيل قوة احتلال وهو ما يمكن التمسك به بعد ذلك في بحث أي مسألة تطرق أمام الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، كون محكمة العدل الدولية هي أعلى سلطة دولية ووصفها لإسرائيل بقوة احتلال جاء منصفًا للقضية الفلسطينية وإقرارًا للحق والواقع.
الحق في تقرير المصير ثابت للشعب الفلسطيني في رأي المحكمة وهو ما بينته في رأيها الاستشاري، فالحق في تقرير المصير هو حق كل شعب مرتبط بإقليم ثابت في أن يحكم نفسه بنفسه وأن يقرر بإراداته مصيره الاقتصادي والاجتماعي ضد كل تدخل أجنبي أو اضطهاد عنصري يخالف المواثيق الدولية ولحق تقرير المصير وجه خارجي يكمن في ضرورة حصول الشعوب المستعمرة على استقلالها وذلك لتحقيق مصالحها شأنها شأن الشعوب المستقلة.
على الرغم من أن الآراء الاستشارية الصادرة عن محكمة العدل الدولية غير ملزمة، فإنها يمكن أن تحمل سلطة أخلاقية وقانونية كبيرة، ويمكن أن تصبح في نهاية المطاف جزءًا من أعراف القانون الدولي، وجدوى الرأي الاستشاري أنه يصدر عن أعلى محكمة دولية، وستحدد لنا القواعد القانونية، وستقر أن هذه القواعد تنطبق على الاحتلال القائم للأراضي الفلسطينية؛ مما يثبت أركان الحق الفلسطيني، ويشكل صفعة قوية لدولة الاحتلال على سلوكياتها تجاه الشعب الفلسطيني،
وكذلك تأكيدها على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وتعرض الشعب الفلسطيني للتمييز المخالف لقواعد القانون الدولي والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، وهو ما يعد جريمة دولية متمثلة في الاضطهاد وهو من الجرائم المنصوص عليها في ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، وبالتبعية يؤيد موقف فلسطين ضد قادة إسرائيل في قرار المحكمة الجنائية الدولية المنتظر صدوره.
وعند نظر المحكمة لسياسة الاستيطان فقد أرجعت المحكمة ذلك الأمر إلى فتواها بشأن الآثار القانونية الناشئة عن الجدار العازل 9 يوليو 2004 وهو أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية والنظام المرتبط بها يمثل انتهاكًا للقانون الدولي والجدير بالذكر أن هذه هي المرة الثانية التي تطلب فيها الجمعية العامة للأمم المتحدة من محكمة العدل الدولية، إصدار رأي استشاري يتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة؛ حيث طلبت الجمعية العامة فتوى قانونية بشأن الإجراءات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة في ديسمبر 2003 فيما يتعلق ببناء جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وبعد بضعة أشهر، في يوليو 2004، وجدت المحكمة أن بناء الجدار مخالف للقانون الدولي ويجب أن يتوقف.
ويجب الإشارة أيضًا إلى أن الدعوى والنزاع أمام محكمة العدل الدولية هو نزاع قانوني دولي وليس نزاعًا سياسيًا فقط، كون النزاع السياسي يندرج تحت اختصاصات مجلس الأمن وكان للمحكمة رأي في ذلك الشأن؛ حيث إن أي نزاع يكون له جوانب متعددة، فقد يثار الجانب القانوني فضلًا عن الجانب السياسي ومن غير المعقول أن ترفض المحكمة التصدي لبحث النزاع لمجرد أنه يثير مشاكل سياسية فقط، والمحكمة عند إصدارها للحكم لا تعتمد على أي اعتبارات سياسية فهي تعتمد على أحكام القانون وحده عندما تصدر قرارات أو أحكام أو آراء استشارية، وهو ما أكدته المحكمة في فقرتها الأولى قبل البدء في تقديم رأيها الاستشاري.
وأخيرًا فاحترام محكمة العدل الدولية ومهامها أمر أساسي لا غنى عنه لسيادة القانون وتغليب العقل والمنطق في الشئون الدولية.